د. سعيد الحاج - مركز الجزيرة للدراسات
مقدمة
تعتبر القضية الكردية أقدم وأصعب المشاكل التركية منذ قيام الجمهورية، بل من قبل إنشائها؛ حيث قامت ضد الدولة العثمانية في أواخر عهدها عشرات الثورات والانتفاضات الكردية أسوة بكثير من المناطق الأخرى مثل الدول العربية والبلقان. لاحقًا، حَرَمت معاهدة لوزان الأكرادَ من تأسيس دولة قومية أو وطنية مثل نظرائهم الأتراك أو العرب، رغم امتلاكهم كل عناصر قيامها، مثل: الأرض والسكان والمصادر الطبيعية والوحدة الثقافية.
وفي 1924، أعلن مصطفى كمال أتاتورك تأسيس الجمهورية التركية على أنقاض الدولة العثمانية وفق ستة مبادئ عامة على رأسها القومية التركية والدولنة (statism). ويعتبر كثير من المؤرخين هذا المبدأ الأخير "عقدة التأسيس" بالنسبة للجمهورية التركية التي استمرت معها حتى اليوم، والتي ركَّزت على مهدِّدات الدولة والنسيج المجتمعي ووضعت على رأس هذه المهددات التنوع العِرقي والدِّيني، الذي اعتُبر ضعفًا وعنوان تشتت لا تملك تركيا الناشئة حديثًا رفاهية تحمل تبعاته. ولذلك، فقد أنكر وجود أي أعراق أخرى غير التركية واعتبر كل مواطن "تركيًّا" حتى ولو كان من قومية أخرى. لقد عنى ذلك في حينها تجاهلًا للأكراد والعرب والأرمن والشركس وغيرهم من القوميات، وإنكارًا لوجود أي مشكلة بخصوصهم. لكن الأكراد الذين يشكِّلون، وفق بعض الإحصاءات غير الرسمية، 9-17% من الشعب التركي، قاموا بعدة ثورات لنيْل حقوقهم الثقافية والاجتماعية والسياسية، أهمها: ثورة الشيخ سعيد بيران عام 1925، وثورة درسيم عامي 1937 و1938.
حزب العمال الكردستاني
في 1978، كان تأسيس حزب العمال الكردستاني نقلة نوعية في النضال الكردي في تركيا، لجهة التأثير ولجهة المرجعية الفكرية، إذ انعكس التأثر بالمدِّ اليساري في مختلف دول العالم على أيديولوجيا الحزب المؤسَّس حديثًا على مبادئ القومية الكردية واليسارية الماركسية(6). انتقل الحزب للعمل المسلح في مواجهة الدولة التركية مطالِبًا بالاستقلال والحكم الذاتي عام 1984، وهو صراع كلَّف تركيا خلال حوالي ثلاثين عامًا أكثر من 40 ألف ضحية و300 إلى 500 مليار دولار كخسائر مادية.
يتميز حزب العمال الكردستاني ببنية تنظيمية هرمية يتزعمها عبد الله أوجلان، يليه في السُّلَّم القيادي نزولًا المجلس الرئاسي، ثم اللجنة المركزية، ثم منظومة إقليمية لها فروع في عدة دول، خاصة تلك الأربع ذات الأقليات الكردية (إيران والعراق وسوريا إلى جانب تركيا)، ورغم ذلك يقوده أوجلان بمركزية شديدة؛ حيث أثبت أكثر من مرة أنه صاحب القرار الأول والأخير في الحزب حتى وهو وراء القضبان، وذلك لعدة أسباب، على رأسها: تاريخه "النضالي"، والكاريزما العالية التي يتمتع بها، وقدراته القيادية والتنظيرية، إضافة إلى اعتقاله عام 1999 بما يمثِّله ذلك من مشروعية التضحية.
لقد كان الإنكار الرسمي على مدى عشرات السنوات لوجود مشكلة كردية من الأساس إضافة إلى إهمال منطقة جنوب شرق تركيا اقتصاديًّا وتنمويًّا عوامل محفزة للشباب الكردي لدعم توجهات الحزب والانخراط في صفوفه، بينما أسهمت العمليات العسكرية التي قادها الأخير وضعف سلطة الدولة في المناطق الكردية في إبقائها دون تنمية وتطوير وتقليص الخدمات المقدمة لها.
مع تفاقم الأوضاع وزيادة الخسائر البشرية والمادية، حاول بعض القادة الأتراك، ممن حظوا بشعبية معقولة ورؤية استراتيجية، إثناء الحزب عن العمل المسلح عبر الدخول معه في مفاوضات سياسية لتحقيق مطالبه، لكن أوزال توفي قبل إتمام المشروع ولم يلبث أربكان في الحكم إلا بضعة شهور فقط، لتستمر دوامة المواجهة العسكرية، وتبقى رؤية الدولة الأمنية سيدة الموقف.
مع العدالة والتنمية
تسلَّم حزب العدالة والتنمية مقاليد الحكم في 2002 بعد استشرافه لثلاثة متغيرات رئيسة في تركيا والمنطقة، هي القبض على أوجلان عام 1999 إثر عملية معقدة أسهمت فيها المخابرات المركزية الأميركية، والأزمات الاقتصادية التركية التي دفعت بالبلاد إلى حافة الإفلاس، ومتطلبات النظام العالمي الجديد بعد سقوط الاتحاد السوفيتي السابق، وهو ما أعطاه -إلى جانب عوامل أخرى- فرصة تاريخية لحل الكثير من مشاكل البلاد.
وكما كانت سياسته في معظم الملفات الأخرى، لم يستعجل العدالة والتنمية طرح أية مبادرة سياسية خاصة بالقضية الكردية، بل عمل في سنواته الأولى على تنمية الاقتصاد التركي التي أدَّت إلى استقرار سياسي وأثمرت حاضنة شعبية شجَّعته لاحقًا على فتح الكثير من الملفات الشائكة (منها المشكلة الكردية) تحت عنوان التوافق مع معايير الانضمام للاتحاد الأوروبي. وقد ساعده على ذلك خفوت حدَّة العمليات العسكرية التي قام بها الحزب بعد اعتقال أوجلان، إضافة إلى المراجعات التي قام بها الحزب وأوجلان شخصيًّا لنهج الحزب السياسي ابتداءً من عام 2005، بالتخلي عن فكرة دولة قومية للأكراد نحو فكرة الحكم الذاتي الديمقراطي والكونفيدرالية الديمقراطية.
وتقوم مقاربة العدالة والتنمية على مبادئ رئيسة يمكن تلخيصها بالآتي:
- نهضة تركيا وتقدمها مرهونان بحل القضية الكردية التي تستنزف ثروتها البشرية ومواردها وتفتح باب التدخلات الخارجية.
- الاعتراف بالمظلومية التاريخية للأكراد في تركيا والمنطقة.
- اعتبار القضية الكردية شأنًا تركيًّا أو مشكلة داخلية وليس قضية إقليمية أو حربًا بين أعداء، ولذلك تفضِّل الحكومة التركية استعمال مصطلح "الحل" أو "التسوية" وليس "السلام" لوصف العملية السياسية الجارية.
- حل القضية الكردية سياسيًّا ضمن استراتيجية متكاملة، وليس من خلال رؤية أمنية-عسكرية.
- على الحزب أن يبادر إلى إلقاء السلاح وترك العمل العسكري.
- على الدولة أن تعمل على الاعتراف بالحقوق السياسية والاجتماعية والثقافية للأكراد.
- يحتاج الحل السياسي لإنضاج العوامل المساعدة على نجاحه.
- ينبغي للحل أن يكون متدرجًا لتجاوز الأزمات المزمنة والعراقيل الكثيرة، وعلى رأسها الرفض الشعبي.
وقبل أية مفاوضات سياسية، عمل العدالة والتنمية على خطوات بسيطة ومتدرجة في مجال الحقوق الثقافية والاجتماعية للأكراد، ثم استمر بها وبنى عليها بعد بدء المحادثات، كان أهمها:
- السماح بتنظيم دورات لتعليم اللغات غير التركية (الكردية تحديدًا) عام 2003.
- افتتاح أقسام لتعليم تلك اللغات في الجامعات التركية.
- إقرار حق التأليف والنشر باللغة الكردية.
- افتتاح قناة تليفزيونية رسمية ناطقة باللغة الكردية عام 2009.
- السماح بتعليم الكردية كمادة غير إلزامية في المدارس عام 2012.
- السماح للمتهمين الأكراد باستخدام لغتهم الأم في الدفاع عن أنفسهم أمام القضاء، في يناير/كانون الثاني 2013.
- حزمة الإصلاحات الديمقراطية التي أعلنها أردوغان في سبتمبر/أيلول عام 2013، والتي تضمنت السماح بفتح مدارس ومعاهد خاصة تدرِّس بلغات غير التركية (الكردية خاصة)، والدعاية السياسية بلغات ولهجات أخرى، وتغيير أسماء بعض القرى والبلدات لتعود لأسمائها القديمة، وزيادة عقوبات جرائم العنصرية والتمييز على أساس اللغة والعِرق والقومية، وصولًا إلى تغيير "القَسَم الطلابي" الذي كان يُتلى صباحًا في كل المدارس التركية لأنه يشير إلى الطالب "التركي" حصرًا.
- اتباع سياسة تنمية جنوب شرق البلاد ذي الأغلبية الكردية، من خلال عشرات المشاريع الاقتصادية والتنموية، من طرق ومستشفيات ومطارات وجامعات ومرافق سياحية.
إقرار قانون "إنهاء الإرهاب وتمتين الوحدة المجتمعية"، الذي يفوِّض الحكومة باتخاذ الإجراءات الضرورية للعملية السياسية، ويُزيل المسؤولية الجنائية عن المشاركين فيها، ويسمح بعودة من يُلقي السلاح لبيته ويضمن مشاركته في الحياة المجتمعية.
أمَّا المفاوضات السياسية فقد بدأت خارج البلاد بعيدًا عن الأضواء وعن طريق جهاز الاستخبارات وليس الحكومة، بيد أن كشف أمر اللقاءات السرية التي كانت تتم في العاصمة النرويجية أدى إلى استدعاء رئيس جهاز الاستخبارات في العاشر من فبراير/شباط 2010 لأخذ إفادته بتهمة التخابر مع "منظمة إرهابية"، وهو تطور كاد أن يطيح بكل العملية السياسية، لولا تدخل الحكومة السريع والحاسم. استمرت المحادثات تحت عنوان "مشروع الوحدة والأُخوَّة" وتُوِّجت برسالة من عبد الله أوجلان تُلِيَت على المحتفلين بعيد النيروز في 21 مارس/آذار 2013، دعت إلى إلقاء السلاح وحلِّ القضية الكردية بالطرق السلمية، وهي ما اعتُبرت في حينها انعطافة تاريخية فارقة في تاريخ الحزب والقضية الكردية.
كان الاتفاق غير المعلَن -والذي تم تسريبه إلى وسائل الإعلام- يقضي بالتالي:
أولًا: إلقاء مقاتلي الحزب السلاح ومغادرة تركيا نحو جبال قنديل في العراق على دفعات.
ثانيًا: دمج من لم يشتركوا في عمليات تفجير وقتل في المجتمع.
ثالثًا: إقرار الحكومة لإصلاحات دستورية وقانونية تتعلق بحقوق الأكراد.
رابعًا: تشكيل "لجنة حكماء" من الشخصيات العامة والفنانين وأصحاب الرأي للترويج لفكرة الحل السياسي.
خامسًا: تشكيل لجنة من حزب الشعوب الديمقراطي الذي يعتبر الذراع السياسية للعمال الكردستاني ليكون صلة الوصل بين الحكومة وأوجلان، لتبادل الآراء والأفكار في سبيل الوصول إلى خطة طريق واضحة للعملية السياسية، وقد بدأت زيارات هذا الوفد لأوجلان في يناير/كانون الثاني 2013.
وقد غادر فعلًا المئات من مسلحي العمال الكردستاني الأراضي التركية بعد إلقائهم للسلاح، كما أصدرت الحكومة التركية "حزمة الإصلاحات الديمقراطية" المشار إليها سابقًا، لكن الأمور لم تَسِرْ كما خُطِّط لها. فقد أسهمت عدة تطورات محلية وإقليمية في عرقلة المساعي السياسية بين الحكومة والحزب؛ حيث خلطت أحداث "جزي بارك" في يونيو/حزيران 2013 الأوراق في الداخل التركي، وأعلن الاتحاد الوطني الكردستاني، في يناير/كانون الثاني 2014، منطقة حكم ذاتي كردي في الشمال السوري المحاذي للحدود التركية، كما رفعت معركة عين العرب/كوباني من الأسهم الكردية في المعادلة الأميركية لمواجهة تنظيم الدولة بسبب حاجتها للاعبين محليين على الأرض في مواجهته؛ وهو ما دفعها للتعامل المباشر مع المجموعات الكردية وإلقاء السلاح والدعم لها رغم الاعتراض التركي.
إن الخشية التركية لها علاقة بتجربتها السابقة مع حرب الخليج الثانية ثم الاحتلال الأميركي للعراق الذي نتج عنه إقليم كردستان العراق والذي يمكن أن يتحول إلى دولة مستقلة، بينما ترى أنقرة أن أي مكسب سياسي أو استراتيجي للأكراد في سوريا وخصوصًا ما له علاقة بالحكم الذاتي سيقوِّي من أوراق قوة حزب العمال وقد يهدِّد العملية السياسية برمتها، وهو ما بدأت إرهاصاته بالتمظهر؛ فقد دعا الأكراد إلى وجود طرف مراقب في عملية التسوية مع الحكومة وطالبوا بأن تكون واشنطن هي هذه "العين الثالثة"، بينما ضغطوا على الحكومة التركية للانخراط الفاعل في معركة عين العرب إلى جانب وحدات الحماية الكردية من خلال مظاهرات وأعمال شغب سقط ضحيتها 34 شخصًا.
شهدت هذه الفترة حالة جمود في عملية التفاوض واللقاءات مع أوجلان وحزب الشعوب الديمقراطي. لكن ثبات الموقف التركي من معركة عين العرب والأزمة السورية بشكل عام، واستطالة أمد المعركة في كلٍّ من سوريا والعراق، وتراجع الولايات المتحدة عن دعم المجموعات الكردية، وفشل المظاهرات في ثني الحكومة التركية عن مواقفها، كل ذلك أدى إلى عودة القناعة بأن الحوار السياسي المباشر هو السبيل الوحيد لحل القضية الكردية، وهو ما أعاد الحيوية للقاءات الثنائية والزيارات إلى جزيرة إيمرالي حيث يُحتَجَز أوجلان. بعد سلسلة من اللقاءات، عُقد مؤتمر صحافي مشترك بين نائب رئيس الوزراء المسؤول عن عملية التسوية، يالتشين أكدوغان، ووفد حزب الشعوب الديمقراطي، تضمَّن دعوة مبدئية من أوجلان لعقد مؤتمر عام لحزب العمال الكردستاني يعلن فيه إلقاء السلاح بشكل نهائي وترك العمل العسكري كمنهج لنيل الحقوق الكردية، والالتزام التام بالعملية السياسية مع الحكومة، وهو ما تم التأكيد عليه في رسالة أوجلان الأخيرة التي قُرئت في احتفالات النيروز لعام 2015 أيضًا، بعد سنتين كاملتين من سابقتها.
وقد تضمنت رسالة أوجلان التأكيد على "النقاط العشر" المشار إليها في المؤتمر الصحافي المذكور، كإطار مبدئي أو خارطة طريق للمسار التفاوضي، وهي:
الأولى: الانتقال إلى مرحلة المفاوضات المباشرة: وتشمل تشكيل وفد للتفاوض وهيئة رقابية تتابع المفاوضات.
الثانية: انسحاب مسلحي الحزب إلى خارج الحدود التركية، واستدامة حالة الهدوء ووقف العمليات العسكرية.
الثالثة: إلغاء قانون الأحزاب السياسية وتأمين دعم مالي متساو لكل الأحزاب، وإلغاء حاجز 10% لدخول البرلمان.
الرابعة: إلغاء قانون الإرهاب وإقرار تعديلات في قانون المحاكم الجنائية.
الخامسة: تعديلات دستورية: تضمين وضع الأكراد في الدستور وإقرار حق التعليم باللغة الأم، وتضمين الدستور الحقوق الثقافية، وتعديلات بخصوص حرية الفكر والتعبير.
السادسة: مطالب مجتمعية: تتناول مشاكل المرأة والشباب والبيئة، وإنشاء "مجالس المرأة".
السابعة: العفو العام: إخلاء سبيل المحكومين في جرائم الإرهاب مع التقدم في العملية السياسية، واتخاذ الإجراءات الضرورية لدمجهم في المجتمع.
الثامنة: إدارة محلية قوية: قبول شرط الإدارات المحلية الأوروبية بالحكم الذاتي، وتأسيس مجالس مناطقية في عموم تركيا، وزيادة صلاحيات الإدارات المحلية.
التاسعة: إلقاء السلاح: بعد كل العناوين المتداولة ضمن عملية التفاوض، إيقاف الحزب عملياته العسكرية وتطبيق مرحلة إلقاء السلاح.
العاشرة: الآتون من الجبال: اتخاذ كافة التدابير الاقتصادية والاجتماعية المتعلقة بالنازلين من الجبال من المقاتلين مع عملية ترك السلاح.
موجة التصعيد الحالية
لقد كانت عودة اللقاءات والاجتماعات ثم المؤتمر الصحافي المشترك، تعبيرًا عن قناعة متبادلة بالعملية السياسية، حلًّا وحيدًا للقضية الكردية. ولذلك، فقد تواترت التصريحات المتفائلة من الطرفين حول التطورات الأخيرة. وإلى جانب التصريحات، تم اتخاذ خطوات عملية تبني على الاتفاق الأخير. فقد نُقل إلى سجن جزيرة إيمرالي خمسة من السجناء الأكراد ليشاركوا أوجلان المكان ويكونوا بمثابة "سكرتاريا" له في المفاوضات المتعلقة بعملية التسوية. بينما أُعلن عن تشكيل "لجنة متابعة" للعملية تتكون من 5 إلى 6 أشخاص يعتبرون طرفًا ثالثًا لمتابعة مدى تنفيذ الخطوات المطلوبة من الطرفين وفق العملية.
بيد أن الأحداث منذ تلك اللحظة اتخذت طريقًا مختلفة تمامًا عن حالة التفاؤل ومشهد الإنجاز الذي تم؛ فقد انتقد الرئيس التركي بشدة ورقة النقاط العشرة المتفق عليها، بينما بنى حزب الشعوب الديمقراطي لاحقًا حملته الانتخابية على شعار "لن نجعل منك رئيسًا يا أردوغان"؛ وبذلك أصبح شريكا العملية السياسية سابقًا على طرفي نقيض. في الثاني عشر من يوليو/تموز، أعلن حزب العمال الكردستاني عن إلغاء قرار وقف إطلاق النار وتجميد عملية التسوية، داعيًا الأكراد لحمل السلاح وخوض ما أسماها: "حرب الشعب الثوري" نفَّذ على إثرها عدة عمليات عسكرية صغيرة الحجم. فيما اعتُبرت عملية قتله لرجلي شرطة تركيين في يوليو/تموز بداية عملية التصعيد الحالية مع الحكومة التركية التي بدأت حملتها المضادة في العشرين من يوليو/تموز الماضي.
في أسباب هذه الموجة من التصعيد العسكري بين حزب العمال الكردستاني والحكومة التركية، يمكن ذكر ما يلي:
أولًا: الفترة الانتقالية في تركيا بين الانتخابات البرلمانية في يونيو/حزيران وانتخابات الإعادة في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، التي شهدت عجزًا عن تشكيل حكومة مستقرة ورسَّخت حالة عدم استقرار سياسي، ومثَّلت فترة مثالية لاستئناف العُمَّال الكردستاني نشاطه العسكري، استغلالًا لضبابية المشهد السياسي التركي الداخلي.
ثانيًا: لحظة الأسئلة الصعبة التي وصلت إليها العملية السياسية بين الطرفين والتنازلات الأليمة المطلوبة للاستمرار، وهو ما كان الطرفان يخشيانه، فلا الحزب كان مستعدًّا لإلقاء السلاح بشكل نهائي ولا الحكومة كانت قادرة على صياغة الدستور الجديد المطلوب لإقرار المواطنة المتساوية والحقوق الكاملة للأكراد، فضلًا عن البتِّ في ملفات محورية وحساسة، على رأسها مصير عبد الله أوجلان ووضعه القانوني، والعفو العام عن مقاتلي العمال الكردستاني، وعودتهم إلى حياتهم الطبيعية في المدن والقرى، وربما رفع اسم الحزب من قوائم الإرهاب والتعامل معه كحزب سياسي عادي، وهي تنازلات لا تخلو من مجازفة سياسية كبيرة بالنسبة لحزب حاكم كان مقبلًا على انتخابات برلمانية. كل هذه عوامل أسهمت في تجميد العملية السياسية وتوتير الأجواء بما حفَّز الأعمال العسكرية.
ثالثًا: ضعف الثقة المتبادلة بين الطرفين، وخصوصًا قبل الانتخابات البرلمانية؛ حيث اتهم كل منهما الآخر بمحاولة استثمار الحدث للفوز بأصوات أكراد جنوب شرق البلاد. وكان لافتًا أن التصريحات الإيجابية بعد المؤتمر الصحافي المذكور تضمَّنت هجومًا من الطرفين؛ حيث اتهم الرئيس أردوغان حزب الشعوب الديمقراطي بكونه يفتقر للمبادئ وغير جدير بالثقة، بينما هاجم رئيس الحزب، صلاح الدين دميرتاش، ونائب رئيس الوزراء، بولند أرينتش، بعضهما البعض واتهم كلٌّ منهما الآخر بمحاولة عرقلة عملية السلام، وبعد سلسلة متواصلة من الاتهامات المتبادلة، قال دميرطاش: "ما دام هناك حزب شعوب ديمقراطي في تركيا، فلن نسمح لأردوغان بأن يكون رئيسًا".
رابعًا: الخلافات داخل العمال الكردستاني على آلية ومرجعية اتخاذ القرار؛ فرغم أن أوجلان قد أثبت أكثر من مرة أنه الرقم الصعب في الحزب وصاحب الكلمة الأولى والأخيرة فيه، واستحق بذلك تواصل الحكومة معه كشريك في العملية السياسية، ورغم علاقة الثقة النسبية التي تربطه برئيس جهاز الاستخبارات ذي الجذور الكردية، حاقان فيدان، إلا أن العملية عانت أكثر من مرة من تعنُّت قيادات "قنديل" التي تبحث لنفسها عن دور يُضعف من سيطرة أوجلان المركزية على الحزب وآلية اتخاذ القرار فيه. فقد أجَّلَت معارضة القيادات الموجودة في العراق البيان الصحافي المشترك لأسابيع، كما صدرت عدَّة تصريحات رافضة لإلقاء السلاح من بعض هذه القيادات، فضلًا عن اتهامهم بتدبير اغتيال الناشطات الكرديات الثلاث في باريس في يناير/كانون الثاني 2013 للتأثير على عملية السلام. في هذا الإطار، ثمَّة من يفسِّر صمت أوجلان حتى الآن على أنه احتفاظ به لوقت لاحق تصبح فيه الظروف أكثر نضجًا، وحماية له من تمرد علني من القيادات العسكرية الطليقة قد يكسر من رمزيته وكاريزمته.
خامسًا: الخلافات في الجانب التركي؛ فإضافة إلى اعتراض بعض أحزاب المعارضة وطيف مهم من الشعب التركي على العملية السياسية، يُلقي بعض الخلافات بين المؤسسات التركية بظلالها على فرص نجاحها. فقد اعترضت المؤسسة العسكرية سابقًا على عدم إطلاعها على خريطة طريق العملية السياسية مع حزب العمال الكردستاني، ثم ردَّت بلهجة قاسية على رسالة أوجلان الأخيرة. من ناحية أخرى، كان لافتًا اعتراض رئيس الجمهورية أردوغان العلني على بعض تفاصيل العملية مثل النقاط العشر أو لجنة المراقبة؛ مما استدعى ردًّا حادًّا من الحكومة على انتقاداته. وتكمن أهمية هذه الاعتراضات في محورية كلٍّ من مؤسستي الرئاسة والجيش في عملية التسوية؛ فالثاني كان القائم على الملف الكردي أمنيًّا وعسكريًّا لعشرات السنوات، قبل أن يتبنَّى أردوغان الحل السياسي ويقود هذا المشروع منذ أعوام.
سادسًا: المعارضة؛ حيث لا تحظى العملية السياسية الحالية بدعم كبير من أحزاب المعارضة والشعب؛ فقد أظهر استطلاع للرأي أجرته شركة "جينار" أن 57% فقط من عموم الشعب التركي، و21.1% فقط من مناصري حزب الشعب الجمهوري، و17% فقط من أنصار حزب الحركة القومية يؤيدونها؛ وهو ما يعني أن أي تنازلات كبيرة من جانب الحكومة التركية لن تحظى بتأييد حزبي أو شعبي كبير في البلاد. إذ تسيطر على هؤلاء مخاوف تقسيم البلاد، وينظرون إلى العمال الكردستاني على أنه حزب إرهابي وإلى أوجلان على أنه "قاتل أطفال" وإلى حزب الشعوب الديمقراطي على أنه "الناطق باسم الإرهاب"، وليس من السهل إقناعهم بأي تعديلات قانونية متعلقة بتوصيفهم والتعامل معهم.
سابعًا: العامل الخارجي، إن تعدد الولاءات ومراكز القوى داخل حزب العمال الكردستاني إضافة لخوضه صراعًا داخليًّا مسلحًا مع الدولة التركية لعشرات السنين، قد فتحا منافذ للتدخلات الخارجية في القرار السياسي من قبل بعض اللاعبين الإقليميين والدوليين؛ حيث سبق وأن اتهم وزير الداخلية التركي الأسبق، إدريس نعيم شاهين، إيران بدعم الحزب للضغط على تركيا في الملف السوري، كما صدرت عدَّة اتهامات من تركيا لألمانيا بدعم الحزب، إضافة إلى تسريبات تدَّعي تعاونه مع الموساد الإسرائيلي. وثمة شعور عام في تركيا، وتصريحات متكررة لعدد من المسؤولين والإعلاميين الأتراك تفيد بأن هناك من أراد أن يشغل تركيا في ملفها الداخلي الشائك في فترة يراد فيها إعادة تشكيل المنطقة.
ثامنًا: تطورات الأزمة السورية، التي ضاعفت من الثقل النوعي للفصائل الكردية في سوريا، أي حزب الاتحاد الديمقراطي وذراعه العسكرية قوات حماية الشعب، بما مكنهم من طرح أنفسهم كقوى محلية قادرة على مواجهة تنظيم الدولة، وبالتالي زاد من أهميتهم بالنسبة لواشنطن التي أعطتهم غطاءً جويًّا لدى مهاجمتهم "تل أبيض" وإخراجهم العرب والتركمان منها بعد أيام قليلة فقط من الانتخابات التركية في يونيو/حزيران دون إعلام أنقرة بالأمر وهو أمر له دلالته البالغة. من ناحية أخرى، أغرت هذه التطورات، وما نتج عنها من إحياء أفكار الكيانات السياسية الكردية في شمال سوريا، أكرادَ تركيا بالتعنت وزيادة الضغط لتحصيل المزيد من أنقرة على طاولة التفاوض أو من دونها.
تاسعًا: التدخل الروسي في سوريا، بمرحلتيه ما قبل وما بعد أزمة إسقاط المقاتلة الروسية؛ فالفترة الأولى شهدت تحديدًا للدور التركي في سوريا وتقييد يدها ضد الفصائل الكردية المسلحة في الشمال السوري والمتعاونة مع العمال الكردستاني بما قد يعزِّز من فكرة الدويلة أو الكانتون الكردي على الحدود التركية والذي تعتبره أنقرة خطًّا أحمر من منظور أمنها القومي. بينما حملت الفترة الثانية تعميقًا لهذا المعنى من جهة واستحداثًا لحالة من التنافس الأميركي-الروسي على دعم أكراد سوريا ومحاولة موسكو لعب الورقة الكردية في وجه أنقرة.
فبعد أشهر من الدعم الأميركي المعلن لهم في معركة عين العرب وغيرها، بدأ التقارب الكردي-الروسي بعد حادثة الطائرة متمثلًا بدعم عسكري مباشر بالأسلحة، وزيارة لحزب الاتحاد الديمقراطي لموسكو وطلبه فتح مكتب تمثيلي له هناك، ودعوات لفتح ممثلية روسية في الشمال السوري، ثم تتويج كل ذلك بزيارة رئيس حزب الشعوب الديمقراطي، صلاح الدين دميرتاش، إلى موسكو ولقائه وزير الخارجية الروسي لافروف؛ فقد أتت الزيارة على خلفية التوتر بين أنقرة وموسكو كرسالة واضحة من الثانية للأولى بأن في يدها أوراق لعب أبعد وأعمق وأكثر تأثيرًا من الملف الاقتصادي البحت، سيما وأن تصريحات الضيف الكردي من موسكو حملت لومًا لأنقرة وحمَّلتها مسؤولية تراجع العلاقات الروسية-التركية مشفوعة بطلب فتح مكتب للحزب في موسكو لا يبدو أنه قوبل بالموافقة حتى الآن. فيما لا تبدو -من جهة أخرى- سياسة التصعيد الكردية داخل تركيا، والمتمثلة في اجتماع "مؤتمر المجتمع الديمقراطي" ودعوته إلى إنشاء مناطق إدارة ذاتية شبه مستقلة عن الحكومة المركزية في أنقرة وتأييد حزب الشعوب الديمقراطي لهذه التوصيات، بعيدة عن محاولة الاستقواء بالعامل الخارجي واستثمار تراجع الدور التركي في المنطقة ككل، سيما وأنها أتت في ظل موجة التصعيد الحالية التي لم تصمت فيها الأسلحة بعد.
السيناريوهات المستقبلية
بعد سنوات من التهدئة وسير العملية السياسية بين الطرفين في ظل الإصلاحات المتدرجة التي نفذتها حكومات العدالة والتنمية المتعاقبة، تبدو القضية الكردية في تركيا اليوم على مفترق طرق مهم. فموجة التصعيد الأخيرة ماضية على قدم وساق، محوِّلة بعض أحياء مدن الجنوب الشرقي إلى ساحة حرب عصابات بكل ما فيها من خنادق وسواتر ترابية واشتباكات يومية وحظر تجول؛ حيث حصدت آلة الموت اليومي حتى الآن أرواح الآلاف من الطرفين خاصة المسلحين الأكراد، فيما بدأت تصريحات قادة حزب الشعوب الديمقراطي تستفز الدوائر السياسية والقانونية في تركيا؛ الأمر الذي أدَّى إلى بدء تحقيق مع دميرتاش وطرح فكرة نزع الحصانة والدبلوماسية عنه وعن بعض قيادات الحزب الذين نادوا بالإدارة الذاتية وهو ما يُعتبر انتهاكًا لدستور البلاد.
لكن، رغم كل هذا التدهور في العملية السياسية، لا يزال الحل السياسي هو المخرج الوحيد والمفضَّل بالنسبة لكثير من المراقبين، فضلًا عن أنه خيار الدولة التركية التي ترى أن حالة التصعيد مقصودة لذاتها لإحراج الحكومة أمام الطيف الكردي من شعبها، وبالتالي فهي أمام امتحان الموازنة بين إحكام القبضة الأمنية والحفاظ على الحقوق والحريات. وعليه، فما زالت العملية السياسية أفقًا ممكنًا للحل، وفقًا لعدة اعتبارات مشجعة، أهمها:
- القناعة المتبادلة لدى كلٍّ من الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني بعدم نجاعة الحل العسكري-الأمني لحل الأزمة، فلا الحكومة التركية قادرة على إنهاء الحزب عسكريًّا، ولا الأخير قادر على هزيمة الجيش التركي، فضلًا عن أن المواجهة العسكرية بحدِّ ذاتها هي مجرد تعميق للأزمة، وليست حلًّا لها بأية حال.
- الخسائر البشرية والمادية الكبيرة التي تكبدها الطرفان خلال أكثر من 30 عامًا من الصراع.
- سيطرة العدالة والتنمية ومن خلفه الرئيس أردوغان على المشهد السياسي التركي بدرجة كبيرة، وما يمتلكه الأخير من كاريزما سياسية تجعله قادرًا -مع الحزب الحاكم- على اتخاذ قرارت صعبة تبدو ضرورية لإنجاح العملية.
- الضغط الشعبي والنخبوي على الطرفين، وخاصة على الحزب، لإنهاء ملف العنف.
- النجاحات التراكمية التي أكسبت العملية السياسية مصداقية وأشاعت جوًّا من التفاؤل سابقًا، نتج عنه تأييد شعبي مقبول.
- الاستقرار النسبي في المشهد السياسي التركي والمرشح للاستمرار؛ إذ لن تشهد تركيا أية جولة انتخابية -على كافة المستويات المحلية والبرلمانية والرئاسية- قبل عام 2019، وهو استقرار مهم لعملية السلام فضلًا عن إفشاله للرهان على ضعف/إضعاف الحكومة والحزب الحاكم.
- بعض العوامل الإقليمية التي يمكن أن تسهم في تقوية الموقف التركي وإقناع حزب العمال بالالتزام بالعملية السلمية، مثل تحسن العلاقات بين أنقرة وإقليم شمال العراق الكردي، وآفاق الحل السياسي في سوريا، وثبات الموقف التركي المتريث إزاء الانخراط والتورط في معارك برية في كل من سوريا والعراق، فضلًا عن أي تحسن متوقع على المدى البعيد في العلاقات التركية-الروسية.
وبناءً على خلفية القضية الكردية في تركيا تاريخيًّا وسياسيًّا، واعتمادًا على الظروف المحلية والإقليمية، وبالنظر إلى العوامل المشجعة وتلك المعوقة للحل السياسي، تبدو عملية السلام الداخلية في تركيا اليوم أمام أحد سيناريوهات ثلاثة:
الأول: العودة المباشرة للعملية السياسية بعد وقف سريع لإطلاق النار، اعتمادًا على حالة الاستقرار السياسي النسبي في البلاد، وعلى الخسائر الكبيرة التي تكبَّدها العمال الكردستاني وفق التقارير الحكومية التركية وبعض التسريبات لمكالمات بين قيادييه، وعلى حالة الرفض الشعبي لموجة التصعيد الحالية. بيد أن هذا السيناريو يبدو أقل الثلاثة حظًّا؛ إذ لا يبدو أن الطرفين - وخصوصًا الجانب الكردي- قد وصلا لقناعة ثابتة بهذا الخصوص، بدليل التصعيد السياسي عالي السقف من قِبل حزب الشعوب الديمقراطي واستمرار عمليات الكردستاني بنفس الوتيرة. إضافة إلى أن مقومات العودة للمسار السياسي ومتطلباته اللاحقة، مثل الدستور الجديد وحقوق المواطنة وغيرها، ليست في المتناول اليوم.
الثاني: إحياء العملية السياسية على المدى المتوسط-البعيد، بعد تهدئة تدريجية للوضع الأمني-العسكري جنوب شرقي البلاد. وهو برأينا السيناريو الأوفر حظًّا، للاعتبارات المذكورة آنفًا، في ظل عدم قدرة أيٍّ من الطرفين على حسم الصراع، وبناءً على حالة الضغط الشعبي على الطرفين مع استمرار المواجهة وتزايد الخسائر من الطرفين، واستفادة من النجاحات التراكمية السابقة في ملف التسوية السياسية، وانتباهًا لاحتمال خفوت الدعم الخارجي للحركة الكردية بسبب الحاجة الملحَّة لتركيا في الملفات الإقليمية وخاصة سوريا والعراق، واستثمارًا لإمكانية صياغة الدستور الجديد للبلاد والذي سيكون خطوة دافعة نحو التهدئة والحل. بيد أنه من المهم الإشارة إلى أن إعادة إحياء لعملية التسوية السياسية لا تعني بالضرورة العودة لها بنفس الأسماء والشعارات والفاعلين وخارطة الطريق، بل من خلال عملية إعادة تقييم وصياغة شاملة، تشمل تغيير الاسم والشعار والأهم من ذلك كلِّه اللاعبين الأساسيين فيها، وفي مقدمتهم حزب الشعوب الديمقراطي وربما عبد الله أوجلان نفسه، وهو ما يشير له بعض الأوساط المقربة من الحكومة إذ تركز على أهمية البعد الشعبي-المدني-المجتمعي للمشكلة والحل معًا، فضلًا عن نفي فكرة احتكار الحركة السياسية الكردية (اليسارية) لتمثيل كامل الطيف الكردي في تركيا، من خلال التواصل مع الأحزاب الكردية ذات الخلفية الإسلامية، مثل حزب القضية الحرة (HÜR DAVA PART?S?).
الثالث: تعمُّق الأزمة وعودة الخطاب الانفصالي لدى قيادات الحركة السياسية الكردية في تركيا إثر فشل الحل السياسي بشكل شبه نهائي؛ إذ يجب ملاحظة أن "مراجعات" أوجلان ودعوته إلى الحلول الديمقراطية (الحكم الذاتي الديمقراطي والكونفيدرالية الديمقراطية) ونبذ الحل العسكري أتت خلال سِنِي سجنه وبعد بدء الإصلاحات الديمقراطية والقانونية على يد العدالة والتنمية مع انسداد أفق الحل العسكري. فإذا ما وضعنا التطورات الإقليمية وحالة التصعيد الحالية جنبًا إلى جنب مع حالة التمرد بين قيادات جبال قنديل على زعامة أوجلان وقراراته والاختراقات الخارجية لها، فربما نكون أمام رؤية استراتيجية جديدة لأكراد تركيا تنادي بالعمل على استثمار واستغلال كل هذه السياقات لإنجاز مشروع سياسي انفصالي لأكراد تركيا على المدى البعيد، يبدو بعض ملامحه في إصرار الشعوب الديمقراطي على دعواته للإدارة الذاتية، ونتائج تلك الدعوات المباشرة التي ربما تضيِّق هامش العمل السياسي البرلماني العلني من خلال نزع الحصانة البرلمانية عن قياداته. هذا السيناريو -وإن كان يبدو دراماتيكيًّا- إلا أنه يظل في رأينا أوفر حظًّا من السيناريو الأول باعتبار أننا نرى بعض إرهاصاته، وهو بكل الأحوال قد يصبح ممكنًا على المدى البعيد إذا ما توفرت له الظروف الموضوعية الداخلية والدعم الخارجي المستمر، اعتمادًا على التطورات الإقليمية وعلى علاقات تركيا الدولية سيما مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي.
خاتمة
بعد عشرات السنوات من معاناة الأكراد في تركيا، وبعد سنوات من بدء العملية السياسية بين الحكومة وحزب العمال وراء الكواليس ثم في العلن، ثم بعد موجة التصعيد الكبيرة المستمرة منذ يوليو/تموز المنصرم، تبدو القضية الكردية في تركيا أمام مفترق طرق وعلى أعتاب مرحلة جديدة وفارقة، قد تصوغ مستقبل الأكراد وتركيا والمنطقة برمتها.
هنا، يبدو أن البُعد الإقليمي للقضية الكردية تاريخيًّا عاد للبروز والتأثير على الجزئية التركية من هذه القضية، تأثرًا وتأثيرًا، فضلًا عن العامل الدولي وانعكاساته على كلٍّ من الحكومة التركية والحركة السياسية الكردية. كما يدرك الطرفان، الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني بمختلف لاعبيه، أن السلاح ليس حلًّا وإنما هو مجرد انعكاس صادح الصوت لانسداد آفاق السياسة.
عنوان المرحلة المقبلة في تركيا إذن هو البحث عن سبل العودة لطاولة المفاوضات بعد تأمين شروط نجاحها وتحقيق المأمول منها، بالنسبة للطرفين كل من وجهة نظره الخاصة به، في حال أن القناعة بالحل السياسي للمشكلة الكردية ما زالت هي استراتيجية القوى السياسية الكردية في تركيا، وهو أمر من الصعب الجزم به بشكل قاطع حاليًا، سيما في ظل صمت أوجلان حتى الآن رغم كل التطورات.
في الخلاصة سيعتمد الحل، وفق المعطيات المتاحة، بشكل رئيس على مدى قناعة الطرفين؛ قناعة الحكومة التركية بمحورية وخطورة المشكلة الكردية بالنسبة لمستقبل تركيا وضرورة حلِّها بالطرق السياسية، بما يشمله ذلك من متطلبات قد تعتبرها تنازلات كبيرة من قبيل مصير أوجلان والمسلَّحين الأكراد وإدماجهم في المجتمع بعد عفو عام أو تسوية ما، وقناعة الأكراد والعمال الكردستاني تحديدًا بأهمية اقتناص الفرصة المتاحة لإنهاء مرحلة تاريخية امتدت لعشرات السنوات الدامية دون إنجاز يُذكَر، بعيدًا عن الاستقواء بالخارج أو نسج الأحلام الوردية ذات السقوف السياسية العالية صعبة المنال.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس