د. مصطفى الستيتي - خاص ترك برس
لفسلطين مكانة خاصّة لدى الزّعيم التّونسي عبد العزيز الثّعالبي، وهو يمثّل صورةً مصغّرة عمّا لهذه البلاد من مكانة في قلوب التّونسيين جميعًا، رغم تغيّر الأزمان والسّياسات. وفي أحلك المراحل التي مرّت بها البلاد التونسيّة ظلّت فلسطين بمواقعِها المختلفة ساكنةً قلوب التّونسيين شَعبًا ونخبًا. وقد زار الثّعالبي فلسطين عدّة مرّات، وتنقّل في أرجائها والتقى بأهاليها وألقى المحاضرات وتحدّث مع الصّحفيّين. ونقلت الصّحف الفلسطينيّة مبلغ ترحاب أهالي فلسطين بالثّعالبي، ومحبّتهم وتقديرهم له باعتباره ممثلاً عن شعب تونس وزعيمًا سياسيًّا ومفكّرًا ثوريّا. ونودّ في هذه المقالة أن نُلقي الضّوء بشكل، خاص على علاقة الشّيخ عبد العزيز الثّعالبي بغزّة وبأهالي غزّة، وترحابهم به، وحديثه معهم، ووداعهم المؤثّر له في نهاية رحلته المشرقيّة الطّويلة التي استمرت نحو 14 عامًا.
عندما حاصرت فرنسا الزّعيم عبد العزيز الثّعالبي في تونس، ومنعته من النّشاط السّياسي والنّضالي أبَى أن يرضى بحياة المذلّة والاستكانة وقرّر عام 1923م أن يشدّ الرّحال نحو بلاد الشّرق لكي يُواصل نضاله وجهاده من هناك. ولاشك أنّ صِيته وشُهرته قد سبقاه إلى هذه البلاد، ولذلك لم يكن الثّعالبي نكرةً وهو يتنقّل في بلاد كثيرة انطلاقًا من مصر إلى فلسطين واليمن وإمارات الخليج والعراق وإيران والهند جاوا وسومطرة وما جاورها من بلاد.
كانت للشّيخ عبد العزيز الثّعالبي شهرةٌ واسعةٌ في بلاد المشرق، وأينما حلّ يُستقبل استقبال الزّعماء الكبار، بل كان النّاس يتسابقون للسّلام عليه وحضور مجالسه ومحاضراته، ويقطعون في سبيل ذلك المسافات البعيدة. وما تنقله لنا الصّحف العربيّة الصّادرة في تلك الفترة تعكس هذه المكانة المرموقة للزّعيم الثّعالبي في قلوب الشّعوب والزّعماء على حدّ سواء.
زار الثّعالبي فلسطين عدّة مرّات وتنقّل في مدنها وقُراها، وأُكرم من قبل أهاليها ووجهائها. وزار غزّة ثلاث مرّات، كانت الزّيارة الأولى في صيف عام 1930م، وكانت الثّانية في عام 1934م أمّا الثالثة فكانت عام 1937 م، أي قبل رجوعه النّهائي إلى وطنه تونس بقليل. كانت الحَفاوة به في غزة كبيرة وكان النّاس يتوافدون على مجلسه بكثافة. ويرجع الفضل في التّعريف بالشّيخ الثّعالبي إلى الصّحفي الفلسطيني محمد علي الطّاهر صاحب جريدة "الشّورى" التي كانت تصدر في مصر، فقد كان يتتبّع أخباره في كلّ مكان يحلّ به وينشرها، ويشيد بمكانته ودوره في ميدان النّضال والعلم.
الثّعالبي في غزة عام 1930م
وصل الشّيخ عبد العزيز الثّعالبي إلى غزّة ضمن جولة تنقّل خلالها في مدن كثيرة من فلسطين، وبحكم تجربته وكثرة تنقّلاته فقد كان النّاس يودّون أن يسمعوا منه خلاصة تجربته وأخبار العالم الإسلامي. ومن أبرز محاضرته المحاضرة التي قدّمها في رام الله ونشرتها جريدة "الجامعة العربية"، وكانت بعنوان "مطالع الحضَارة في الشّرق"[1] تحدث فيها الثّعالبي عن مفهوم الحضارة وفق رؤيته الشّخصيّة لا وفق ما قاله الخبراء والباحثون، وخلُص إلى أنّ الأمة العربيّة لن تتقدّم ما لم تشعر بالحاجة لهذا التّقدّم. ولم نعثر في ما اطّلعنا عليه من صحف فلسطين على ما أدلى به الثّعالبي في غزّة من أحاديث وما ألقاه من محاضرات. وقد ذكرت صحيفة "الشّورى" أنّه: "اِحتشد في محطة القُدس يوم السّبت جمهور من فضلاء البلاد لتوديع صاحب السّعادة الأستاذ الثّعالبي زعيم تونس عند سفره إلى القطر المصري. وقد حيّته في محطات اللّد ووادي حنين وغزّة وخان يونس وفودٌ عديدةٌ مؤلفة من الأعيان والشّبان"[2]. فالثّعالبي إذن زار غزّة وخان يونس وفق ما جاء في الخبر الذي نشرته "الشّورى".
وفي نهاية شهر أغسطس غادر الثّعالبي فلسطين بعد أن أقام فيها "مدّة كان فيها قبلة أنظار أهلها وموضع احترامهم وتقديرهم. ولا عجب فالأستاذ منذ وطئت أقدامه أرض فلسطين وهو دائبٌ في بثّ النّصائح الغالية، نتيجة اختبارات السّنين والأسفار الطّويلة وإلقاء المحاضرات الثّمينة التي ترفع النّفوس وتصقل الملكات وتُؤجج في الصّدور نيران الوطنيّة"، حتى إن أهل فلسطين والعارفين لقيمة الثّعالبي كانوا يتمنّون لو أن الثّعالبي يجعل "إقامته الدّائمة في فلسطين، ولكنّنا نخشى أن يَحسُدنا باقي الأقطار العربيّة على هذه التّحفة الثّمينة، ونحن لا نريد أن نمتاز عن أقطارنا بشيء"[3].
الثّعالبي في غزة عام 1934م
كان وصول الثّعالبي إلى غزّة من القُدس التي وصلها من مصر عبر القطار بتاريخ 14 أغسطس. وعلّقت صحيفة "الجامعة الإسلاميّة" على خبر وُصول الثّعالبي رفقة المفتي أمين الحسيني إلى غزة بالقَول: "ألوف من الخَلق اِشتركت في استقبال ضَيفي غزّة الكريمين سماحة المفتي وسيادة الثّعالبي، وقد ذهبت الوفود لاستقبالهما على بعد بضع كيلومترات من المدينة، وقد صَلّيا مع الجموع صلاة الجمعة في الجامع العُمري. وبعد الصّلاة تناولا الطّعام مع زهاء 800 مدعوّ على مائدة آل الصّوراني، وزارا ضريح المرحوم الحاج سعيد الشّوّا، ثم زارا الوجيه خليل أفندي بسيسو في بيته، ونزلا في المخيم الذي أُعدّ لهما في بيارة آل الصّوراتي. وفي صباح اليوم زارا المدارس الوطنيّة والمحكمة الشّرعية ومكتب القائمقام، ودائرة الأوقاف، وتناولا الطّعام على مائدة آل الآغا في خانيونس. ومازالت الوفود تتابع السّلام على الضّيفين الكريمين"[4].
ويوم 8 سبتمبر زار الثّعالبي مدينة خان يونس رفقة الحاج أمين الحسيني وإبراهيم الحسيني وجميل الحسيني وتوفيق رأفت الحسيني، حيث تناولوا طعام الغداء على مائدة الشّيخ سعيد السّقّا. وبعد أداء صلاة الظّهر رجعوا إلى غزّة حيث أقامت لهم جمعية الإرشاد الإسلاميّة حفلة شاي في مدرسة الأوقاف، وخطب فيها أشخاص كثيرون[5].
تنقل الشّيخ الثّعالبي في غزّة والمجدل وخان يونس، ومكث فيها ثلاثة أيّامٍ كان موضع تكريم وترحاب، ونقلت صحيفة "الدّفاع" الفلسطينية الصّادرة بتاريخ 12 سبتمبر سنة 1934م أنّه عاد مرّة ثانية إلى مدينة القُدس. ولم تحمل لنا الصّحف الصّادرة خلال هذه الفترة أخبارًا عن أحاديثه ومحاضراته.
فالثّعالبي عادة يستغلّ هذه المناسبات للحثّ على جملة من الأفكار التي كان يؤمن بها، وخصوصًا ضرورة الإقبال على العلم والمعرفة والتّخلص من الجمود الفكريّ، والحرص على الوحدة ونبذ الاختلاف والتّعويل على الذّات ومقاومة الاحتلال.
غزة تودّع الثّعالبي الوداع الأخير
كانت زيارة الثّعالبي الأخيرة إلى غزّة في نهاية ربيع عام 1937م، وقد ذكرت صحيفة "مرآة الشّرق" خبر وصول الثّعالبي إلى القدس بالقول: "وصل إلى القُدس في هذا الأسبوع قادمًا من مصر سيادة الأستاذة عبد العزيز الثّعالبي، وسيُقيم فيها مدّة أسبوع ثم يُغادرها إلى وطنه تونس"[6]. كانت فلسطين إذن آخر محطّات الشّيخ الثّعالبي في رحلته المشرقيّة التي استمرت وقتا طويلاً. ولم تدم زيارته لفلسطين هذه المرّة سوى أسبوعٍ واحدٍ، فكأنّما جاءها مودّعًا.
ومن القُدس اِنتقل الثّعالبي إلى غزّة يوم 4 حزيران، غزّة التي يَحتفظ بذكريات طيّبة عنها وعن أهلها خلال زيارتيه السّابقتين. وتحدّثت جريدة "فلسطين" عن حفاوة الاستقبال التي حظي بها الشّيخ الثّعالبي بالقول: " خرج الأهلون، وفي مقدّمتهم الوُجهاء وفرق الكشّافة إلى محطّة سكّة الحديد لوداعه، وكانت جمعيّة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر قد أعدّت مكانًا في المحطة للاجتماع. وقبل وصول القطار قدم من وادي حنين سيادة الزّعيم وسماحة المفتي ودولة الطّباطبائي، وأحمد حلمي باشا والأستاذ منيف الحسيني، وإبراهيم الحسيني مأمور أوقاف الخليل حيث كانوا في ضيافة يعقوب الغصين. فاستقبلهم الغزّيّون استقبالاً باهرًا وخطب القاضي الشّرعي بالنّيابة عن جمعيّة الأمر بالمعروف، ثم فهمي بك الحسيني فالأستاذ رشاد الشّوّا، وهذا أهدى إلى الزّعيم خارطة البلاد العربيّة" [7].
ثمّ وقف الشّيخ الثّعالبي وألقى خطابًا وصفته الصّحيفة بأنّه كان "درسًا في الوطنيّة العربيّة والدّين الإسلامي". وقد بيّن الثّعالبي في كلمته للحاضرين أنّه لا تعارض بين فكرة الوطنيّة والإسلاميّة، فكلاهما قوّة دافعة نحو التّحرر والاستقلال، وقد ركّز كذلك على أهمّية وحدة الكلمة بين المسلمين والمسيحيّين، ومجابهة التّحديات صفّا واحدًا: "إنّ الوطنيّة هي فكرة تملأ الأدمغة والقُلوب، وهي إيمان يُوحيه الله للمخلصين من عباده لإحياء المجد الخالد في هذا العالم الفاني. وأمّا الإسلام فهو قوّة خارقةٌ ما كانت ترمي لإيجاد الشرّ والشّقاء بل لإقرار العدل والإنصاف. وإنّ القوميّة العربيّة التي أوحى بها ديننا الإسلامي الحنيف تضمّ إليها أهل الكتاب الذين قالوا إنّا نصارى. لقد حان دور العرب لكي يُعيدوا مجدهم، ويجب أن نُقارع الدّهر، نحن المسلمين والمسيحيّين، وننازل المشاكل حتّى ننال ما نطلبه من حرّية واستقلالٍ. فعلى المسلمين والنّصارى أن يعملوا متكاتفين في سبيل الوَطن"[8]. وكان خطابُه يُقاطع بالهتاف التّصفيق.
ثمّ وقف الشّيخ علي النّجدي وألقى كلمةً بالنّيابة عن قضاء بئر السّبع. ثم أخذت فرقة الكشّافة تنشد الأناشيد الوطنيّة، وعُزفت الموسيقى. ولما جاء القِطار صعد الثّعالبي إلى العربة، وأطلّ من النّافذة. وهناك ألقى الأستاذ خضر الجعفراوي خطابًا باسم فرق الكشّافة، وقدّم لسيادته نجلُ رئيس البلدية باقةً من الزّهور، وتحرّك القطار بين التّصفيق والهتاف، وسيادته يحيّي الجماهير حتّى غاب عن الأنظار.
غاب القطار عن الأنظار متوجّهًا إلى مصر، وغاب الثّعالبي كذلك عن المنطقة كلّها وليس غزة وفلسطين فقط. فقد وصل إلى وطنه تونس عبر مصر بتاريخ 19 يوليو 1937م، أي بعد أقلّ من شهرين من مغادرته لغزّة تاركًا وراءه رصيدا ثريًّا من المحبّة في قلوب النّاس ومن الوعي في عقول الجماهير في كامل ربوع فلسطين. كانت قضيّة فلسطين تسكن عقله ووجدانه، ولعلّ مشاركته الفعّالة في مؤتمر القُدس وبذله جهودًا جبّارة لعقده، رغم معارضة جهاتٍ كثيرةٍ دليل على مكانة القدس في قلب الرّجل. ونحن في حاجة لمعرفة بقيّة أخبار الشّيخ الثّعالبي في فلسطين، ومن حسن الحظّ أنّ الصّحف الصادرة في ذلك الوقت غطّت فعالياته تغطيةً جيّدة تسمح لنا بتسليط الأضواء عليها، في وقت كانت الأخبار عنه في تونس شبه مقطوعة.
[1] نُشرت هذه المحاضرة في جريدة "الجامعة العربية" التي كانت تصدر في فلسطين في عددها رقم 414 الصّادر بتاريخ 28 يوليو سنة 1930م، وعددها رقم 415 الصّادر بتاريخ 30 يوليو سنة 1930م، كما نشرت عدة صحف فلسطينية أخرى ملخّصاتٍ لها.
[2] جريدة "الشّورى"، العدد 289، بتاريخ 3 سبتمبر سنة 1930م، ص. 1.
[3] جريدة "مرآة الشّرق"، العدد 732، بتاريخ 3 سبتمبر سنة 1930م، ص. 2.
[4] جريدة "الجامعة الإسلاميّة"، العدد 630 بتاريخ 9 سبتمبر سنة 1934م، ص. 5.
[5] جريدة "الدّفاع"، العدد 117، بتاريخ 9 سبتمبر 1934م، ص. 5.
[6] جريدة "مرآة الشّرق"، العدد 1288، تاريخ 29 مايو سنة 1937م، ص. 3.
[7] " جريدة "فلسطين"، العدد 80 بتاريخ 8 حزيران سنة 1937م، ص. 2.
[8] المصدر نفسه، العدد نفسه.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس