سعيد الحاج - الجزيرة نت
مع إقرار البرلمان لتشكيلة وبرنامج الحكومة الثانية والستين في تاريخ الجمهورية التركية برئاسة البروفيسور أحمد داود أوغلو، ومن قبل ذلك انتخاب أردوغان لرئاسة الجمهورية، تكون تركيا قد ولجت مرحلة جديدة ومختلفة تماما في تاريخها المعاصر من حيث الشخوص والمفردات والتحديات.
مرحلة تفرض على طاولة البحث والتحليل أسئلتها الخاصة بها على الدولة والحزب الحاكم والمعارضة، والتي ستساهم إجاباتها بلا شك في صياغة وجهة ومستقبل ومكانة تركيا في السنوات، وربما العقود القليلة المقبلة.
سؤال الاستمرار والاستقرار
ويبدو السؤال الأول والأكثر إلحاحا على الحكومة والحزب الحاكم هو مصيرهما بعد انتقال أردوغان إلى قصر الرئاسة. ليس فقط لأنه المؤسس والقائد الفعلي لمسيرتهما وإنجازاتهما على مدى 12 عاما، ولا لأن هذه الفترة الزمنية قصيرة جدا لبناء نهضة مستقرة ومستدامة، ولكن بسبب تجربتين ماثلتين في تركيا المعاصرة لحزب الوطن الأم وحزب الطريق القويم اللذين اندثرا أو كادا بعد انتقال زعيميهما الرئيسين، الراحل تورغوت أوزال والأسبق سليمان دميريل، إلى سدة الرئاسة.
لذلك تحديدا كان الإصرار على اختيار خليفة أردوغان في الحزب والحكومة قبل تسلم الأخير مهام الرئاسة رسميا، ولهذا أيضا -فيما يبدو- تمت تسمية داود أوغلو الأقرب له مكانة وسياسة. وبناء على ما تقدم، لم يلحظ المراقبون كبير تغيير في برنامج الحكومة الذي عرضه داود أوغلو على مجلس الشعب، لا في المضمون ولا في الأسلوب.
ففي المضمون، حرص رئيس الوزراء الجديد على التأكيد أن حكومته امتداد لسابقاتها من حكومات العدالة والتنمية، وتسير على نفس النهج والأهداف والمشاريع، سعيا نحو "تركيا القوية"، واضعا قضايا العملية السلمية مع الأكراد، والحرب على التنظيم الموازي في الدولة، وصياغة دستور جديد على رأس أولويات الحكومة في الشأن الداخلي، كما كانت في عهد سابقتها. أما فيما خص الأسلوب، فقد فاجأ وزير الخارجية السابق، والمشهور بدماثته وهدوئه، الأوساط السياسية بتبني خطاب قاس تجاه بعض مواقف المعارضة.
فإذا ما أضفنا تأكيد أردوغان وداود أوغلو على العمل "المتناغم" بينهما -كرئاسة وحكومة- في قيادة تركيا في المرحلة المقبلة، يمكننا أن نلحظ أننا إزاء مرحلة العدالة والتنمية "بعد" أردوغان، لكن ليس بالضرورة "بدونه".
الفرصة التاريخية للسلام
بعد أكثر من أربعين عاما من الصراع الدامي الذي أودى بحياة أكثر من ثلاثين ألف شخص، وكلف الخزينة التركية مئات المليارات من الدولارات، بدأت الحكومة التركية في السنوات الأخيرة "عملية السلام" مع حزب العمال الكردستاني، كأحد شروط السلم المجتمعي الذي تحتاجه تركيا في مسيرتها النهضوية القادمة.
لكن هذا الملف الذي تضعه الحكومة الجديدة على رأس أولوياتها وتعتبره مفتاح وحدة تركيا أرضا وشعبا، ليس طريقا مفروشة بالورود، بل هو محاط برفض الكثير من التيارات السياسية له باعتباره تنازلا أمام الإرهاب، وتململ الجيش الذي كان صاحب القرار في هذا الملف سابقا، وخروج بعض المجموعات الكردية عن قرار قيادتها بإلقاء السلاح، وتهديد قيادات أخرى بإجهاض العملية إن لم تحصل على ما وعدت به من إصلاحات دستورية وقانونية.
أكثر من ذلك، فقد أدت الرمال المتحركة في العراق وظهور "تنظيم الدولة" القوي هناك إلى خلط الأوراق فجأة، بحيث تحول حزب العمال الكردستاني من "تنظيم إرهابي" يجري التفاوض معه إلى حليف محتمل في الحرب ضد "داعش"، الأمر الذي قد يعني كسر كثير من القوالب الجامدة منذ عقود في السياسة التركية، داخليا وخارجيا.
كل هذه الاعتبارات تجعل من إصرار الحكومة على عملية السلام بنفس الزخم والمعايير ضربا من المقامرة، في بيئة متغيرة تجعل العملية برمتها غير مأمونة العواقب، الأمر الذي دفع الحزب الحاكم مؤخرا لاستصدار قانون "السلم المجتمعي" الذي يحصّن من يتعاملون مع هذا الملف من المساءلة القانونية مستقبلا.
الدستور الجديد
رغم الإنجازات الكبيرة لتركيا في مضمار الحريات وحقوق الإنسان، وكل ما أقدمت عليه من تعديلات دستورية وإصلاحات ديمقراطية، فإنها ما زالت مرغمة على التعامل وفق دستور عام 1982 الذي صاغه القادة العسكريون بعد انقلابهم بعامين، وهو ما يكبل الحكومات التركية المتعاقبة في غير ملف، بعد فشل مجلس الشعب في التوافق على صياغة دستور جديد.
وفي ظل غياب الإجماع السياسي، يحتاج الحزب الحاكم تحت قيادة داود أوغلو في سبيل إنجاز الدستور الجديد إلى الحصول على نسبة ثلثي أعضاء مجلس الشعب في الانتخابات البرلمانية القادمة، وهو حلم أكثر من كونه هدفا سياسيا، أو إلى الأغلبية المطلقة لطرح التغييرات الدستورية على استفتاء شعبي وهي مغامرة سياسية، أو إلى التحالف مع أحزاب سياسية أخرى (تحديدا حزب الشعب الديمقراطي الكردي) لتمرير الإصلاحات المطلوبة في البرلمان.
وفي كل الأحوال، يحتاج العدالة والتنمية إلى نجاح آخر بل أكبر في الانتخابات القادمة لإنجاز ما يريد من تعديلات يراها ضرورية لمسيرة تركيا، يقع في صلبها تغيير النظام إلى رئاسي أو شبه رئاسي، مشروع الحزب الحاكم منذ سنوات لتحقيق أهداف "تركيا الكبيرة" كما يتصورها الحزب، ومنع أي خلاف بين الرئاسة والوزارة بعد الاستحقاق الانتخابي القادم في حال لم يحصل الحزب الحاكم على نسبة تؤهله لتشكيل الحكومة بمفرده.
المعارضة وكشف الحساب
بيد أن أسئلة المرحلة الجديدة تتخطى الحزب الحاكم لتشمل ندّه ومكمّله في العملية السياسية، حيث لا تبدو المعارضة السياسية اليوم في أحسن أحوالها. فقد خسرت -في مواجهة العدالة والتنمية- عشر عمليات انتخاب متتالية أدت إلى ارتفاع الأصوات المعارضة في الحزبين الرئيسين للمعارضة، ووصولها إلى وسائل الإعلام.
ففي حزب الشعب الجمهوري، فشل كمال كليتشدار أوغلو، الذي أتى بعد فضيحة جنسية لسابقه ويفتقد -وفق كثيرين- للرؤية والكاريزما، في انتشال حزبه (الكمالي العلماني) من خساراته المتلاحقة، فجنح به نحو اليمين المحافظ مرشحا شخصيات محافظة لرئاسة البلدية ثم رئاسة الجمهورية، وبقرار فوقي لم يستند إلى حوار داخلي.
أدت الخسارة في الاثنتين إلى إذكاء الخلافات الداخلية، فطلب قادة ونواب حاليون إضافة إلى نواب سابقين عن الحزب، من الرئيس، الاستقالة أو الدعوة لهيئة عمومية طارئة تحسم الخلاف، ورضخ الأخير للأمر. ورغم تجديد الهيئة لكليتشدار أوغلو، فإن حصول منافسه على أكثر من ثلث الأصوات يشي بوجود شرخ كبير يثير شكوكا حول قدرة "الشعب الجمهوري" على الاستمرار في قيادة المعارضة مستقبلا، في ظل ما يعانيه من نزاعات تحمل صفة أزمة الهوية.
أما في جبهة الحركة القومية، فيبدو زعيمها التاريخي دولت بهجلي في أزمة كبيرة، فثلاثي الهزيمة والمرض وفقدان أكثر من مليون ونصف مليون ناخب لصالح العدالة والتنمية في الانتخابات الأخيرة يعطي إشارات واضحة على تغييرات وشيكة، ليست بالضرورة طوعية وتلقائية.
السياسة الخارجية
وليس سؤال السياسة التركية الخارجية بأقل أهمية أو إلحاحا من نظيره الداخلي، ليس فقط لأن رئيس الوزراء الحالي هو مهندس السياسة الخارجية التركية ووزيرها السابق، ولا لمجرد أنه صاحب نظريات "العثمانية الجديدة" والعمق الإستراتيجي" و"تصفير المشاكل"، ولكن أيضا لأن التحولات المطردة في الإقليم وضعت تركيا في قلبها، مختارة أو مضطرة.
ليس من المتوقع حدوث تغير جذري في السياسة الخارجية لتركيا في المدى المنظور، غير أن شيئا من المراجعة وتغيير لغة الخطاب والمرونة تبدو أمورا لا مناص منها في الفترة القادمة، في ضوء اعتراف داود أوغلو نفسه أن تركيا عانت من بعض الإخفاقات مؤخرا. مما يعطي عمقا وأهمية لتضمن برنامج حكومته كلاما على "سياسة خارجية متبصرة، فعالة ومتعددة الأبعاد"، تتواءم مع "الظروف الجديدة الناشئة"، وتصبح من خلالها تركيا "دولة رائدة" في الإقليم والعالم.
بيد أن التغيير الأبرز يبدو في العراق، تحت وطأة رماله المتحركة وسيف "تنظيم الدولة" الذي يقاتل الأكراد، ويزحف نحو الحدود التركية، ويحتجز طاقم القنصلية التركية في الموصل منذ أشهر. حيث تتفاعل هذه التطورات مع البراغماتية التركية لتنتج -حتى الآن- صمتا تركيا خجولا إزاء نية إقليم شمال العراق إعلان دولته المستقلة، وبوادر تعاون وتحالف مع العدو التقليدي (حزب العمال الكردستاني) في وجه العدو الحالي ("داعش")، حتى قبل الاطمئنان على نجاح واستقرار عملية السلام.
تبدو هذه الأسئلة، ضمن عشرات العناوين الأخرى، الأهم والأخطر التي تحتاج الحكومة الجديدة للإجابة عليها، بأقصر وقت وأقل خسائر، حتى تستمر -على الأقل في المرحلة الانتقالية حتى الانتخابات البرلمانية- على طريق "الإحياء الحضاري الجديد" وأهداف 2023، الذي يريده الحزب الحاكم عام إعلان الجمهورية الثانية، في إشارة ضمنية إلى أفول شمس جمهورية أتاتورك، بكل ما تتضمنه من شخصيات ومبادئ وانحيازات، بعد مائة عام كاملة من إنشائها.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس