إبراهيم كالن - ديلي صباح - ترجمة وتحرير ترك برس
في "كتابه المفاهيم الأساسية في الميتافيزيقا" الذي كان عبارة عن محاضرات ألقاها بين عامي 1929-1930 اقتبس الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر عبارة من الفيلسوف فريدريش فرايهير فون هاردنبرج المعروف باسم نوفاليس عن معنى الفلسفة يقول فيها "الفلسفة هي الحنين إلى الوطن، إنها البحث الدائم لاستيلاد الشعور بالوجود في الوطن في كل مكان".
وفي حين يصف هايدغر مقولة نوفاليس "بالرومانسية" فإنه لا يزال يكمن فيها بوصفها نقطة انطلاق لتصوره للفكر الفلسفي. الطابع الرئيس للفلسفة هو السعي للوجود في الوطن في كل مكان، ويضيف هايدغر إن الفلسفة لا يمكن إلا أن تكون مثل هذه الرغبة، إذا لم نكن نحن من نتفلسف موجودين في الوطن في كل مكان. أن يكون المرء في الوطن في كل مكان يعني أن تكون في داخل الجميع في وقت واحد وفي جميع الأوقات، ونحن نطلق على هذا في "داخل الجميع" وطابعها كمال العالم.
إن فقدان هذا الكمال هو الفكرة المهيمنة على النفس في العصر الحديث. ينبثق الحنين للوطن من هذا الفقدان، ويدفعنا إلى البحث عن وطننا، ذلك المكان الذي نشعر فيه بالكمال مرة أخرى. في عصر "العقل المشرد" على حد تعبير بيتر بيرغر، ينبغي للمرء أن يبحث عن ملجأ نظرا للاحتمال المزعج أننا لن نجده أبدا، مثلما روي عن العارف المسلم أبو يزيد البسطامي الذي عاش في القرن التاسع "لا يمكنك أن تجد الحق بالبحث عنه، ومن وجدوه يواصلون البحث عنه".
في عصر النفوس المهجرة والعقول المشردة ينوه هايدغر إلى أن العلاقة بين الفكر الفلسفي والبحث عن مكاننا في العالم تقدم نظرة متبصرة لما يسميه "محدوديتنا" و"تفردنا". يرتكز تفاعلنا مع العالم على حقيقة أننا كائنات متناهية محدودة يمكنها فهم معنى الوجود بوصفنا كائنات فردية ومنعزلة.
نظر الفلاسفة المسلمون أيضا إلى العالم بوصفه المكان الذي نسعى فيه لكشف حقيقة ذواتنا وتحقيقها، لكن تعريفهم للفلسفة فيه نظرة إضافية إلى معاني الأشياء وصلتها بنا نحن البشر. ووفقا للتعريف التقليدي المتوارث من الكندي والفارابي وصولا إلى ملا صدر الدين الشيرازي فإن الفلسفة هي معرفة حقيقة الأشياء كما هي إلى أقصى حد ممكن بالنسبة إلى البشر، والعمل بحسب هذه المعرفة. يفترض هذا التعريف أن هناك شيئا من قبيل واقع الاشياء ومحدودية البشر يمكننا أن نجتهد لمعرفته. على أن المعرفة بوصفها نشاطا عقليا ليست كافية، فعلى المرء أن يعمل وفقا لما يعرفه، أي وفقا لحقيقة الأمور. وهذا يعني من جملة ما يعني، أخذ الواقع بالمعنى الأوسع للكلمة على محمل الجد، والتعامل معه بحذر وإجلال. لسنا أصحاب العالم وسادته، ولا يمكننا إلا أن نكون حراس مسؤولين له، ومتحاورين حكماء معه.
على أن هناك جانبا آخر معقدا في هذا الصدد، فالحقيقة ،كما عرفها الفلاسفة المسلمون، أكبر من أن يتمكن العالم من الإحاطة بها، فالحقيقة هي ما يسعى المرء لاكتشافه، وليست العالم في حد ذاته، وهي بمنزلة أرضنا وملاذنا ووطننا. إن الوجود في العالم في حد ذاته لا يعطينا أي امتياز في سعينا من أجل الحقيقة، بل يجب أن يكون هذا السعي مقرونا بفهم هذا العالم فهما يتجاوز القيود العقلية والنفسية.
هذا هو المكان الذي تأخذنا إليه الفلسفة، بوصفها ممارسة روحية، في رحلة تمكننا من مشاهدة مكاننا في العالم وما يكمن وراءه. إن الهدف النهائي للتفكير الفلسفي هو تجاوز وجودنا الفردي داخل" أفق الوجود" كما يسميه ملا صدر الدين. هذا هو المكان الذي تنضج فيه الفلسفة الشكلية وتتحول إلى الحكمة (حب الحكمة) وتقودنا إلى آفاق فكرية وروحية جديدة. هي رحلة نكتشف فيها ونعيد اكتشاف معنى الوجود ومكاننا فيه، وهلي الرحلة التي تمنحنا الملجأ والمكان المناسب في هذا العالم، وبهذه الكيفية نكون داخل أفق "الوجود في الوطن في كل مكان" .
لكن هذا لا يشير مطلقا إلى فلسفة الهروب من الواقع، حيث نغض الطرف عن الظلم والاستغلال في العالم، بل على العكس من ذلك لا بد من وجود النظرة الفلسفية السليمة والموقف الأخلاقي من أجل مواجهة المشاكل السياسية والاقتصادية من الاغتراب والحرمان اللذين نراهما متفشيين في العالم اليوم. لا ينبغي أن يكون الواقع السياسي الصعب ذريعة للتخلي عن سعينا وراء الحقيقة، ذلك أن سعينا وراء الحقيقة سيكون ممكنا عندما نستوعب المعنى الحقيقي للفكر الفلسفي بوصفه حكمة ونقاء روحيا. إن الغاية من الاستجواب الفلسفي هي إيقاظ الوعي فينا، وهدفها النهائي هو جعلنا بشرا أفضل حالا. وبصياغة ما قاله صدر الدين بعبارة أخرى، فأن تصبح شخصا أفضل يعني التغلب على ذواتنا والارتباط بمبدأ أعلى لا يمكن أن تحتكره أو تتلاعب به الذات الخادعة والأنا المتغطرسة، بل بإعادة تمركز الأنا القائدة واكتشاف الحقيقة الأكبر التي نحن جزء منها وأننا يمكن أن نكون في الوطن في كل مكان.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس