د. سعيد الحاج - المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
أولى العدالة والتنمية منذ وصوله للحكم في تركيا عام 2002 بملفين افتقدتهما تركيا قبل عهده أهمية بالغة في السنوات الأخيرة لما لهما من آثار استراتيجية على مستقبلها، وهما أمن الطاقة والتسلح.
فيما يتعلق بملف التسلح الذي اعتمدت أنقرة فيه على مدى عشرات السنين بشكل كامل على الخارج وخصوصاً المنظومة الغربية، سارت حكومات العدالة والتنمية في مشروع يتكون من مسارين متوازيين: الاستيراد والتصنيع المحلي، وقد قطعت في ذلك أشواطاً متقدمة بحيث صنّعت محلياً حتى الآن دبابات ومدرعات وسفناً حربية ومروحيات عمودية وطائرات بدون طيار وغيرها.
بعد أشهر من المفاوضات الثنائية، أعلن الرئيس التركي قبل أيام إتمام صفقة شراء منظومة S400 الدفاعية الجوية من روسيا، وهو ما أكدته المصادر الروسية أيضاً. بل قال اردوغان إن الدفعة الأولى من الصفقة أو "العربون" قد دفعت فعلاً ما يعني أن الخطوة المقبلة هي التوافق على آلية النقل والنشر على الأراضي التركية.
استدعت الخطوة بطبيعة الحال تحفظات غربية باعتبار أن تركيا عضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي يعتبر روسيا أكبر تهديد/عدو له، رغم أن التصريحات الرسمية لاحقاً أكدت على أن أي دولة عضو في الحلف هي من تقرر مصدر أسلحتها بنفسها دون تدخل من الحلف أو دوله الأعضاء.
وتعتبر S400 روسية الصنع من أفضل أنظمة الدفاع الجوي في العالم إن لم تكن أفضلها فعلاً، وهي نظام مطور عن S300 الروسية أيضاً وتتميز عنها بأنها متوسطة -بعيدة المدى (3500 كلم) وقادرة على رصد وتدمير الأهداف على بعد 400 كلم، وتشمل أهدافها الطائرات بما فيها تلك المسماة "الشبح" والصواريخ البالستية وصواريخ كروز وغيرها. ولأهميتها، ورغم إبداء عدد كبير من الدول رغبتها في شرائها، إلا أن موسكو لم تقدم على هذه الخطوة إلا مع الصين ثم تركيا اليوم.
وفق هذا السياق، يتخطى الأمر معنى شراء دولة سلاحاً من دولة أخرى إلى أبعاد استراتيجية، أهمها:
الأول: تحصين تركيا نفسها جوياً:
وهي التي تفتقر إلى منظومة للدفاع الجوي والصواريخ البالستية بما جعلها في مرحلة سابقة عرضة لهجوم صاروخي محتمل من خصومها في الأزمة السورية (النظام، طهران، موسكو) وأدى إلى نشر الناتو بطاريات صواريخ باتريوت على أراضيها، تلك التي سحبتها الدول الأوروبية لاحقاً بذرائع مختلفة.
اليوم، تعول أنقرة على ما هو أكثر من امتلاكها هذا السلاح الدفاعي شراءً، وهو نقل التقنية وتوطينها بما يتناغم مع مشروع التصنيع الدفاعي المحلي، وهو أمر كان متعذراً مع دول الناتو التي حاولت سابقاً الشراء منها، بينما اتفقت مع روسيا في هذه الصفقة على تحقيقه مستقبلاً.
الثاني: دعم مسار التعاون التركي – الروسي:
إعطائه زخماً غير مسبوق، فلم يعد الحديث اليوم مقتصراً على التعاون الاقتصادي والتجاري واستيراد الغاز الطبيعي (%55 من حاجة تركيا يأتي من روسيا)، ولا عن المشاريع العملاقة مثل محطة "أك كويو" للطاقة النووية ومشروع "السيل التركي" لنقل الغاز الطبيعي، ولا حتى تلاقي المصالح أو المهددات المشتركة في سوريا مثلاً.
ما نحن بصدده اليوم هو تعاون ذو بعد استراتيجي واضح يشمل سلاحاً غير عادي لم تقدم موسكو حتى الآن على بيعه إلا للصين التي تجتمع معها على حالة التنافس و/أو الخصومة مع المنظومة الغربية، وهذه إشارة مهمة لموقع تركيا في المنظور الاستراتيجي الروسي مستقبلاً إن لم يكن حالياً.
الثالث: هزة عنيفة للعلاقات التركية – الأطلسية:
فقد بقيت أنقرة طوال الحرب الباردة بمثابة قاعدة متقدمة للناتو في مواجهة التمدد السوفياتي وفق خطة مارشال، بينما تسعى في السنوات القليلة الأخيرة -مع العدالة والتنمية -لنوع من الاستقلالية النسبية والعلاقات الندية مع "حلفائها" الغربيين، الأمر الذي لم ولا يروق لهم.
تعيش تركيا اليوم إحدى أكثر الفترات توتراً في علاقاتها الغربية، مع الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، حتى وصل تدهور العلاقات إلى تصويت البرلمان الأوروبي على مشروع قرار/توصية بتجميد ملف عضوية تركيا في الاتحاد، وحديث ميركل عن نيتها تفعيل هذا المسار في تشرين الثاني/أكتوبر القادم، ودعوة وزير خارجيتها إلى وقف تصدير السلاح تماماً لتركيا، وتصاعد أصوات لإعادة النظر في عضوية تركيا في حلف الناتو نفسه.
لطالما اشتكت تركيا أنها تخضع لقرار حظر بيع سلاح غير معلن من الدول الغربية التي يفترض أنها حليفة لها، وخصوصاً في ملف المنظومة الدفاعية، حيث كانت عروض تلك الدول مماطلة وباهظة الثمن فضلاً عن رفض فكرة نقل التقنية لتركيا، ما دفع الأخيرة إلى التفاوض مع الصين أولاً ثم مع روسيا.
مسار التباعد بين أنقرة وحلفائها الغربيين وتقاربها مع موسكو ليس جديداً، فهو حصيلة سنوات من خطوات متدرجة شملت طلب عضوية منظمة "شنغهاي" التي تقودها روسيا والصين في مواجهة الناتو.
تعرض هذا المسار لانتكاسة شديدة مع أزمة إسقاط المقاتلة الروسية (نوفمبر 2015)، لكنه استؤنف لاحقاً ليصل اليوم إلى مستوى شراء S400 ، وإذا ما قدر له التطور أكثر فسيكون محطة فارقة في العلاقات التركية -الغربية وبوصلة السياسة الخارجية التركية، وربما ينبغي أن يسجل كعلامة نجاح كبيرة لتركيا أولاً ثم لروسيا التي تسعى منذ سنوات إلى احتوائها بعيداً عن الناتو والولايات المتحدة الأمريكية.
المشكلة الرئيسة بالنسبة للناتو فيما يتعلق بالمنظومة الدفاعية S400 أنها غريبة عن منظومته وبالتالي فلا يمكن دمجها معه أو التنسيق بينهما. أكثر من ذلك، فهذا النوع من الأسلحة الاستراتيجية يعمل على تصنيف الأهداف إلى "صديقة" و"عدوة".
وعليه فالمشهد هو أن روسيا "العدوة" أو مصدر الخطر بالنسبة للناتو ليست كذلك بالنسبة لتركيا عضوة الحلف، والعكس بالعكس.
يعني ذلك تحديات معينة بالنسبة لتركيا نفسها وحاجتها -كما يتحدث بعض الخبراء الاستراتيجيين -لمنظومة أخرى مكملة لها لتشمل كافة الأهداف "المعادية" المحتملة من الشرق والغرب. لكن التحدي الأبرز لشراء أنقرة لهذه المنظومة يتعلق بخياراتها بين الناتو وروسيا والرؤية الاستراتيجية لسياستها الخارجية على المدى البعيد.
تؤكد أنقرة أن هذه الصفقة حق سيادي لها لتأمين مصالحها والدفاع عن نفسها، وهذا صحيح.
وتقول أيضاً إن الأمر تقني أو إجرائي بحت ولا يشكل خطراً على الناتو أو تغييراً في علاقاتها معه، وهذا أمر قابل للنقاش وأعتقد أنه سيكون مناط جدل كبير في أروقة الحلف ولقاءاته الثنائية مع الساسة الأتراك من الآن فصاعداً.
والسؤال هو: هل ستتنبه الولايات المتحدة والدول الأوروبية لخطورة خسارة تركيا لصالح روسيا فتحاول الاستدراك، أم إن مسار "التوقع ذاتي التحقق" سيفرض نفسه تباعداً أكثر بين الطرفين، أم إن تركيا قد حسمت أمرها فعلاً وأن التحول إلى نوع من التوازن مع الشرق (روسيا والصين) مجرد مسألة وقت وإن طال؟ .
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس