محمود عثمان - خاص ترك برس
تصريح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بعد لقائه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن نايف، بأن هناك قوى عالمية تستهدف تركيا والسعودية كان لافتا ومثيرا للتساؤلات، من تكون هذه القوى، ومن هي الدول التي تقف وراءها؟!.
مراجعة بسيطة وقراءة متأنية للأحداث المتعاقبة في تركيا والسعودية، وعموم المنطقة، خلال الأعوام الستة الماضية، مرحلة ما بعد انطلاق الربيع العربي، تعطينا إشارات واضحة إلى توجه الاستراتيجية الأمريكية نحو تفكيك الدول الاقليمية الرئيسية في المنطقة، وفي مقدمتها تركيا والمملكة العربية السعودية.
مراحل تفكيك تركيا
بداية الحرب على أردوغان وحزب العدالة والتنمية
أثناء زيارة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان لأمريكا عام 2007، كانت إحدى محطات زيارته دعوة من جمعية رجال الأعمال توسكون TUSKON التابعة لجماعة غولن، يومها ذهب أردوغان إلى مكان الدعوة فوجده فارغًا! حيث لم يحضر منهم أحد. يومها فسرت هذه الخطوة على أنها ردة فعل على عدم تلبية أردوغان دعوة جماعة غولن لافتتاح مدرسة تابعة لجماعتهم هناك. مصادر الرئاسة ترد على ذلك بأن موعد افتتاح المدرسة كان بعد يوم من تاريخ عودة أردوغان لتركيا. لم تكن هذه الواقعة نقطة البداية لطلاق بائن بين الطرفين وحسب، بل شكلت بداية حرب باردة هدفها اقتلاع حزب العدالة والتنمية من السلطة. خطوات وحملات كثيرة تبعتها كانت جميعها تحمل بصمة الخارج بالتوافق مع قوى الداخل، الذي شكلت جماعة غولن رأس الحربة فيه.
انتخاب عبد الله غل رئيسا للجمهورية
كان الرئيس نجدت سيزار صمام أمام للنظام المؤسس، وامتدادًا للدولة العميقة في مؤسسة الحكم العليا. ومكبحا يتم من خلاله فرملة إجراءات حكومة العدالة والتنمية، فقد رفض أكثر من ثلاثة آلاف قانون وأرجعها للبرلمان، حتى إن القوانين التي أجازها كانت تعتبر ضئيلة قياسا بالتي رفض التوقيع عليها.
عام 2007 جاءت عملية انتخاب عبد الله غل رئيسًا للجمهورية، رغم العراقيل الكثيرة والاشتراطات غير المسبوقة ومحاولة لي أعناق النصوص الدستورية، نصرًا كبيرًا لمؤسسة السياسة على حساب "النظام المؤسس" الذي فقد منصب الرئاسة أحد أهم قلاعه. هذا النجاح عزز من تموضع حزب العدالة والتنمية في مركز السلطة، وسيطرته على مؤسسات الحكم الرئيسية.
المحكمة الدستورية العليا تطلب إغلاق حزب العدالة والتنمية
لم تتأخر ردة فعل ل "النظام المؤسس" أو "الدولة العميقة" على نجاح حزب العدالة والتنمية في انتخاب عبد الله غل رئيسًا للجمهورية. إذ قامت المحكمة الدستورية العليا بفتح قضية قضائية ضد حزب العدالة والتنمية مطالبة بإغلاقه، بتهمة "معاداة العلمانية والعمل على أسلمة مؤسسات الدولة التركية"!، ذاك السلاح والحجة الجاهزة دوما في متناول يد المحكمة الدستورية العليا تخرجها من الدرج متى شاءت عند الحاجة!.
محاولة اعتقال هاكان فيدان
أخذت وتيرة الصراع بين الطرفين تعلو شيئا فشيئا، مع إصرار أردوغان على تعيين هاكان فيدان رئيسا للمخابرات التركية، رغم من معارضة الأمريكان والأوروبيين ومن قبلهم إسرائيل. وبدأت علامات التصعيد تطفو على السطح، وأصبحت مواقف الأطراف محل خلاف شبه دائم بين الحكومة من جهة، وجماعة غولن وبقايا الدولة العميقة من جهة أخرى.
ضمن مشروع المصالحة الوطنية كلف هاكان فيدان وجهازه بقيادة عملية المصالحة مع الأكراد، وبناء على هذا التكليف عقدت مباحثات سرية بين رجال الدولة التركية وممثلين عن حزب العمال الكردستاني في السويد، لأن حزب العمال الكردستاني محظور في تركيا. لكن أطرافاً خارجية أوعزت إلى بعض أعضاء وفد حزب العمال الكردستاني بتسريب محضر أحد اللقاءات بين الطرفين، ليتخذ قاض ينتمي لجماعة غولن هذا التسريب ذريعة أصدر بناء عليها قرارًا باعتقال رئيس المخابرات هاكان فيدان لمخالفته القانون الذي يحظر مقابلة منظمة إرهابية. اضطر على إثرها فيدان للمكوث في مبنى المخابرات مدة 24 ساعة إلى حين إقرار البرلمان قانونًا يحمي رؤساء الإدارات المرتبطة برئاسة الوزراء مباشرة من المحاكمة القانونية إلا بإذن من رئيس الوزراء.
المقصود من الاعتقال ليس هاكان فدان لشخصه، إنما من ورائه رئيس الوزراء أردوغان نفسه. إذ لو ألقي القبض على رئيس جهاز المخابرات التابع لرئيس الوزراء مباشرة، لأصبح بالإمكان القبض على رئيس الوزراء نفسه لأنه هو الذي أصدر الأوامر بعقد اللقاءات مع حزب العمال الكردستاني.
أحداث غيزي بارك
أواخر شهر مايو/ أيار عام 2013 تم تنظيم حملة احتجاجات على مستوى تركيا، شارك في تجميع الحشود جميع وسائل التواصل الاجتماعي، لكن الجزء الأكبر تولته عمالقة الصحافة العالمية، من بي بي سي إلى سي ان ان إلى سكاي نيوز إلى ام بي سي والإيكونيميست وصولا إلى قناة العربية. قناة سي ان ان انترناشيونال قامت يومها بالبث المباشر من ساحة التقسيم مدة تسع ساعات متواصلة من أجل التحشيد، وتصوير ميدان التقسيم في استانبول كأنه ميدان التحرير في القاهرة. المشاركون رغم كل هذا الحشد والتجييش الإعلامي لم يتعد بضع عشرات غالبيتهم ينتمون إلى منظمات يسارية مسلحة محظورة. سبب الحشود كان الاعتراض على مشروع إعادة تنظيم ميدان التقسيم، حيث ستضطر البلدية لقلع بعض الأشجار وزعها في مكان آخر. لكن استطلاع للرأي أجري على المحتجين أكد أن أكثر من 70% من هؤلاء يريد إسقاط الحكومة ولا مشكلة لديه مع قلع الأشجار!.
الانقلاب الأبيض ضد حكومة أردوغان بتاريخ 17 و25 ديسمبر
على غرار انقلاب العسكر بتاريخ 28 شباط فبراير 1996 ضد حكومة نجم الدين أربكان لكن باستخدام سلاح لقضاء والشرطة هذه المرة، قامت جماعة غولن بترتيب انقلاب أبيض ضد حكومة رجب طيب أردوغان، حيث أضيف إلى بعض الأدلة الحقيقية أضعافا من الأدلة الوهمية المختلقة، وقام رجال الشرطة بدهم مقرات تابعة لأربعة وزراء إضافة إلى مدير عام بنك حكومي HALKBANK.
الأهم من ذلك تلفيق مكالمة صوتية مدبلجة لرئيس الوزراء أردوغان مع ولده بلال أردوغان، يزعمون فيها أن الوالد يأمر ولده بإخفاء الأدلة المتعلقة بدفعات مالية. حيث بدأت بالتزامن معها حرب إعلامية عالمية هائلة منظمة في الداخل والخارج، هدفها رسم وترسيخ صورة نمطية في أذهان الرأي العام الداخلي والخارجي، أن أردوغان وحكومته ومن حوله لصوص نهبوا أموال الدولة التركية، وبالتالي يجب إزاحتهم بأي وسيلة، ومحاكمتهم بأقرب فرصة.
إرهاصات انقلاب 15 تموز
بعد فشل جميع المحاولات السابقة في إسقاط الرئيس أردوغان، وخروجه في كل مرة أقوى مما ذي قبل، برزت الحاجة لعملية أوسع وأشمل. فقد بدأت في الغرب، أمريكا وأوروبا، حرب نفسية شاملة ضد الرئيس أردوغان، تولى كبرها آلة إعلامية ضخمة، صورت أردوغان بالسلطان الدكتاتور، الذي يحكم ولا معقب لحكمه، وبدأت مراكز البحوث والدراسات، تنشر التقارير التي تصور مدى اضطهاد أردوغان لجميع فئات الشعب، وعلى الأخص الصحفيين الذي أودعوا السجون. ثم تبعها المحللون الاستراتيجيون بأن السيل قد بلغ الزبى، ولا بد للجيش التركي الباسل من القيام بحركة تصحيحية تعيد الأمور إلى نصابها.
بالمختصر تم تهيئة الأجواء لقيام انقلاب عسكري يطيح بأردوغان وبالحزب الحاكم حزب العدالة والتنمية.
إعلان حزب العمال الكردستاني مناطق محررة في جنوب شرق تركيا:
بالرغم من حرص المعارضة الوطنية السورية على بناء علاقات وطيدة مع إدارة أوباما، إلا أن الأخيرة رجحت التعامل مع حزب الاتحاد الديمقراطي، فرع حزب العمال الكردستاني التركي، الذي يجسد حركة انفصالية إرهابية، بحجة أنها الوحيدة التي تحارب تنظيم داعش.
بالتزامن مع إعلان حزب الاتحاد الديمقراطي بعض المناطق شمال سورية مناطق حكم ذاتي، كانت هناك خطة لإعلان مماثل يقوم به حزب العمال الكردستاني في مناطق مختلفة من جنوب شرق تركيا، منها دياربكر وجزرة وبعض المناطق التي لا تزال تدور فيها معارك ضارية بين الانفصاليين وقوات الأمن التركية. وبعضها تحت حظر التجوال منذ ما يقارب العام. وقد كشفت التحقيقات مع الانقلابيين أن حزب العمال الكردستاني كان سيصعد أكثر فيما لو نجح انقلاب 15 تموز. لكن الترتيبات تشير إلى أن الوضع كان مؤهلا لإعلان جنوب شرق تركيا منطقة محررة ذات حكم ذاتي. هذا هو السبب الحقيقي وراء انسحاب حزب الشعوب الديمقراطي من عملية المصالحة مع الدولة التركية وقلبه الطاولة، رغم أن الأمور كانت تسير بشكل معقول.
انقلاب 15 تموز
بعد استنفاذ الطرق والوسائل المختلفة، وفشل جميع المحاولات المذكورة أعلاه وغيرها مما لم يتسع المجال لذكره، أصبح لزاما القيام بانقلاب عسكري يطيح بالحكومة باستخدام القوة. لكن تكاتف الشعب التركي وتمسكه بحكومته المنتخبة أفشل هذه المحاولة أيضا.
عادة ما يسبق الانقلابات العسكرية حالات اضطراب وفشل، إما سياسي، أو أمني، أو اقتصادي. تركيا قبيل المحاولة الانقلابية لم يكن فيها أيا من هذه الأسباب والمسوغات لقيام تمرد سلمي أو عسكري. الأهم من ذلك أن التحقيقات أثبتت تورط حلف الناتو في العملية الانقلابية. لذلك أعطوا الضوء الأخضر لتركيا للقيام بعملية درع الفرات.
تفكيك المملكة العربية السعودية
مقابل تخليها عن مشروعها النووي، قدمت أمريكا عدة مكافآت لإيران، أولها دمجها في منظومة أمن الخليج، أي تنصيبها شرطيًا وزعيمًا لدول الخليج، على مبدأ حاميها حراميها، وثاني المكافآت دمج إيران في المجتمع الدولي، وهذا يعني إطلاق يدها للتدخل في جميع الملفات الساخنة، وغض الطرف عما تقوم بها من تجاوزات للقانون الدولي، وثالثها رفع الحظر عن أموالها المجمدة، بشرط إنفاقها على مشاريع التنمية ورفع مستوى المعيشة. لكن تقارير غربية أشارت إلى أن إيران استخدمت جميع الأموال المفرج عنها في حروبها ودعم حلفائها، ولم تصرف منها قرشا واحدا على أية مشاريع تنموية.
أدركت القيادة السعودية خطورة سياسة الإدارة الأمريكية برئاسة أوباما تجاه منطقة الخليج، فعملت على إفشال الاتفاق النووي الإيراني، وذلك بالتعاون مع بعض الدول الإقليمية، ودعم اللوبيات الشهيرة في أمريكا. لكن إصرار الرئيس باراك أوباما على إمضاء الاتفاق النووي مع إيران لم تنفع معه كافة الجهود بهذا الصدد.
بعد توقيع الاتفاق النووي بين ايران ودول 5+1، وبعد دخوله حيز التنفيذ، ومع بدء الأطراف بالإجراءات العملية، عمدت السعودية إلى إفشال تطبيقه وإفراغه من مضمونه. نجحت السعودية في افتعال أزمة مع إيران من خلال إعدام متهمين بقضايا الإرهاب ومنهم رجل الدين الشيعي السعودي نمر النمر. ايران بلعت الطعم عندما قام محتجون ايرانيون باقتحام سفارة المملكة العربية السعودية في طهران وقنصليتها في مشهد، وتكسير محتوياتها. رد السعودية على ذلك كان جاهزا وقاطعا وحازما، حيث قامت بقطع العلاقات الدبلوماسية، وإلغاء الرحلات الجوية، وأوعزت إلى دول الخليج فقامت بما فعلته السعودية، التي لم تكتف بذلك بل شكلت جيشًا اسلاميًا ضم دولا عربية وإسلامية لمحاربة الإرهاب!.
رد الفعل والتصعيد السعودي كان أكبر من الفعل الإيراني بأضعاف كثيرة. إذ قطع العلاقات الدبلوماسية لا تقدم عليها الدول إلا في حالا استثنائية ضيقة جدا. فعلى سبيل المثال بدأت الحرب العراقية الايرانية عام 1980 لكن العلاقات الدبلوماسية بين البلدين استمرت حتى عام 1986.
صحيح أن السعودية اتخذت خطوات التصعيد تلك ضد إيران، لكن رسائلها كانت موجهة لواشنطن ولإدارة الرئيس أوباما تحديدا. مضمون تلك الرسائل يحتوي رفض السعودية ومن ورائها دول الخليج العربي، لفكرة إدخال إيران في منظومة أمن الخليج. الإدارة الأمريكية من جانبها تلقت تلك الرسائل، و ردت عليها بعدم استنكار عمليات الاعتداء على السفارة والقنصلية السعوديتين في إيران، إنما شعور بالأسف فقط!.
أمريكا التي فشلت وضع السعودية، ومن ورائها دول الخليج، تحت الهيمنة الإيرانية، بدأت تستنزف السعودية في حرب اليمن، من خلال إطالة أمد الحرب هناك، عبر المبعوث الدولي بواسطة الأمم المتحدة، وعبر تعطيل الحل في سورية بالاختباء وراء الروس تارة، ومنع السلاح النوعي عن المعارضة السورية تارة أخرى.
قانون "جاستا"
مسرحية تبادل الأدوار بين الإدارة الأمريكية ومجلس النواب والكونجرس، لا يحجب حقيقة تخلي أمريكا عن السعودية كحليف استراتيجي، بل يعزز القناعة بأن أمريكا عازمة على إضعاف السعودية واستنزافها، تمهيدًا لتفكيكها بشكل بطيء.
الخلاصة: بعيدًا عن الخوض في التفصيلات، ثمة ملامح ومؤشرات تشير إلى استراتيجية ناعمة ينتهجها الأمريكان، هدفها تفكيك الدول الكبيرة في المنطقة، تركيا والسعودية تحديدًا.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس