د. سعيد الحاج
يُظهِر الاهتمام الكبير بالانتخابات التركية المقبلة في العالم العربي مدى أهمتها ليس فقط للناخب التركي بل وللمواطن العربي لعدة أسباب. فقد أصبحت تركيا دولة إقليمية فاعلة ومتداخلة مع قضايا المنطقة، ولها مواقفها من عدة ملفات حساسة وهامة بدءاً من سوريا ومروراً بفلسطين ومصر ووصولاً إلى الأزمة الخليجية، فضلاً عن خصوصية الانتخابات القادمة وحساسيتها وكذلك الاهتمام المباشر بالتجربة التركية وتفاعلاتها.
يعني ذلك أن الانتخابات التركية المقبلة، الرئاسية والبرلمانية المتزامنة، لم تعد شأناً داخلياً تركياً بالنسبة للكثيرين في العالم العربي، كما أن السياسة الخارجية باتت تحتل جزءاً أكبر من اهتمام الناخب التركي مما كانت عليه سابقاً. ويزيد من أهمية كل ما سبق الاختلاف الكبير بين المرشحين الرئاسيين والأحزاب – خصوصاً بين العدالة والتنمية والشعب الجمهوري – فيما يتعلق بالسياسة الخارجية عموماً ومنطقة الشرق الأوسط والعالم العربي على وجه الخصوص.
وتتبدى هذه الفروقات بين المرشحين والأحزاب الرئيسة في ثلاث سياقات، الخلفية الفكرية والسياسية لكل منهم، والبرامج الانتخابية للأحزاب، ومضمون خطاب الحملات الانتخابية للمرشحين الرئاسيين.
وبالعودة إلى البرامج الانتخابية التي عرضتها الأحزاب التركية، يمكن إبداء ملحوظة رئيسة على السياسة الخارجية، وهي كونها أحد أهم القطاعات من حيث الاختلاف والحجم وتباين الرؤى والوعود الانتخابية بين مختلف الأحزاب، خصوصاً حزب العدالة والتنمية الحاكم ومرشحه الرئيس الحالي اردوغان وحزب الشعب الجمهوري ومرشحه محرّم إينجة. وبسبب الفروقات القليلة بينهما وبين الأحزاب المتحالفة معهما في تحالفي “الشعب” و”الأمة”، يمكن دراستهما – العدالة والتنمية والشعب الجمهوري – كعينة عن برامج عموم الأحزاب التركية فيما يتعلق بالعالم العربي والمنطقة عموماً والقضية الفلسطينية على وجه الخصوص.
ثمة رؤية عامة للسياسة الخارجية تفرض نفسها في البرنامج الانتخابي للحزبين وتصدر عنها رؤى تفصيلية لاحقة لبعض القضايا المهمة. يدفع حزب العدالة والتنمية نحو استمرار السياسة الخارجية الحالية التي يصفها بأنها متعددة المحاور وإنسانية، والتي تسعى لدور ومكانة أكبر لأنقرة في الإقليم والعالم، وترى تركيا “صوتاً للمظلومين” ورائداً من رواد العالم الإسلامي والمناهِضة لتيار الإسلاموفوبيا في الغرب وأحد الداعين لنظام دولي “أكثر عدلاً” تحت شعار “العالم أكبر من خمسة”، فضلاً طبعاً عن أولوية مكافحة المنظمات الإرهابية.
أما الشعب الجمهوري فيرى في السياسة الخارجية الحالية خطأ ينبغي تصويبه، ويدعو إلى “الاستقرار والمكانة” أي عودة تركيا لسياستها الخارجية التقليدية الحذرة الملتزمة ببعض السقوف والمنسقة مع مختلف الأطراف تحت شعار “سلام في الوطن، سلام في العالم” الذي رفعه مصطفى كمال أتاتورك في بدايات الجمهورية التركية الوليدة، مع عدم إهمال هدف مكافحة المنظمات الإرهابية.
الملحوظة الرئيسة فيما يتعلق بقضايا المنطقة والعالم العربي في البرنامجين الانتخابيين هو تراجع ترتبيها كثيراً على سلم الأولويات، فتبرز منطقة الشرق الأوسط في المرتبة التاسعة في برنامج العدالة والتنمية والعاشرة في برنامج الشعب الجمهوري، بعد الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وروسيا والبلقان وقبرص والقوقاز وآسيا الوسطى، وغيرها.
يَعِدُ حزب العدالة والتنمية بـ”استمرار الحوار والسياسات متعددة المحاور المعتمدة على المصالح والمنافع المتبادلة” مع دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. كما يتعهد باستمرار دعم تركيا لضمان أمن واستقرار دول المنطقة التي تتعرض لمخاطر مثل “المقاربات المفرِّقة والإقصائية المعتمدة على أسس عرقية ومذهبية” وخطر الإرهاب، ويَرِدُ ذِكْر منظمة التعاون الإسلامي – ودورها وضرورة إصلاحها وتفعليها – في برنامجه عدة مرات.
من جهته، يَعِدُ حزب الشعب الجمهوري بترك ما أسماها “السياسات الخاطئة والفاشلة ما بعد الربيع العربي”، واتباع سياسة خارجية بعيدة عن “المغامرة، والكِبْر، والانتهازية، والمذهبية والحماسة”. ويدعو إلى إنشاء منظمة إقليمية سيسميها “منظمة الشرق الأوسط للسلام والتعاون” تكون دولها المؤسِّسة إيران والعراق وسوريا وتركيا.
وباعتبارها أصبحت أقرب إلى الشأن الداخلي التركي، ثمة تخصيص للقضية السورية في البرنامجين الانتخابيين. فالعدالة والتنمية يؤكد التزامه بمواصلة جهود تركيا للتوصل إلى “حل سياسي نهائي على أساس مطالب الشعب السوري المشروعة”. ويتعهد الحزب بالعمل لبناء “سوريا موحَّدة جغرافياً وسياسياً، تعيش بسلام واستقرار، وفق نظام ديمقراطي وذي شرعية، وتعود لاحتضان ملايين السوريين الذين هُجِّروا من أراضيهم خلال فترة الصراع”، وهي “سوريا الجديدة” التي تريد تركيا إعادة تأسيس “علاقات الجوار والتعاون معها”.
حزب الشعب الجمهوري المعارض يعد بدعم “كافة المبادرات الدولية ومبعوث الأمم المتحدة الخاص لسوريا” التي تهدف إلى ضمان وحدة أراضي سوريا وسعادة شعبها، ودعم حل سياسي يقرر فيه الشعب السوري “بعد فرض الاستقرار وسحب سلاح فواعل ما دون الدولة”.
وفيما يتعلق بـ”اللاجئين” السوريين المتواجدين على الأراضي التركية[i]، يضع العدالة والتنمية التعامل معهم تحت بند “السياسة الخارجية الإنسانية والأخلاقية” ويعد باستمرارها ومأسستها، ويعتمد في سياساته مبدأ إنشاء “مناطق آمنة” في سوريا تمكّن من يريد من العودة لبيته فضلاً عن سعيه في الفترة الأخيرة لتجنيس جزء منهم. أما الشعب الجمهوري فيتعهد بضمان “عودة الراغبين من السوريين” الموجودين في تركيا تحت بند الحماية المؤقتة إلى بلدهم بعد الحل السلمي “بشكل متدرج، وآمن، ولا يضر بهم”.
ويتفق الحزبان على دعم السلام والاستقرار والعدالة في العراق، وعلى أوليات مكافحة الإرهاب ودعم تركمان العراق والتعاون في مجال الطاقة؛ كما يتفقان على ضرورة تطوير العلاقات الثنائية مع إيران والتعاون معها في المنطقة.
وفي حين غاب التطرق بشكل مباشر للعلاقة مع دول الخليج العربي عن برنامجي الحزبين، وغابت مصر عن برنامج العدالة والتنمية كذلك، تحدث برنامج الشعب الجمهوري عن “إعادة تأسيس العلاقات الاقتصادية والثقافية والسياسية المتدهورة مع مصر، على أسس الثقة والصداقة والتكافل” والتعاون مع القاهرة لحل مشاكل المنطقة.
تمثل القضية الفلسطينية عنواناً مهماً في السياسة الخارجية التركية خصوصاً مع العدالة والتنمية، وتقاربها أنقرة من زاوية حل الدولتين ودعم المبادرة العربية للسلام، لكن أيضاً في ظل علاقات أكثر من جيدة مع مختلف الأطراف الفلسطينية وباهتمام خاص توليه أنقرة لوضع القدس القانوني وغزة الإنساني[ii]. ورغم اتفاق إعادة العلاقات الدبلوماسية بين أنقرة وتل أبيب عام 2016، وما نتج عنه من ارتفاع مستوى العلاقات التجارية التي لم تتأثر أصلاً بالقطيعة، إلا أن الحساسية التركية تجاه الممارسات “الإسرائيلية” خصوصاً فيما يتعلق بالقدس وحصار غزة استمرت وتزايدت بشكل ملحوظ[iii].
القضية الفلسطينية حاضرة في برنامجي الحزبين الحاكم والمعارض. العدالة والتنمية يعد باستمرار “الدعم الكامل للقضية الفلسطينية”، ويدعم إعادة إحياء عملية السلام في الشرق الأوسط على أساس سليم، ويتعهد بتكثيف فعاليات تركيا كرئيس دوري لمنظمة التعاون الإسلامي، واستمرار المساعدات للفلسطينيين، ووقوف تركيا ضد “أي مبادرة غير قانونية وتتعارض مع قرارات الأمم المتحدة بخصوص القدس والمسجد الأقصى”.
أما الشعب الجمهوري فيقارب الأمر تحت عنوان “إسرائيل والمشكلة الفلسطينية”، ويعلن دعمه لكل المبادرات التي تعتمد على حل الدولتين، ويقرر أن مقاربة تركيا نحو المشكلة الفلسطينية ستضمن تناولها “دون الانزلاق نحو التشدد الإسلامي ومعاداة السامية”، ويتعهد بإلغاء التأشيرة (الفيزا) عن الفلسطينيين، وإلغاء اتفاقية “مافي مرمرة”[iv].
وقبل الإشارة إلى دلالات كل ما سبق، ينبغي الإشارة سريعاً إلى نقطتين مهمتين:
الأولى، سيبدأ مع الانتخابات تطبيق النظام الرئاسي الذي يعطي الرئيس صلاحيات واسعة ويزيد من قدرته على توجيه مؤسسات الدولة ومن ضمنها وزارة الخارجية، ما يمنحه دوراً أكبر وفرصة فرض رؤيته على السياسة الخارجية[v].
الثانية، أن النظام الرئاسي بطبيعته أكثر قوة واستقراراً من النظام البرلماني، وهذا سيضيف لسياسة تركيا الخارجية – إذا ما أرادت أنقرة – زخماً وقوة وسرعة في بعض الملفات، خصوصاً القضية السورية[vi].
إن القراءة المتأنية لما يتعلق بقضايا العالم العربي والقضية الفلسطينية في برامج الأحزاب التركية، وما يصدّقها من أفكار وسياسات قدمتها وتقدمها، يدفعنا للقول إنها من أبرز نقاط الاختلاف بين الحزب الحاكم والمعارضة.
ففي حين يريد العدالة والتنمية استمرار سياساته الإقليمية بل وتدعيمها وتفعيلها مع تطبيق النظام الرئاسي، تريد المعارضة العودة لسياسة الانطفاء عن المنطقة والالتزام بسقوف حلفائها. وفي مقابل اعتبار القضية الفلسطينية كجزء رئيس من منظومة “السياسة الخارجية الأخلاقية” لدى الحزب الحاكم، تنظر إليها المعارضة من عدسة العلاقة مع “إسرائيل” والخوف من “التشدد الإسلامي”. وبالمقارنة مع مقاربة اردوغان للملفين السوري والمصري ومحاذيرهما، يبدو منافسوه أكثر استعجالاً لتطبيع العلاقات والتعاون معهما.
إن الاختلافات الواضحة في السياسة الخارجية المتعلقة بقضايا المنطقة بين الحزبين الرئيسين في البلاد – لا سيما في ظل النظام الرئاسي – تعني أنه في حال تغير اسم الرئيس والحزب الحاكم فإن سياسة تركيا الخارجية مرشحة على متغيرات جذرية فيما يتعلق بقضايا العالم العربي. وهو الأمر المستبعد على أي حال في الانتخابات الرئاسية (رغم تعقد حسابات البرلمان) وفق معظم التوقعات وبناء على مشاهدات الشارع التركي وحقائق الخرائط المجتمعية والسياسية والفكرية في تركيا والغالبية العظمى من استطلاعات الرأي.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس