
ياسين أقطاي - يني شفق
ها قد استقبلنا رمضان مجددًا كما في كل عام، حاملاً معه أرقّ النسائم وأعمق المعاني، فأنعشنا، وأنار دروبنا، وأيقظ قلوبنا، وأعاد ترتيب شتات أرواحنا، وها هو الآن يرحل، لكنه لا يتركنا وحدنا، بل يودّعنا تاركًا بين أيدينا الأمانات التي جاء من أجلها: القرآن الكريم، ووحدة الأمة فكرًا وشعورًا، وسنة النبي ﷺ الذي تلا علينا الوحي، وعلّمنا، وزكّى نفوسنا. هذه هي المهام العظيمة التي أعدّنا لها رمضان، ذلك المعلّم الفذّ الذي رافقنا شهرًا كاملًا ليؤهلنا لأدائها.
وبينما كان يعدّنا لهذه المهمة، أعطانا "سلطان الشهور" دروسًا عميقة عن الزمن، والحياة والموت، بل وعن أجسادنا ذاتها، ليجعلنا نشهد بوضوح أنها خاضعة لملك الملوك الذي لا ينازعه في ملكه أحد. لكنّه خص بهذه الدروس المؤمنين الذين أرهفوا أسماعهم، وأرادوا أن يتطهّروا، وأصغوا لهذا المعلّم، وسار معه في سبيل الهداية. أما الذين أعرضوا عنه، وصمّوا آذانهم عن ندائه، وأصرّوا على التيه في سجون ذواتهم، أو عنصريتهم وتكبرهم، أو في متاهات غفلتهم وشهواتهم، فلا حيلة لهذا المعلم معهم.
وكما ذكّرنا رمضان بروابطنا الممتدّة عبر الزمن مع الذين سبقونا، حيث فُرض عليهم الصيام كما فُرض علينا، فقد أحيا فينا هذا العام أيضًا إدراكًا أعمق بوحدتنا مع المسلمين الذين يمتثلون لهذه الفريضة في جميع أنحاء العالم، وجعلنا نوقن أكثر بأننا جميعًا جزء من جسد واحد. وهكذا، كان رمضان يرشدنا ويثبّت أرواحنا.
وفي رمضان هذا العام أيضًا، كان نبض قلوبنا في غزة، فالإبادة الجماعية الوحشية التي يمارسها الصهاينة القتلة على مدار 471 يومًا، استُؤنفت في النصف الثاني من رمضان، تمامًا من حيث توقفت. لقد رأينا بأعيننا مجددا كيف تجلّت فيهم صفات الغدر والخيانة التي حذّرنا منها كتاب ربنا الكريم، فزادنا ذلك يقينًا بصدق كلماته. أما هم فلم يحيدوا عن طباعهم، ولم يتجاوزوا ما لقّنهم إياه كتابهم المحرَّف. ولكن جميع أعمالهم، وما يقع من أحداث، يجري وفق ما أخبرنا به الكتاب الكريم، لا نرى فيه نقصًا ولا زيادة.
فهل تفتح هذه الأحداث عيون أولئك الذين يحاولون تغريبنا عن القرآن وإبعادنا عنه من خلال الجدل حول تاريخيته؟ كي تنكشف لهم الحقيقة، لا بد أن يروا أنفسهم جزءًا من هذا الجسد الذي يعيش في ظلال القرآن. أما الذين اختاروا أن يكونوا جزءًا من جسد آخر، ورهنوا أعينهم وآذانهم ووعيهم لغيرهم، فقد أصبحوا مجرد أدواتٍ تخدم أجندات الآخرين. ومع ذلك، نسأل الله لهم الهداية.
كل ما ورد في القرآن عن بني إسرائيل يحدث أمام أعيننا اليوم، فلا يمكن الوثوق بوعودهم، ولا يخوضون الحرب أبدًا إلا من وراء دروع منيعة وحصون محصنة. ولا يلتزمون بعهودهم أبدًا، ولا سبيل إلى حملهم على الالتزام إلا بترهيبهم بالقوة، فغير ذلك لا يجدي معهم نفعًا.
وحتى قبولهم بالهدنة لم يكن إلا لالتقاط أنفاسهم وكسب بعض الوقت أمام المقاومة الشرسة التي أصبحت كابوسًا يؤرقهم، والتي يستقبل فيها المجاهدون الشهادة وكأنها عرس. ورغم التزام حماس بكل الاتفاقيات، ظلت إسرائيل تماطل باستمرار، وحين اضطر نتنياهو في النهاية للموافقة تحت ضغط ملف الأسرى، استمر بلا هوادة في ارتكاب نفس الإبادة الجماعية، ولكن هذه المرة في الضفة الغربية.
وفي النهاية، دون أدنى حاجة إلى تبرير، استيقظ العالم ذات صباح ليجد الاحتلال قد أنهى الهدنة بمجزرة مروعة استهدفت مخيمات اللاجئين، وراح ضحيتها قرابة 500 فلسطيني، معظمهم من النساء والأطفال. قد تتخذ إسرائيل من "حماس" ذريعةً لعدوانها، لكنها لا تستهدف "حماس" وحدها، ولا غزة فقط. فمنذ سقوط بشار الأسد أحد شركاء الاحتلال في جرائم الإبادة، والذي ارتكب مجازر بحق شعبه على مدار 14 عاماً، لم تتوقف إسرائيل عن شنّ هجماتها على سوريا بشكل تعسفي، وكأنها تأخذ بثأره. فمنذ 8 ديسمبر، وهي تصعّد عملياتها العسكرية هناك بشكلٍ متواصل. وكذلك لبنان لم يسلم من عدوانهم، إذ قصفوا أمس مبنى في الضاحية الجنوبية ببيروت، وشنّوا غارات على عدة بلدات في الجنوب، بل وألقوا قنابل حارقة على بلدة الخيام، قبل أن يعاودوا قصف ميناء اللاذقية في سوريا.
وكما نعلم، لم يُعلن النظام الجديد في سوريا عن حرب رسمية أو حتى عداوة ضد إسرائيل. إن هذا العداء ضد شعب تخلص لتوّه من حكم استبدادي إبادي، دون أن تُتاح له فرصة لالتقاط أنفاسه سيؤدي إلى تغذية الكراهية تجاه إسرائيل دون انقطاع. إن النهاية المحتومة لإسرائيل ستكون نتيجة مباشرة لهذا العدوان، وهو ما سيتحقق تمامًا كما أشار إليه القرآن الكريم.
هذا العدوان والفساد الذي تظهره إسرائيل يثبت للجميع بشكل متزايد أنها أصبحت تهديدًا للسلام العالمي والإنسانية جمعاء.
ولكن، إلى جانب ما يعانيه المسلمون في غزة والضفة الغربية من ظلم وعدوان من قبل إسرائيل، فقد شهدنا تطورات إيجابية في هذا الرمضان مقارنةً بالسنوات الماضية. ففي سوريا، وبعد 14 عامًا من القمع والمجازر، استطاعت الثورة السورية التي صمدت طوال تلك السنين، أن تحقق انتصارًا حقيقيًا وتطيح بنظام البعث المستبد الذي دام 64 عامًا. وربما لأول مرة منذ قرن، عاش الشعب السوري رمضانًا يشعر فيه بطعم الحرية والكرامة والعزة. فكان فرحتهم وسعادتهم مصدرًا للبهجة لجميع المسلمين في هذا الشهر الفضيل.
وقبل يومين وردنا خبر آخر من السودان يحمل بشرى سارة ستضفي على العيد مزيدا من البهجة. وكما علمنا ديننا "إن مع العسر يسرا" وتجلي حكمة الله في تداول الأيام بين الناس تظهر في مثل هذه الأوقات. وعندما ننظر إلى الخبر من مرآة رمضان يتضح ذلك بشكل أكبر. ففي السودان، وبعد 23 شهرًا من المحاولة المدعومة دوليًا لاحتلال البلاد عبر انقلاب، تم أخيرًا طرد قوات الدعم السريع بالكامل من العاصمة الخرطوم. وقد كان هذا نتيجة لإرادة الشعب السوداني المسلم الذي وقف متحدًا مع دولته ومتضامنا معها كامل.
وهكذا استقبلنا رمضان هذا العام، فنحن الضيوف في الواقع، أما رمضان فهو يأتي كل عام ويستقبل أناسًا آخرين، ويقدم لهم نفس الدروس، ويمنحهم نفس المهام، ثم يرحل.
نسأل الله أن نكون من الذين استفادوا من دروسه وتعاليمه، ونسأله تعالى أن يبلغنا رمضان أعواما عديدة وأزمنة مديدة. وكل عام وأنتم بخير.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس