طه كلينتش - يني شفق

ألقيتُ ذات يومٍ محاضرةً بعنوان "الشرق الأوسط والعالم الإسلامي" في إحدى المناطق الكبرى في إسطنبول ، أمام جمهور غفير ملأ قاعة واسعة. وكان من بين الحاضرين عدد من ممثلي وسائل الإعلام المحلية لتغطية الحدث.

وفي اليوم التالي، أرسلوا لي رابط الخبر الذي نُشر حول المحاضرة، فإذا به يتصدره عنوان عريض يقول: "طه كلينتش: العرب طعنونا في ظهرنا" قرأته مرة أخرى، نعم، هذا ما كُتب بالضبط. أصابني ذهول شديد، وكأنني تلقيتَ ضربة على رأسي. وانتشر على نطاق واسع ونال عددًا كبيرًا من المشاهدات.

وبالطبع لم أذكر مثل هذا الكلام على هذا النحو أبدًا. كل ما قلته حرفيًا كان: "يقول بعضهم إن العرب طعنونا في ظهرنا" ثم شرحت كيف أن هذا الادعاء قد صيغ خصيصًا من قبل من يسعون إلى تفكيك روابط الأخوة بيننا وبين الشعوب العربية، ومضيت في حديثي. غير أن العنوان المنشور قد جاء على نقيض تام من السياق. ويبدو أن من كتب الخبر لم يكن يملك لا اهتمامًا حقيقيًا ولا إلمامًا كافيًا، فضلًا عن احتمال أن تكون الغاية هي "تحقيق عدد أكبر من المشاهدات".

وتكرر المشهد ذاته عقب المقال الذي نُشر لي في هذا العامود من الصحيفة يوم الأربعاء 9 أبريل/نيسان، والذي تناولت فيه قضية غزة. إذ نقلت فيه آراء وتعليقات متعدّدة بشأن النقاشات حول تهجير أهل غزة، وختمت المقال بهذه الرسالة الواضحة: "الحل هو أن تقوم قوة إسلامية حازمة لا يُستهان بها، تكون موضع احترام العالم الإسلامي، تضرب على الطاولة بقبضة من حديد، وتتحرك بكل ما أوتيت من عزم وتتحمل كل المخاطر. كما حدث دائمًا في الأزمات الكبرى. فالحل الوحيد لمواجهة الاحتلال هو القوة والردع. وبدونهما كل الكلام عبث. فالتاريخ لم يشهد أزمة إنسانية حُلّت بالحوار وحده."

كما أنني أوضحت في مقال سابق بعنوان "التهجير" نُشر في هذا الركن بتاريخ 5 شباط 2025، أن خطط إخلاء غزة تمثل الهدف الريسي للولايات المتحدة وإسرائيل، وبيّنت بالأدلة لماذا لا يمكن لهذه المخططات أن تنجح. كما أكدت مرارا في مقالات أخرى أن إسرائيل لا تفي بوعودها، وأنه لا يمكن الوثوق بتعهدات الصهاينة، وأن الفلسطينيين مستهدفون في كل مكان، وأن ما يُطرح تحت مسمى "حل الدولتين" ما هو إلا محض خداع وإضاعة للوقت.

ورغم كل ذلك، لم يُكلّف كثيرون أنفسهم عناء قراءة المقال أصلًا، بل تم تداول اقتباسات مجتزأة – كنت قد أوردتها كنقل عن أطراف أخرى – على وسائل التواصل الاجتماعي. ومن عجائب الأمر أن الغالبية العظمى ممّن تفاعلوا كانوا يربطون القضية بالسياسة الداخلية مباشرة، ويستغلون النقد لترسيخ مواقفهم الشخصية. فاستحال المقال ذريعة يفرّغ فيها كثيرون أوجاعهم السياسية. بل إن هناك من تمادى فقال إن "جهات عليا" هي من أملت عليّ كتابة هذا المقال، والحقيقة أن هذا ما أضحكني أكثر من أي شيء آخر.

وبلغت حملة التشهير حدًّا مجنونًا، حتى أنهم قدّموا شكاوى لإدارة السكن الطلابي الحكومي في تكيرداغ، حيث ألقيت محاضرة ليلةَ نشر المقال، وقالوا مستنكرين: "أتستضيفون شخصًا يدعو إلى تهجير أهل غزة إلى إندونيسيا؟

وقد أعادت إليّ هذه التجربة العجيبة مصداقية تلك العبارة القديمة: "قل ما شئت، فإن ما يُفهم هو بقدر ما يستوعبه المتلقّي."

أنا بطبعي لا أحب الجدال والنقاشات العقيمة. ولهذا لا أستخدم وسائل التواصل الاجتماعي. لدي الكثير المهام لنجزها، والعديد من الكتب يجب أن أكتبها؛ حاسوبي مليء بمشاريع جديدة لم أبدأ بها بعد. بالإضافة إلى ذلك، أعتبر هذا العمود الذي يتيح لي مخاطبة الجمهور مرتين في الأسبوع "أمانة"، وأحاول أن أملأه بهذا الوعي. القدرة على التأثير في أفكار الناس هي فرصة لها نتائج إيجابية وسلبية في الدنيا والآخرة. وأسعى جاهدًا لعدم نسيان هذه الحقيقة أبدًا.

ورغم كل الحذر والحرص، فإن اندلاع هذه الزوابع حول موضوع حسبت أنه كان "واضحًا بما يكفي"، سيدفعني بلا شك إلى مزيد من الحذر والدقة لاحقًا. ولكن لا سبيل لإقناع العقول التي أقسمت ألا تفهم، ولا تلك المبرمجة على الأحكام المسبقة. مشكلتنا الوحيدة أن أعداد هذه الفئة باتت كبيرة جدًا. وهذه أيضًا من ابتلاءات الكتابة.

والحق أنني لم أكن أرغب في كتابة مثل هذا "التوضيح"، بل أجد من المهين أن أضطر للدفاع عن نفسي أمام فئة من الناس لا رغبة لي أصلًا في مخاطبتهم. لكنني لم أستطع ردّ طلب بعض الأصدقاء الأعزاء.

وفي خضم هذه الاضطرابات لم أكن أرغب في إضاعة الوقت في هذه المهاترات العقيمة، ولا في إزعاج القراء الأعزاء. فلتُعذروني هذه المرة.

عن الكاتب

طه كلينتش

كاتب تركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس