ياسين جمول - خاص ترك برس
ما زالت وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي تضجّ بالانتخابات التركية وفوز الرئيس أردوغان وحزبه فيها؛ على نحوٍ لا يدع مجالاً للشكّ أنها لم تكن انتخاباتٍ محليةً فحسب، وإنما كانت انتخاباتٍ تركيةً من حيث البلدُ والمرشَّحون والناخبون، لكنها انتخابات دولية من حيث المتضررون والمستفيدون والمهتمون؛ ما يؤكد أن إسطنبول في قلب العالم شاء مَن شاء وأبى مَن أبى؛ لنجد على نحوٍ نادرٍ من بعد انتهاء الخلافة احتفالات بفوز أردوغان وحزبه في أقطار شتى من العالم.
وعلى كثرة ما قيل وكُتب في هذه الحدث الدولي الكبير؛ فإن فيه زاوية لم تأخذ حقّها من الاهتمام، فالذي غابَ وهو الحاضر، وابتعد عن الكاميرات وظلّه في الساحة هو رئيس حزب الحركة القومية (MHP) دولت باهتشلي، الذي وافق أردوغان وحزبه أول مرة في التعديلات الدستورية التي تقلب نظام الحكم في تركيا إلى نظام رئاسي مختلف كثيراً عما كان قائماً، ثم تقدّم خطوة أخرى ليقفز إلى حيث لم يقدر (أردوغان) أخوه أن يتقدّم لاعتبارات كثيرة فطالبَ بالانتخابات المبكّرة، لتتجه الدولة برمّتها إلى الانتخابات خلال فترة وجيزة، لكنه لم يخلِّ بين أخيه والفراعنة ولا هو وقف معهم لتكون لهم الغلبة على (العدو المشترك) وهو أردوغان وحزبه، إنما أعلنها مدويةً: نحن مع الرئيس أردوغان وحزبه في الانتخابات. فكانت النتيجة فوز تحالف أردوغان باهتشلي أو العدالة والتنمية الحركة القومية في البرلمان، متزامناً مع فوز أردوغان بالرئاسة.
وهنا نقاط عدة فيها دروس في السياسة والحياة كثيرة؛ فدولت باهتشلي خصم ليس بهيّن لأردوغان وسبق له التحالف ضده في الانتخابات الرئاسية السابقة، ويقود الحركة القومية التي تختلف في الكثير عن العدالة والتنمية، فالاثنان ينطلقان من خلفيتَين حزيتَين مختلفتَين، ولكل منهما جمهوره ومؤيدوه، لكن دوائر الاهتمام والعمل قد تتقاطع وقد تتخالف وتتنافر، فالذي تبيّن لباهتشلي أن التحالف مع أردوغان وحزبه هو الذي في صالح تركيا فتقدّم نحوه. لا أقول: بعيداً عن مصلحة حزبه تماماً، لكنه قدّم ما رأى فيه المصلحة العليا على المصلحة الحزبية، ولولا ذلك ما انشقت ميرال أكشنار وسحبت معها جزءاً من أنصار الحركة القومية بعد تحالف باهتشلي مع أردوغان. ففي هذا التقديم للمصلحة الوطنية على المصلحة الحزبية درس كبير لنا في الشام وثورتها التي نُحرت في مفاصل كثيرة بسبب تعنّت هذا القائد أو ذاك الفصيل وتغليب الفصائلية أو المناطقية على المصلحة الوطنية العليا.
إن ما دفعته الحركة القومية ضريبةً لموقفها مع العدالة والتنمية ليس بقليل، ولم يهتموا لأنهم جربوا التحالف ضدهم ولم يجنوا نتيجة، ورجحت كفة أردوغان وأطارت بمرشحهم التوافقي حينها إحسان إكمال الدين أوغلو، فكان قرارهم في التعاون مع خصم الأمس ليستمرّ في مسيرته في بناء تركيا وتحقيق رؤيته لعام 2023 وما بعده. فكان خروج ميرال ببعض الحزب وحمل راية القومية واتخاذ شعار قبيلة الكايي أصل التُّرك رمزاً لحزبها لاستمالة القوميين الأتراك عن الحركة القومية، وإقناع عموم الأتراك بنفسها بديلاً عن أردوغان، فكان فشلها مضاعفاً؛ فلا هي استطاعت تجاوز نسبة الحركة القومية كحزبٍ في الانتخابات البرلمانية، ولا هي جاءت كمنافسة لأردوغان الذي تجاوزَها بأضعاف مضاعفة. وهذا يؤكد وعي الأتراك القوميين الذي لم يغرّهم الشعار ولم يزعجهم تحالف الحركة مع الخصم ما دام في مصلحة الوطن. وكم وقعنا في الشام بتكفير بعضنا وتخوين آخرين لتحالفات لم نفهم حقيقتها إلا بعد دفع ضريبة المعاندة والخصومة على غير هدى ولا بيّنة!!!
إن القرار المصيري إن اتخذتَه بعد التفكير فلابد أن تتحمل نتائجه أياً تكن، وليس أصعب على النفس من تقديم المصلحة العامة على المصلحة الفردية أو الحزبية، وفي تاريخنا العربي نماذج وضّاءة لها من تقديم عمر الفاروق أبا بكر الصديق للمبايعة خليفةً لرسول الله إلى اليوم، وفيه ما فيه من الأخرى للأسف مما دفعت الدولة الإسلامية ثمنه عند خلاف ذلك فوقعت الحروب على السلطة حتى بين الإخوة من أب واحد!!
لم يضرّ باهتشلي أن يخطف أردوغان الأضواء، ويخرج ليعلن فوزه من شرفة النصر في أنقرة فجر يوم الانتخابات، وحينما خالف أحد عناصر الحركة القومية خط زعيمه وامتنّ على العدالة والتنمية بتحالفهم وأنهم سيجنون ثمرة ذلك ما كان من الزعيم باهتشلي إلا تأكيد (هارونيّته) فأقالَ العنصر من الحركة على الفور واعتذر عما قاله. لم يكن فيما قاله خطأ؛ فالعدالة والتنمية فاز بالأغلبية بسبب تحالفه مع الحركة القومية، وهذا ما لا يخفى، وإن كان تجاوز الحدود فيما طلبه لقاء ذلك، وهنا كان الخطأ المضاعف؛ فعندما نفر (هارون) ليقف مع (موسى) لم يعلن ما يريد، ولا أنكر (أردوغان) للسيد (باهتشلي) حقّه وجحده، لكن إعلان ذلك فيه إهانة للتحالف وإيذاء للإخوة الحلفاء. وكم من خيرٍ يقدّمه الرجل تفسده زوجته أو بعض أهله بمنّةٍ أو أذى!! وكم من فصيلٍ ساندَ في الليل أخوته في فصيل آخر بذخيرة أو مؤونة فيعلن ذلك في النهار أو ينشره على وسائل التواصل، فيدفعون بالليل الدم مشتركين ثم يختلفون على صورة أو مقطع في الملعب الأزرق (فيسبوك أو تويتر)!! فإن كنتَ محسناً فلا تُفسد إحسانَك بمنٍّ ولا أذى؛ فالله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى).
ومما كان لافتاً في الانتخابات كذلك التفاوت بين نسبة فوز الرئيس أردوغان في الانتخابات الرئاسية ونسبة فوز حزبه العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية، فالأغلبية التي جناها أردوغان قرابة (53%) لم تتحقق لحزبه الذي لم يتجاوز نسبة (43%). وهو فارق لم يغب عن خطاب النصر الذي ألقاه الرئيس أردوغان فأعلنها دون خجل منها: وصلت رسالة الشعب التي ألقاها لنا في صناديق الاقتراع وسيتم تجاوز جوانب الخلل في كل الجوانب في أقرب وقت. فنشوة فوزه بالرئاسة ما غشت على بصره ودفعته للغرور لينسى أنه لولا (هارونه) باهتشلي لم تتحقق له الأغلبية البرلمانية، وأن نسبة حزبه انخفضت لأول مرة من 16 عاماً بهذا الشكل. وهذه المصارحة والصدق مع الذات والناس من أشد ما افتقر القادة في ثورة الشام إليه للأسف؛ فعصمة فريق العمل الخاص بكل واحد لاشك فيها وإن اجتمع على خلافه كل البلد، فرأينا كم من الفصائل انهارت باستشهاد القائد الذي تعلقت به الناس دون فريقه أو فصيله، والتجاربُ أظهرُ من أن أضطر للتسمية فيها!!
في ظل الثورات وما يرافقها مع تفلّت قد تضعف الروابط، فيخسر المرء الحصانة التي في قوله تعالى: (ولولا رهطك لرجمناك)، فقد يكون الرهط أول الراجمين!! فإن فاتت تلك فلا يمكنك المضي دون (هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري)؛ فاستخلص لنفسك مَن يحميك ويُعينك ويتحمّل الأذى في سبيل عونك ونصرتك ويُسكت كل من يؤذيك أو يمنّ عليك بنصرته وعونه.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مواضيع أخرى للكاتب
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس