
إسلام الغمري خاص ترك برس
يشهد العالم اليوم تحولات دراماتيكية تتجاوز مجرد إعادة ترتيب التحالفات أو تنافس القوى التقليدية. إنها عاصفة عالمية تضرب أساسات النظام الدولي، وتعيد تشكيل الخرائط الجيوسياسية والاقتصادية. ومع عودة دونالد ترامب إلى المشهد السياسي الأمريكي، تزداد التوقعات بأن هذه العاصفة ستشتد، خاصة في منطقة الشرق الأوسط، التي لطالما كانت ساحة للاختبارات الجيوسياسية الكبرى.
في هذا السياق، تبرز تركيا كلاعب محوري يقرأ متغيرات المرحلة بوعي استراتيجي، ويعيد تموضعه على نحو مرن وقوي في آنٍ معًا. تصريحات الرئيس رجب طيب أردوغان الأخيرة تؤكد أن أنقرة لا تنتظر رياح التغيير، بل تستعد لها، بل وربما تسعى لتوجيهها وفقًا لمصالحها الوطنية العليا.
عودة ترامب: تحالفات صادمة وعلاقات متوترة
عودة ترامب إلى واجهة القرار الأمريكي تعني الكثير للمنطقة، وخصوصًا لتركيا. فالرجل الذي أطلق يد إسرائيل إلى أقصى مدى، وبارك سياسات التطبيع، وانسحب من التزامات استراتيجية في الشرق الأوسط، يعود حاملاً مشروعًا أكثر صدامية مع الخصوم، وأكثر انتقائية مع الحلفاء.
بالنسبة لتركيا، فإن ترامب يمثل معادلة معقدة: هو ليس خصمًا مباشرًا، لكنه ليس حليفًا مضمونًا. في فترته السابقة، شهدت العلاقات بين أنقرة وواشنطن لحظات شديدة التوتر، كما في قضية القس الأمريكي، وصفقة صواريخ إس-400 الروسية، والعقوبات الاقتصادية. لكن في الوقت ذاته، كان ترامب أكثر تفهمًا لبعض مصالح أنقرة، لا سيما في سوريا، حيث منح الضوء الأخضر للتوغل التركي في بعض مناطق الشمال السوري.
تحولات الشرق الأوسط: من التبعية إلى التوازنات الجديدة
الشرق الأوسط يدخل مرحلة جديدة عنوانها “كسر التبعية” للقطب الأمريكي. فالدول الكبرى، ومنها تركيا، باتت تبحث عن تنويع الشراكات والانفتاح على القوى الصاعدة كروسيا والصين، دون التفريط في العلاقة مع الغرب. وهذا ما تجيده تركيا ببراعة، حيث تنسج شبكة علاقات متوازنة، تمكّنها من التحرك بحرية أكبر.
في ظل سياسات ترامب المرتقبة، يُرجَّح أن تزداد الفجوة بين واشنطن وبعض العواصم العربية، مما يمنح أنقرة هامش مناورة أوسع، خاصة في ملفات مثل سوريا، وليبيا، والبحر المتوسط، وربما حتى في ملف غزة الذي عاد إلى الواجهة بقوة بعد حرب 2024.
أردوغان: قراءة دقيقة لملامح المرحلة
تصريحات الرئيس أردوغان الأخيرة تكشف عن إدراك عميق بأن العالم على أعتاب مرحلة انفجار كبرى. هو لا يتحدث عن “عاصفة قادمة” فقط، بل يؤكد أن النظام العالمي يتعرض لهزة من جذوره. في ظل هذا الواقع، تضع أنقرة استراتيجية واضحة:
• تعزيز القدرات العسكرية، لا سيما الصناعات الدفاعية المحلية.
• تأمين النفوذ الإقليمي في محيطها الجغرافي، من القوقاز إلى المتوسط.
• الاستعداد لكل السيناريوهات القادمة، سواء كانت سياسية أو عسكرية.
سيناريوهات التأثير على تركيا
في ضوء عودة ترامب المتوقعة، يمكن رسم عدد من السيناريوهات المحتملة لتأثير ذلك على تركيا:
1. تصعيد في ملف العلاقات الثنائية: خاصة إذا عادت قضية شراء الأسلحة الروسية أو ملف حقوق الإنسان إلى واجهة المشهد.
2. فرص جديدة في سوريا: ترامب قد ينسحب مجددًا من بعض مناطق النفوذ الأمريكي، ما يمنح تركيا فرصة لترسيخ وجودها في الشمال السوري.
3. تعزيز الحضور في آسيا الوسطى والبلقان: مع انشغال واشنطن بمواجهة الصين وروسيا، قد تجد تركيا فراغًا استراتيجيًا في مناطق تعتبرها امتدادًا حيويًا لها.
4. التوتر في ملف الطاقة شرق المتوسط: وهو ملف مرشح للاشتعال مجددًا، خاصة مع دعم أمريكي محتمل للتحالف اليوناني-الإسرائيلي.
الشرق الأوسط ما بعد ترامب: نحو ملامح جديدة
المنطقة لن تعود كما كانت. فحالة السيولة السياسية والاقتصادية، والانقسامات الإقليمية، والتغيرات في موازين القوة، كلها عوامل تصب في اتجاه إعادة تشكيل الشرق الأوسط.
تركيا، التي لم تعد مجرد “دولة أطراف” تابعة للقرار الغربي، تدخل هذه المرحلة برؤية شاملة، وقوة عسكرية صاعدة، وشبكة تحالفات مرنة، تجعلها في موقع فاعل لا متفاعل.
خاتمة
تركيا تقف اليوم على مفترق طرق بين شرق يشتعل وغرب يتصدع. لكن ما يميزها هو أنها لا تنتظر من يرسم لها الطريق، بل تبادر إلى تحديد بوصلتها بنفسها. ومع صعود ترامب مجددًا، ستزداد التحديات… لكن أيضًا ستزداد الفرص. ويبقى السؤال: هل تنجح أنقرة في تحويل العاصفة إلى فرصة تاريخية؟
الجواب قد تحمله الشهور القادمة، لكن المؤكد أن تركيا اليوم تقف بثبات في عين العاصفة… وهي مستعدة لها.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس