د.  أحمد أويصال - الشرق القطرية

لا يزال العالم العربي يعاني من أزمات متلاحقة ودمار مستمر منذ سنوات طويلة. وفي مقال نُشر العام الماضي، أشرنا إلى أن السودان سيكون الضحية الثانية في عام 2024 بعد غزة. وبالفعل، شهد هذا العام مآسي إنسانية كبيرة في كل من غزة والسودان، غير أن الأزمة السودانية لم تحظَ باهتمام كافٍ على الساحة الدولية. ومع دخول العام الجديد واستمرار الدمار في غزة، بدأت تظهر بوادر انفراج في السودان، حيث تبدو الأزمة الدامية التي استمرت لعامين، وشهدت جرائم قتل ونهب واغتصاب وتهجير، في طريقها إلى الانتهاء، مما يمنح الشعب السوداني فرصة لالتقاط الأنفاس. ولم تقتصر تداعيات هذه الأزمة على الداخل السوداني فحسب، بل أثّرت بشكل مباشر على استقرار المنطقة بأكملها. فقد سعت قوات الدعم السريع، التي تلقت دعماً واضحاً من دولة الإمارات العربية المتحدة، إلى الاستيلاء على السلطة عبر انقلاب عسكري في عام 2023، مما فاقم حالة الفوضى وأدى إلى تصعيد خطير في الصراع الداخلي.

خلال العامين الماضيين شهد السودان دماراً واسعاً. فإلى جانب الاشتباكات المتبادلة، ارتكبت قوات الدعم السريع، التي جنّدت مرتزقة من عدة دول إفريقية، انتهاكات جسيمة في المناطق التي تسيطر عليها. وقد انعكست هذه الانتهاكات على تقارير لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة. وقد تم تهجير ما لا يقل عن 14 مليون سوداني من مناطقهم ويعانون حالياً من أزمات اقتصادية حادة. كما تتكرر الانتقادات بشأن نهب المساعدات الإنسانية أو منع إيصالها في المناطق الخاضعة لسيطرة قوات الدعم السريع. ويُذكر أن السودان، الذي يُعد «سلة غذاء إفريقيا»، يعاني اليوم من أزمة غذائية خطيرة، حيث تشير التقارير إلى أن نحو 25 مليون شخص داخل البلاد يواجهون نقصاً حاداً في الغذاء.

بعد اشتباكات عنيفة، تمكنت القوات المسلحة السودانية (SAF) خلال الأشهر الأخيرة من السيطرة الكاملة على العاصمة الخرطوم، مما منحها أفضلية كبيرة وغير من توازن الحرب ونفسيتها. أما قوات الدعم السريع التي انسحبت من الخرطوم، فعودتها التكتيكية باتت شبه مستحيلة. وتحمل هذه التطورات أيضاً أهمية على صعيد الشرعية الدولية، إذ كانت بعض الدول تروج لفكرة أن ما يجري في السودان هو حرب أهلية وأن الطرفين متساويان في القوة والشرعية. بل إن قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو ويُلقب بـ»حميدتي»، استُقبل العام الماضي في بعض العواصم الإفريقية وكأنه رئيس دولة.

* مع اقتراب نهاية الأزمة، ستخرج الدول التي لم تدعم الانقلاب في السودان - وعلى رأسها مصر والسعودية وقطر وتركيا - مستفيدة من الوضع الجديد. فقد أبدت الحكومة المصرية انزعاجاً شديداً من الأزمة في السودان، وكانت تخشى من تكرار فوضى مماثلة داخل أراضيها. ويُعد استقرار السودان، الذي يشكل ممراً حيوياً لمياه النيل، أمراً بالغ الأهمية لمصر، كما أن الضغط الناتج عن اللاجئين السودانيين على الأراضي المصرية قد يتراجع. ومن الطبيعي أن تُعتبر تركيا وقطر أيضاً من الرابحين في هذه التطورات، إذ إن كلا البلدين ينظران إلى الاستقرار الإقليمي كميزة استراتيجية، ويعارضان الانقلابات العسكرية والتدخلات الخارجية، ويعتبران السودان القوي حليفاً طبيعياً في المنطقة.

إن حل الأزمة في السودان من شأنه أن يُعزز الاستقرار في منطقة القرن الأفريقي، ومنطقة الساحل، وحوض البحر الأحمر، وهي مناطق عانت من تداعيات النزاعات المسلحة وحركات النزوح الواسعة. وقد تضررت الزراعة والتجارة داخل السودان وعلى مستوى الإقليم بشكل كبير بسبب الحرب، إلا أن الأمل معقود اليوم على تحسن هذه الأوضاع في ظل التهدئة الجارية. انتهاء حالة الفوضى في السودان يُعد أيضًا مكسبًا للدول التي استقبلت أعدادًا كبيرة من اللاجئين السودانيين، كمصر وتشاد وجنوب السودان وحتى إثيوبيا، وهي دول تواجه أصلاً تحديات اقتصادية صعبة، ما يجعل من عودة الاستقرار في السودان أمرًا بالغ الأهمية بالنسبة لها.

* لن تكون التطورات الأخيرة في السودان محل ترحيب لدى الدول الغربية التي تسعى لإبقاء حالة الفوضى في الشرق الأوسط، وعلى رأسها إسرائيل. فعلى الرغم من أن الغرب دعم الجناح الليبرالي الذي أسقط نظام البشير عبر الاحتجاجات، إلا أنه لم يكن يرغب فعليًا في انتقال حقيقي للديمقراطية في البلاد. أما اليوم، فقد أعلن الجنرال عبد الفتاح البرهان، الذي يقود البلاد حاليًا، أن الجيش سيسلم السلطة للمدنيين بعد انتهاء الحرب. وعلى الرغم من الأزمات المتعددة التي يواجهها السودان، فإن توقف العقوبات الغربية والتدخلات الخارجية، وترك القرار للسودانيين أنفسهم، قد يفتح الباب أمام نهضة حقيقية. فالسودان بلد غني بالموارد الطبيعية كالبترول والذهب، إضافة إلى الأراضي الخصبة والطاقات البشرية، ما يؤهله لتحقيق تقدم سريع إذا توفرت له الظروف الملائمة.

عن الكاتب

د. أحمد أويصال

مدير مركز أورسام لدراسات الشرق الأوسط وأستاذ العلاقات الدولية بجامعة إسطنبول


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس