عبد الحافظ الصاوي - المعهد المصري للدراسات
ساعد على نجاح التجربة الاقتصادية والتنموية لتركيا، اعتمادها بشكل رئيس على الاستثمار المباشر ووجود قاعدة انتاجية قوية، ويبرهن على ذلك ما جاء بقاعدة بيانات البنك الدولي، عن مساهمة الاستثمار كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، ففي خلال الفترة من 2010 – 2017، لم يقل معدل الاستثمار كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي لتركيا عن 26.9% في عام 2010، واستمر في التزايد حتى بلغ لأفضل معدلات أدائه في عام 2011 عند نسبة 31.2%، ولكنه عاود الانخفاض بعد ذلك حتى عام 2016 عند معدلات تتراوح ما بين 28.2% و29.7%، ألا أن عام 2017 شهد زيادة معدل هذا المؤشر ليصل إلى 30.8%1 .
انعكس هذا الأداء على معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي، حتى بلغ 7.4% بنهاية 20172 ، وعلى الرغم من المشكلات الاقتصادية والسياسية التي عاشتها تركيا خلال 2018، إلا أن معدلات النمو ظلت إيجابية، بل ومرتفعة، ففي الربع الأول بلغ معدل النمو الاقتصادي 7.1%، وفي الربع الثاني بلغ معدل النمو 5.2%.
قد تشهد نتائج الربعين الثالث والرابع لعام 2018 تراجعًا في معدلات النمو الاقتصادي لتركيا نتيجة للتداعيات السلبية لانخفاض قيمة الليرة، لكنها على أي الأحوال ستكون إيجابية في مجملها، بسبب ما نتج من تراجع في العجز التجاري والجاري خلال الشهور الماضية، وتحقيق نتائج جيدة في تدفقات السياحة، وارتفاع العوائد الأجنبية منها.
ومن خلال أرقام معهد الاحصاء التركي فإن الناتج الصناعي التركي نما بنسبة 5.6% في يوليو 2018، مقارنة بنفس الشهر من عام 2017، كما ارتفع معدل نمو الناتج الصناعي على أساس شهري نحو 3.5% عما كان عليه في شهر يونيو. والدلالة هنا أن الاقتصاد التركي قادر على التعايش مع تداعيات أزمة الليرة، ولا يزال يحقق نتائج إيجابية. وحتى يحقق القطاع الصناعي نتائج أكثر إيجابية خلال الفترة القادمة، فثمة ضرورة للتوجه للاعتماد على الموارد المحلية بشكل كبير.. وهو ما سيحقق عدة أمور إيجابية منها تخفيف الضغط للطلب على الدولار، وكذلك تحقيق تحسن في ميزان المدفوعات بشكل عام، عبر الميزان التجاري والجاري. وهو توجه بدأ في التحقيق، حيث عكست أرقام يوليو 2018 وجود زيادة في قيمة الصادرات السلعية على أساس سنوي بنسبة 2.1%، كما تراجعت قيمة الواردات السلعية بنسبة 5.9%.
الاستثمارات الأجنبية المباشرة بتركيا
لدى تركيا رصيد في مجال تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة، ويعد أحد ملامح نجاح تجربة تركيا الاقتصادية والتنموية، وإن كان نصيب تركيا من الاستثمارات الأجنبية المباشرة خلال السنوات الماضية تراجع بنسبة ما، وذلك تأثرًا بالأوضاع الاقتصادية العالمية.
ففي خلال الفترة 2010 – 2017، بلغت تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة 107.7 مليار دولار، وبمتوسط سنوي 13.4 مليار دولار، وكان أفضل الأعوام خلال الفترة من حيث تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر عام 2015، حيث بلغت هذه الاستثمارات 18 مليار دولار، بينما كان عام 2010 هو الأقل بنحو 9.1 مليار دولار3 ، وكان ذلك أمرًا طبيعيًا باعتبار قرب الفترة الزمنية من الأزمة المالية العالمية في عام 2008، والتي أثرت بشكل كبير على تدفقات الاستثمار الأجنبية على مستوى العالم.
وكذلك فيما يخص تدفقات عام 2017، حيث بلغت الاستثمارات الأجنبية المباشرة لتركيا لنحو 10.9 مليار دولار، في ضوء تراجع الاستثمارات الأجنبية المباشر على مستوى العالم. وثمة توقعات بأن يشهد عام 2018 زيادة في تدفقات الاستثمارات الأجنبية لتركيا للاستفادة من تراجع قيمة العملة، وقد يكون الأمر أكثر وضوحًا من حيث زيادة تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة لتركيا في عام 2019.
الفرص الاستثمارية الممكنة
ثمة مجموعة من الفرص تتيحها الظروف الحالية في تركيا، يمكن أن تتيح أرباحا كبيرة للمستثمرين، وبخاصة في ظل انخفاض قيمة العملة المحلية، وبالتالي انخفاض التكلفة الاستثمارية للمشروعات الجديدة، ويسهل الدخول في شراكات للتوسع أو شراء مشروعات قائمة بالفعل، وما تفرضه من تفكير في المجالات التي يمكن أن يستفاد منها، وبصفة خاصة المجالات التي يتجه جزء كبير من انتاجها نحو التصدير، وفيما يلي نعرض لبعض تلك الفرص:
تصل واردات تركيا إلى نحو 235 مليار دولار، وتأتي الواردات الخاصة بالقطاع الصناعي على رأسها، وبخاصة تلك التي يتم توظيفها في إعادة التصدير، ويتيح هذا المجال ما يسمى بالإنتاج من أجل الإحلال محل الواردات.
تعد تركيا مستورد صاف للطاقة، حيث بلغت وارداتها من النفط والغاز في عام 2017 لنحو 37 مليار دولار4 ، ويتوقع في ظل ارتفاع أسعار النفط بالسوق الدولية، أن تزيد فاتورة استيراد الوقود في تركيا بنهاية عام 2018. وفي إطار المرونة التي يتمتع بها الاقتصاد التركي فيما يخص تسعير الطاقة، تم زيادة أسعار الكهرباء للقطاع الصناعي بنحو 14% ونحو 9% للاستهلاك المنزلي5 . إلا أن الفرصة التي يتيحها مجال الطاقة للمستثمرين، الأجانب أو المحليين، هي الاستثمار في توليد الطاقة المتجددة (الطاقة الشمسية، وطاقة الرياح، والطاقة الحرارية)، وهي مجالات تشجعها الحكومة التركية، وتقوم بالتعاقد مع منتجيها لتوريد الكهرباء المتولدة من هذه المصادر، وإعطاء المستثمرين حقوقهم بنهاية كل شهر. وهو مجال يتسم بكثير من الاستقرار، نظرًا لحاجة تركيا إلى هذا النوع من الطاقة، بسبب ما يوفره من مزايا بيئية، أو الميزة الأخرى الأكثر أهمية لتركيا وهي عدم تأثرها بتقلبات سعر النفط والغاز في السوق الدولية، فضلًا عن امكانية توظيف ورقة الطاقة ضد تركيا لأسباب سياسية على الصعيد الدولي أو الإقليمي. وعلى أرض الواقع هناك استثمارات يمكن اعتبارها في ضوء المشروعات الصغيرة بمجال الطاقة، حيث تقام مشروعات بحدود 1.5 مليون دولار للاستثمار في محطة للطاقة الشمسية، ويدر عائد ثابت من خلال تعاقد مسبق مع الحكومة التركية، وبلا شك أن وجود استثمارات بقيم أكبر من ذلك عبر شركة مساهمة، يؤدي إلى إتاحة فرصة أكبر، وتوطيد علاقة استثمارية مع الاقتصاد التركي لفترات طويلة.
من أكبر الدروس المستفادة من الأزمة الاقتصادية الحالية في تركيا، هو طريقة التمويل بالديون، وما نتج عنها من مشكلات ألقت بظلالها على العديد من الجوانب، نالت القطاع الخاص، وكذلك الاقتصاد الكلي، من خلال تأثيرها على سعر الصرف وتراجع العملة المحلية، وما تبع ذلك من ارتفاع معدلات التضخم، وكذلك ارتفاع معدل البطالة في يونيو 2018 ليصل إلى 10.2%6 ، وقد يقفز معدل البطالة أكثر من ذلك عند إعلان ننائج مؤشر البطالة عن شهري يوليو وأغسطس 2018.
ومن المناسب أن تنتقل تركيا بالتدريج إلى التمويل بالمشاركة، عبر الصيغ التشاركية، التي تجعل العائد على رأس المالي (الربح أو الخسارة) وليس سعر الفائدة، وصيغ التمويل الإسلامية هي البضاعة المطلوبة في هذا المجال، والتي تعتمد عليها البنوك التشاركية في تركيا.
لذلك فالفرصة المتاحة لاستثمار في هذا المجال، هي تكوين محفظة مالية للدخول في تأسيس بنك تشاركي جديد يضاف لما هو موجود في تركيا، شريطة أن يتم العمل بهذا البنك بعيدًا عن سلبيات البنوك التشاركية القائمة، أو البنوك الإسلامية الموجودة خارج تركيا، والتي لا يزيد عملها عن محاولة وضع عمامة على رأس المعاملات الربوية الرأسمالية، واعتمادها على آلية سعر الفائدة من خلف الستار.
ومن المهم هنا أن تساعد الحكومة في تيسير الترخيص لهذه البنوك، كما عليها أن تستفيد من تجربة بعض الدول العربية والأجنبية، من خلال السماح بتقديم البنوك لخدمات البنوك التشاركية، سواء من خلال أيجاد فروع مستقلة، أو السماح بوجود نوافذ بالبنوك التقليدية لتقديم خدمات البنوك التشاركية في مجال التمويل والخدمات البنكية الأخرى البعيدة عن آلية سعر الفائدة والديون.
وما يساعد على الدخول في مجال الاستثمار بمجال البنوك ما شهدته السنوات القليلة الماضية من إقدام دول خليجية على شراء بنوك يونانية وروسية ودخول السوق التركي، وطبيعة الاستثمارات الخليجية أنها تركز على الاستثمارات سريعة العائد، ولذلك عمدت إلى شراء بنوك قائمة.. ولا مانع من أن يتجه مجموعة من المستثمرين لشراء أحد البنوك القائمة، على أن يتم تحويل مسارها لتكون بنوك تشاركية، وأن يكون عملها منصب على تمويل مشروعات الاقتصاد الحقيقي، وليس الاستثمار في الأسهم والسندات أو المضاربة في بورصات السلع أو المعادن، وإن كان ولابد، فيكون ذلك في أضيق نطاق ممكن، ويكون بعيد عن شبهات الإتجار في الديون، والتعامل بالربا.
أتاحت الأزمة الحالية بين تركيا وأمريكا، فيما يتعلق بفرض الرسوم الجمركية المتبادلة -والتي بدأتها أمريكا بفرض رسوم جمركية على الصادرات التركية من الصلب والألمنيوم، وردت تركيا بفرض رسوم على بعض المنتجات الأمريكية، مثل المنتجات التكنولوجية، أو التبغ والخمور- فرصة للمستثمرين للتوجه للاستثمار في قطاع التكنولوجيا، وهو قطاع بطبيعة الحال تعاني فيه تركيا من مشكلة حقيقية، حيث تبلغ صادراتها من السلع ذات التكنولوجيا المتقدمة فقط 2.8 مليار دولار في عام 20177 ، في حين بلغ إجمالي الصادرات السلعية لتركيا في نفس العام 157 مليار دولار.
ومن هنا فالسوق التركي يعاني فجوة، فضلًا عن وجود ميزة يمكن اعتبارها نوع من الحماية في ظل الرسوم الجمركية العالية التي فرضتها تركيا على الواردات التكنولوجية من أمريكا. ويستلزم الأمر تركيز المستثمرين في هذا القطاع على تطوير المنتجات التكنولوجيا التركية، والعمل على تطوير نظم المعلومات، وإنتاج نظم معلومات جديدة تحمل ملكية فكرية لصالح السوق التركي.
وعلى الحكومة أن تمنح المستثمرين الذين يسعون لإقامة هذه الصناعات على وجه التحديد، العديد من المزايا والضمانات، من إعفاءات ضريبية، والعمل معهم لفتح أسواق جديدة، سواء بدعم خطط التسويق، أو سعى الممثليات التجارية الخارجية لتركيا لتسويق هذه المنتجات، كما فعلت الهند مع بداية الألفية الثالثة، حيث ساعدت على نقل الاستثمارات في مجال البرمجيات بشكل كبير، مما أدى إلى وصول صادرات الهند من البرمجيات لنحو 200 مليار دولار، بل وخروج المبرمجين الهنود للعديد من البلدان الأوروبية، وكذلك أمريكا.
وثمة درب آخر في هذا المجال يتعلق بالتعليم في مجالات التكنولوجية المتقدمة، فيمكن إقامة مراكز بحوث تعتمد على التنمية والتطوير، سواء للمنتجات التركية القائمة، أو العمل على منتجات جديدة، ويمثل هذا النوع جسر من العلاقات الإيجابية بين مؤسسات البحوث والتطوير وقطاع الصناعة، وسيكون لذلك مردود إيجابي فيما يتعلق بالقيمة المضافة لقطاع الصناعة ومساهمته في الناتج المحلي الإجمالي.
ومن الأنشطة الاستثمارية المتاحة في تركيا وتحظى بمزايا نسبية، الاستثمار في القطاع الزراعي والثروة الحيوانية، حيث تبلغ مساحة تركيا 769.6 ألف كيلو متر مربع، وتصل نسبة الأراضي الزراعية من هذه المساحة 50%، وهو ما يساعد على توفير احتياجات تركيا من المنتجات الزراعية والغذاء بشكل كبير، وبخاصة في ظل توافر المياه العذبة من خلال الأمطار التي تستمر لفترة طويلة خلال العام. ولذلك يحقق القطاع الزراعي والصناعات الغذائية صادرات بنحو 16.4 مليار دولار في 20178 ، وحقق القطاع فائضًا تجاريًا بنحو 2.4 مليار دولار. ومفاد ذلك أن تركيا توفر غذائها بشكل يضمن لها عدم الاعتماد على الخارج.
وعلى أرض الواقع تواجدت استثمارات في القطاع الزراعي والاستثمار الحيواني، عبر آلية التأجير للأراضي الزراعية أو مزارع التسمين، وهو نشاط يناسب رؤوس الأموال في ضوء ما يتعارف عليه بتصنيف المشروعات الصغيرة، من حيث قيمة رأس المال، كما أن هناك دعم يقدم لمثل هذه المشروعات من قبل البنك الزراعي التركي، سواء فيما يتعلق بتسهيلات شراء البذور والسماد وغيرها من الاستثمارات اللازمة للقطاع الزراعي.
وينصح في هذا المجال بتكوين كيان كبير من خلال صندوق للاستثمار الزراعي، أو تأسيس شركة مساهمة، وبخاصة إذا ما كانت تستهدف الإنتاج بغرض التصدير، أو حتى السوق المحلي، فالسوق التركي من الأسواق الكبيرة التي تضم نحو 80 مليون نسمه.
الدعوة لتأسيس صندوق استثمار مباشر، يتبنى مجموعة من المشروعات ذات دراسات الجدوى الحقيقية، ويتم تسويقها بمساندة من الحكومة التركية، على أن يكون من صلاحيات الصندوق استقبال مساهمات من خارج تركيا.. وعلى أن يخضع هذا الصندوق لجهة رقابة حكومية، لتضمن حقوق المساهمين، لأن التجربة في النهاية ستحسب على الحكومة التركية.
أين حظ الاستثمار في الديون؟
من الطبيعي في ظل الأوضاع التي يعيشها الاقتصاد التركي حاليًا، وكذلك كثير من الدول الصاعدة، أن يتساءل البعض، ولم لا أستفيد من الاستثمار غير المباشر، عبر الاتجار في أذون وسندات الخزانة، وهي بلا أدنى مخاطر اقتصادية، وهو طرح طبيعي في ظل الثابت لدى الناس من حب الناس للربح السريع، وكون رأس المال جبان.
والإجابة على هذا التساؤل لا تخص تركيا وحدها، ولكنها إجابة عامة، تخص كل الأسواق، وإن كانت تركيا تحظى بمقومات أكثر من غيرها فيما يتعلق بالاستقرار الاقتصادي، فما تمر به أسواق الدول الصاعدة ومن بينها تركيا أمر عابر، وسوف تنتهي هذه الأزمة، وبخاصة في الدول التي تمتلك خطط متوسطة وطويلة الأجل لتجاوز الأزمة، وتحويلها لفرص، وإعادة هيكلة اقتصادها ليكون أكثر صلابة في مواجهة مثل هذه الأزمات مستقبلًا.
وفيما يتعلق بتركيا، فنحن نجد أن البنك المركزي اتسم أداءه بالاستقلالية، وبرهن على ذلك بقراراته المتتابعة برفع سعر الفائدة، ليكذب إدعاء خصوم تركيا بتدخل الرئيس رجب الطيب أردوجان في سياساته، ولكن هذا لا يمنع أن الاستراتيجية التي تتبناها حكومة الرئيس أردوجان، وقناعته الشخصية، أنه لابد من تراجع سعر الفائدة عند معدلات تساعد على إنتاج حقيقي، ويحصد فيه المشاركون في النشاط الاقتصادي على عوائد مجزية تشجعهم على العمل والإنتاج، وتحارب التضخم، وتساعد على خلق فرص عمل بشكل مستقر ودائم.
الأمر الآخر، هو أن الاستثمار المباشر، يساعد على تراكم الخبرات، ويوجد فرص دائمة للتطوير، وهو ما نلمسه على البعد الزمني الممتد، لقطاع الصناعة على سبيل المثال، فالاستثمارات التي ضخت في هذا القطاع في مجال البحوث والتطوير، أدت إلى تطور هائل، عاد على المجتمعات المحتلفة بالخير والنماء، على عكس الاستثمار النقدي والمالي، الذي ورث العالم منه الأزمات المتلاحقة، والإفلاسات، وكان بابًا واسعًا لغسل الأموال.(9 ).
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس