محمود علوش - خاص ترك برس
تعود العلاقات التركية الأمريكية مجددًا إلى دائرة التوتر بعد اتهام أنقرة فتح الله غولن أحد أشد خصوم الرئيس رجب طيب أردوغان بتدبير محاولة الانقلاب الفاشلة عليه ليل الخامس عشر من تموز/ يوليو الجاري، وما أعقبها من تقديم الحكومة التركية طلبًا رسميًا إلى السلطات الأمريكية لتسليمها غولن الذي تحتضنه الولايات المتحدة في ولاية بنسلفانيا منذ نحو 17 عامًا. من المهم الإشارة إلى نفوذ غولن في تركيا لفهم العداء الذي يكنّه أردوغان له بعد أن كان الرجلين حليفان لسنوات. فهو يتزعم ما يُعرف في تركيا بتنظيم "الكيان الموازي" أو الدولة العميقة التي حاربت حكومات حزب العدالة والتنمية المتعاقبة وعملت على إسقاطها بوسائل عدّة من بينها قضايا الفساد التي يتهم غولن بتحريكها وتلفيقها لوزراء الحزب وشخصيات مقربة من الرئيس التركي بهدف تشويه سمعتهم.
لعل الدور الأخطر الذي يتهم فتح الله غولن بلعبه يرتبط بقضايا تتعدى أردوغان شخصيًا والحزب الحاكم لتمس الأمن القومي للبلاد، مثل التسريب الشهير لاجتماع أمني رفيع المستوى قبل عامين وكان مخصصاً لمناقشة الحرب في سورية، ووصفته الحكومة حينها بأنه إعلان حرب عليها، وكذلك القضية المعروفة بشاحنات المخابرات التركية التي كانت متوجّهة إلى سورية قبل عام، وتعاملت معها الحكومة التركية قضائيًا على أنّها محاولة للإطاحة بها. ليس أخيراً، اعتقال طيارين أسقطوا المقاتلة الروسية على الحدود مع سورية في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، في مؤشر على أن قرار الإسقاط ربما صدر بمعزل عن الحكومة لتوريطها في صراع مع روسيا. وهذا الأمر، إن صحّ بالفعل، فلا يمكن عزله عن نفوذ غولن داخل المؤسسة العسكرية.
انطلاقًا من هذه المعطيات، فإن الطلب التركي بتسليم غولن يُشكّل في الوقت الراهن حاجة ملحّة بالنسبة لأنقرة، بالتزامن مع حملة التطهير الواسعة التي بدأتها في مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية والقضائية والتعليمية عقب إحباط التمرد العسكري، والتي ستكتسب زخماً كبيرًا فيما لو وافق الأمريكيون على إعادة فتح الله غولن لتركيا. وعلى عكس تركيا، فإن قضية غولن لها أبعاد سياسية بالنسبة لواشنطن، وسبق أن رفضت عدّة مرات دعوات المسؤولين الأتراك لتسليمه، رغم أن ذلك تسبب بتوتر محدود بين البلدين. لكنّ الوضع اليوم يختلف كثيرًا، ولن يكون باستطاعة أردوغان التنازل على هذا المطلب، ولا الإدارة الأمريكية بمقدورها أيضًا المماطلة في القضية، لا سيما أن الرئيس التركي لوّح صراحة خلال الأيام الماضية بورقة العلاقات الاستراتيجية والحساسة مع واشنطن.
في واقع الأمر، لا يرتبط الخلاف المستجد بين أنقرة وواشنطن بعد المحاولة الانقلابية بملف غولن فقط. فالمتابع للتصريحات التركية منذ اللحظة الأولى للتمرد العسكري، يشعر بحالة من الامتعاض في دوار القرار التركي وتلميح إلى دور أمريكي مشبوه في محاولة الانقلاب، وإن كان هذا الأمر لا يمكن تأكيده، لكنّه على الأقل يجدد ما يبرّره لدى الأتراك سواء لجهة التردد الأمريكي في أولى ساعات الانقلاب في الإدلاء بتصريح واضح تجاه دعم الحكومة الشرعية في تركيا، فضلًا عن الجدل بخصوص قاعدة إنجرليك التركية التي تتمركز بها قوات أمريكية، والتي تقول السلطات التركية إن المتمردين استخدموها في تزويد مقاتلات حربية سيطروا عليها ليلة الانقلاب وساعدهم ذلك في التحليق لفترة أطول في سماء العاصمة أنقرة ومدينة إسطنبول.
صحيح أن المخابرات الأمريكية كان لها دور حيوي في الانقلابات العسكرية التي قام بها الجيش التركي خلال العقود السابقة، إلاّ أن كبار المسؤولين الأمريكيون وعلى رأسهم الرئيس باراك أوباما اضطروا هذه المرّة إلى نفي ما أشيع عن علاقة لبلادهم في محاولة الانقلاب الأخيرة. لا بل سارعوا بشكل متردد إلى إبداء الدعم للإجراءات التي اتخذتها السلطات التركية في "تطهير" مؤسسات الدولة من المتهمين بالانتساب للكيان الموازي تجنبًا لغضب أردوغان. وبغض النظر عن ضلوع الولايات المتحدة في دعم المحاولة الانقلابية من عدمها، إلاّ أن الأمريكيين يجدون أنفسهم في موقف محرج للغاية. فهم إن لم يكونوا متورطين مباشرة في دعم تمرد 15 يوليو، لكنّهم يحتضنون فتح الله غولن الذي تؤكد أنقرة وقوفه وراء محاولة الجيش الانقلاب على الرئيس التركي ومحاولة اغتياله شخصيًا.
ويبدو أن الجانب الأمريكي بدأ يستشعر فعلًا بالتداعيات الكارثية المتوقعة لقضية غولن على العلاقات مع تركيا من خلال محاولة تلطيف الأجواء معها بعض الشيء كحديث وزير الخارجية جون كيري عن عدم بلاده الكامل للإجراءات التركية. غير أن هذا الدعم لن يكون مكتملًا من دون تسليم غولن لتركيا، ناهيك عن دعوة وانشطن لأنقرة إلى تقديم إثباتات على تواطئ الرجل بالانقلاب. لا يمكن الجزم بأن الولايات المتحدة الأمريكية ستوافق على تسليم غولن أم لا. لكن المحاولة الأمريكية لتمييع الطلب التركي من خلال إعطائه أبعادًا قانونية رغم أنه سياسي بامتياز لا يشي بأن واشنطن سترضخ للطلب التركي. ولا يمكن عزل ذلك عن الجانب السياسي في القضية، كورقة استطاع الغرب الضغط بها على تركيا لسنوات طويلة وتوظيفها في إحداث توترات في الداخل التركي في مراحل شهدت تقاطعات بينهما.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس