سعيد الحاج - عربي 21
بعد أسابيع معدودة من إعلان وزير الخارجية الأمريكي المُقال ريكس تيلرسون عن إستراتيجية بلاده للبقاء طويلاً في سوريا، خرج الرئيس الأمريكي قبل أيام بتصريح خارج ذلك السياق معلناً عن سحب قوات بلاده من سوريا "قريباً جداً".
تزامنت تصريحات ترامب مع استقبال الرئيس الفرنسي وفداً من قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في قصر الإليزيه، وهو اللقاء الذي صرحت بعض القيادات الكردية بعده بأن فرنسا تنوي إرسال قوات إلى منبج، وهو ما يُفهم منه دعم "قسد" في مواجهة تركيا. فكيف تلقت الأخيرة كلا التصريحَيْن؟ وقبل ذلك، إلى أي مدى يبدو التصريحان جادَّيْن وممكنَيْن؟
قد يتبادر للذهن أن الحديث عن بقاء القوات الأمريكية على المدى البعيد في سوريا جزء من "تركة" تيلرسون التي يسعى ترامب لتغييرها مع بومبيو، لكن ذلك لا يبدو تقييماً سليماً. لا يملك الوجود العسكري الأمريكي في سوريا مقومات الاستقرار على المدى البعيد، بسبب عدم ترحيب النظام بذلك، والوجود الروسي العسكري، ومواقف الفواعل والقوى الأخرى، ولأن سوريا تقليدياً خارج الحسابات الأمريكية ومحسوبة دائماً على روسيا، وهي الاختلافات الرئيسة مع الحال في العراق مثلاً.
لكن كل ذلك لا يعني أن واشنطن في طور سحب قواتها من سوريا "قريباً" كما قال ترامب، ليس قبل انتهاء عملية التفاوض مع الروس وانتقال القضية السورية إلى مرحلة جديدة على الأقل، من باب عدم تفويت الفرص وترك "الكعكة" السورية تماماً للكرملين. ولذا، ستكون رؤية البنتاغون مؤثرة ومحددة في هذا الإطار، ولعله ليس من الصعوبة بمكان توقع تقييمه للأمر، ومن دلالات ذلك إرسال تعزيزات أمريكية إلى منبج (وليس العكس) ونفي المتحدث باسم الخارجية الأمريكية علمه بأي توجه باتجاه سحب القوات.
ما هو سبب تصريح ترامب إذن؟ قد يكون الأمر "ارتجالاً" عودنا عليه الرجل في البيت الأبيض وترداداً لوعوده الانتخابية النابعة من رؤيته لمختلف القضايا والأزمات من نظارة رجل الأعمال وليس السياسي، وقد يكون الأمر رسالة لبعض الأطراف بتحمل العبء المادي للقوات الأمريكية في سوريا، وهو ما أرجّحه إذ صدرت بعض الإشارات على تلقف تلك الرسالة والتفاعل معها.
وأما فكرة حلول قوات فرنسية بدل الأمريكية في منبج "لحماية" الفصائل الكردية مقابل تركيا فلا تبدو منطقية، إذ تركيا اليوم في أقوى حالاتها في سوريا والفصائل الكردية في أضعف حالاتها ومنبج "ساقطة" بالمعنى العسكري في حال قررت تركيا دخولها، فضلاً عن رغبة أي من الطرفين -تركيا وفرنسا- العضوين في الناتو في أي مواجهة عسكرية مباشرة بينهما ولو كانت محدودة. ولعله من المهم هنا الإشارة إلى أن بيان الإليزيه تحدث عن دعم فرنسا لـ"قسد" من أجل تحقيق الاستقرار في المنطقة الأمنية في "شمال شرق سوريا"، وهي المنطقة التي لا تشمل منبج.
يمكن فهم الأمر في سياق بحث ماكرون عن دور ما في سوريا ومحاولة لإثبات فرنسا نفسها في بعض ملفات المنطقة، كما حصل في أزمة احتجاز رئيس الوزراء اللبناني مؤخراً، كما أنها ترى لنفسها دوراً خاصاً أو نوعاً من الوصاية على سوريا تأتي من سنوات الانتداب.
رفضت أنقرة فكرة "توسط" باريس بينها وبين "الإرهابيين" وأعلنت عن ذلك بلهجة حادة تجاه فرنسا ورئيسها، ولا يبدو أنها تأخذ أنباء إرسال قوات فرنسية إلى منبج على محمل الجد، كما لا يبدو أنها قد غيرت شيئاً من رؤيتها وخطتها بشأن منبج.
ما تنتظره تركيا هو تقلد بومبيو منصب وزير الخارجية رسمياً بعد إقرار الكونغرس لذلك، لبحث مصير منبج والملف السوري عموماً بشكل مباشر معه، وتفعيل آلية الحوار المشترك التي أقرها تيلرسون مع تشاووش أوغلو وبدأت اجتماعاتها في واشنطن، والاطمئنان على التزام بومبيو بتفاهمات سلفه.
أرسلت أنقرة مستشار وزارة خارجيتها إلى واشنطن قبل أيام وسمع كلاماً طيباً حول استمرار التفاهمات التركية - الأمريكية وفق المصادر التركية، بانتظار أي تأكيد أمريكي لهذا المعنى. لكن في نهاية المطاف تؤكد تركيا أنها تحكم على الأفعال لا الأقوال، لا سيما وأن الولايات المتحدة سبق ونكثت عدة عهود قطعتها لها. فقوات سوريا الديمقراطية ما زالت في منبج، وتسلمت أسلحة ثقيلة ونوعية لم تسحب منها، وتعاون واشنطن معها انتقل من التكتيكي المؤقت إلى الاستراتيجي.
وعليه، تنتظر تركيا بفارغ الصبر انتهاء الفترة الانتقالية في وزارة الخارجية الأمريكية التي أتت في وقت حساس بالنسبة لها، وتريد أن تسمع من بومبيو كلاماً واضحاً بخصوص منبج أولاً والتعاون مع الفصائل الكردية المسلحة ثانياً وملفات أخرى خلافية ثالثاً.
لكن الانتظار التركي يبدو مترقباً ومتأهباً، ويؤكد الساسة الأتراك وفي مقدمتهم الرئيس أردوغان أن بلادهم مصممة على إخراج "قسد" من منبج والاستمرار في مواجهة مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي في سوريا، ما يضع الكرة في ملعب واشنطن، التي باتت تدرك أكثر من أي وقت مضى جدية تركيا في هذا الملف وخطورة خسارتها وإلقائها في الحضن الروسي.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس