د. مصطفى الستيتي - خاص ترك برس
في طريقها إلى قصر باردو في تونس العاصمة لم تواجه الجيوش الفرنسية مقاومة ذات بال، فخلال أقلّ من شهر كانت هذه القوات رابضةً في ساحات باردو تُجبر الوالي على توقيع معاهدة مذلّة سمّيت زورًا معاهدة "الحماية". وذهب في خُلد فرنسا أنّها سوف تواصل سياحتها بيسر في بقية مناطق البلاد التّونسية، بيد أنّها اصطدمت بجدار سميكٍ من المقاومة في مدينة صفاقس، ومنيت هناك بخسائر مادية وبشريّة دفعتها إلى التّعامل مع البشر والحجر وما في المدينة من أثــرٍ بنقمة وثأر شديدين، والوثيقة التي نتناولها بالتّحليل تكشف جانبا من سلوك فرنسا في هذه المدينة الصّامدة.
والوثيقة عبارة عن رسالة تلغرافيّة مرسلة من زعماء قبائل منطقة قابس بالبلاد التّونسية إلى أحد القادة العثمانيين ويُدعى علوان باشا، وهي مؤرخة بتاريخ 11 شعبان سنة 1298 هــ/ الموافق لــ 9 جويلية سنة 1881م، وتقع ضمن تصنيف متفرّقة وثائق يلدز ضمن وثائق الأرشيف العثماني في إسطنبول ورقمها ( Y. PRK. UM 4/62 LEF 3). وقد كتبت هذه الوثيقة في مرحلة زمنيّة حاسمة من تاريخ النّضال ضد الغزو الفرنسي لتونس. ففي شهر جويلية كانت القوات الفرنسية قد بسطت نفوذها على مناطق الشمال وتونس العاصمة وتوجهت نحو الوسط والجنوب، ووصلت إلى مدينة صفاقس، بيد أنها واجهت هناك مقاومة شرسة ولذلك كان تركيزها على هذه المدينة كبيرًا، حيث صبّت جام غضبها عليها، وكثّفت من إرسال البواخر والعتاد العسكريّ والجنود إليها.
ويمكن تقسيم الوثيقة إلى ثلاثة أقسام كبرى؛ يتمثل القسم الأول في وصف حالة المقاومة ضدّ فرنسا في مدينة صفاقس بقيادة علي بن خليفة النّفاتي، ويتثمل القسم الثّاني في عرض ما هو مطلوب في هذا الوضع الدّقيق من الحكومة العثمانية، أمّا القسم الثالث فيحتوي على عتاب ولوم يصل إلى حدّ الاستياء من التّقصير في نجدة البلاد التّونسية والوقوف موقف المتفرّج إزاء ما تتعرّض له من انتهاك وعدوان.
وقبل التّعمق في تفاصيل الوثيقة وتحليل مضمونها وأبعادها يحسن بنا أن نشير إلى أنّ زعماء القبائل الذين أرسلوا هذه الرّسالة التلغرافية من قابس هم كلّ من محمد بن خليفة، ومحمد بن يحيى، وعبد الرّحمن الحمروني، وبن صالح وعلي حزام، ومحمود بن حبيب. ويبين تاريخ إرسال الرّسالة، وهو 9 جويلية أنه تم إرسالها في فترة حرجة جدّا من تاريخ المقاومة ضد التمدّد الفرنسي في دواخل البلاد التونسية، حيث تركز الهجوم في هذه الفترة على مدينة صفاقس لما لهذه المدينة من مكانة وبفعل صمود أهلها ورفضهم الاستسلام. وقد جاء في الوثيقة أنّ القائد علي بن خليفة قد أخبر زعماء قابس في إحدى رسائله بأنّ سفنًا حربيّة فرنسيّة اقتربت من سواحل صفاقس، واعتبارًا من يوم الثلاثاء 9 شعبان الموافق لـ 7 جويلية بدأت إحدى السفن المتمركزة في ميناء صفاقس بقصف المدينة، وأنّ الأهالي ردّوا عليها بالمثل فتم إغراق سفينة في البحر.
وفقا لما تذكره المراجع فقد بدأت الكتيبة البحرية للشّرق بقيادة الأميرال "فيليب كونراد" بقصف المدينة ملحقة بعض الأضرار بالسّور والمباني مثل صومعة الجامع الكبير وعدد من الدّكاكين المحيطة، في حين استبسل المقاومون مع مرور الأيام أمام فشل الغزاة في إحداث اختراق للدفاعات نظرا لقوة التّحصين الذي مثله السور وقصر البحر الذي يحُول دون اقتراب السفن من شواطئ المدينة، إضافة إلى تزايد التوقّعات بوصول دعم من السلطان العثماني عن طريق ولاية طرابلس الغرب.
ثم اشتدّ القصف الفرنسي، وحدث إنزال ما يناهز 3000 جندي فرنسي من المشاة إلي البر، وبدأ الغزاة بالسّيطرة على الحي الأوروبّي، ثم قاموا بتفجير باب القصبة لكي يتوغّلـــوا داخل السور، فلقي أربعون من المقاومين المتحصّنين مصرعهم في الحين. ثم شهدت أنهج المدينة معارك طاحنة دامت ثلاثة أيام أصيب فيها العديد من الجنود الفرنسيّين برصاص المقاومين المختفين في كل مكان. وتفيد بعض المصادر أنّ المواجهات يوم 17 جويلية أسفرت عن مقتل نحو 300 من أهالي صفاقس و200 من الفرسان، وعدد من الجنود الفرنسيّين.
في هذا المناخ المتوتّــر جدّا كان إرسال هذه الرّسالة التلغرافية. ويذكر أصحاب الرّسالة أنهم في يوم جمعة وأنّ مبعوثًا خاصّا وصل إليهم من صفاقس يدعوهم للالتحاق بالمقاتلين وأنهم سوف يلبّون النّداء ويلتحقون "بالمجاهدين في سبيل الله لنجدة إخوانهم المسلمين" بعد أن يؤدّوا صلاة الجمعة. والمطلوب من الحكومة العثمانية، وفق ما جاء في الرسالة هو التّعجيل بإرسال المقاتلين "عملاً بما جاء في القرآن الكريم والحديث النبوي من ضرورة النهوض بوظيفة الجهاد المقدّسة".
ويعبر هؤلاء الزّعماء في رسالتهم عن الاستياء من إهمال شؤون هذه المنطقة على الرّغم من أن "حضرة السّلطان قائمًا بين ظهرانيهم"، وهم من رعايا الدّولة والواجب عليها حمايتهم والدّفاع عنهم في مواجهة كيد الأعداء وظلمهم. ثم تُختم الرّسالة بدعوة صريحة ومباشرة "نحن عباد الله المخلصون لكم، وقدومكم ينقذنا".
وهنا ينبغي أن نشير إلى أن هذه ليست الرّسالة الوحيدة التي يَطلب فيها أهالي تونس المدد من الدّولة العثمانية، وإنما توجد رسائل أخرى، أهمّها رسالة من أهالي تونس العاصمة تحمل توقيعات كبار وجهاء تونس، وكذلك رسالة من كبار زعماء ووجهاء مدينة صفاقس نفسها يطلبون فيها تدخّلا صريحًا وعاجلاً لإنقاذ تونس من الاستبداد الفرنسي. بيد أنّ نداءاتِهم ذهبت أدراج الرّياح ولم يُستجب لها، فالحكومة العثمانية لم يكن بوسعها أن تفعل شيئًا في تلك المرحلة الصّعبة.
ذكرت الوثيقة بالاسم كذلك علي بن خليفة النّفاتي باعتباره من كبار زعماء المقاومة في صفاقس، ويسجّل له التّاريخ أنّه أبلى بلاء حسنًا في التّصدي للاحتلال الفرنسي الغاشم، وعندما أدرك أنّ ميزان القوى لم يعد في صالحه، ولا في صالح المقاومة فضّل الانسحاب إلى طربلس الغرب مع عدد آخر من المجاهدين. وبالرغم عودة الكثيرين منهم إلى تونس في وقت لاحق متعهّدين بعدم إثارة الشّغب ضد فرنسا، فإنّ علي بن خليفة رفض الاستسلام والاعتراف بالواقع الجديد حتّى وافاه الأجل.
لا شك أن كلفة الحفاظ على المبادئ والقيم الكُبرى قد تكون ثقيلة، وقد تكلّف صاحبها راحته وصحّته وماله وحتى حياته، وربما اُتّهم صاحبها بالحُمق والغلوّ وعدم رجاحة العقل في إبّانه، وهي تُهم جاهزة في كل زمان، لكنّ ثمارها مع الزّمن لا تقدّر بثمن. وعلي بن خليفة وكثير من رفاقه الذين خلّدهم التّاريخ كانوا ترجمانًا لعدالة التّاريخ الذي يُخلّد الأبطال ويذكر بالخزي والعار الجُبناء والأنذال.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس