ترك برس
فاجأ الجنرال الانقلابي خليفة حفتر، الكثير من المتابعين للملف الليبي، بإعلان مليشياته دعمها للسلطة التنفيذية الجديدة، التي لا يوجد بين أعضائها الأربعة من أيّد هجومه الأخير على العاصمة طرابلس.
وأكثر ما يثير الاهتمام في تصريحات أحمد المسماري، الناطق باسم مليشيات حفتر، أنه اعترف بسلطة المجلس الرئاسي الجديد حتى قبل منح مجلس النواب الثقة لحكومة الوحدة الوطنية كما اشترطت حكومة عبد الله الثني، التابعة لهم (غير معترف بها دوليا).
وقال المسماري، في تصريح تلفزيوني: "المجلس الرئاسي هو القائد الأعلى للجيش الليبي، وهذا الأمر يُحتم أن يكون هناك تنسيق وتعاون كبير" مع مليشيات حفتر.
ويضيف المسماري، في لهجة غير معهودة من مليشيات حفتر، نحن "نقع تحت السلطة (المجلس الرئاسي) والقانون والدستور". وفق وكالة الأناضول التركية.
** القبول بالخضوع لسلطة مدنية
منذ العام 2016، رفض حفتر الاعتراف بسلطة المجلس الرئاسي على مليشياته، ولم يقبل بعدة مبادرات لتولي القيادة العامة للجيش، مقابل أن يخضع لسلطة مدنية.
فطبقا للاتفاق السياسي الموقع نهاية 2015، المجلس الرئاسي يمثل القائد الأعلى للجيش، وله سلطة عزل القائد العام للجيش، وهو ما اعترض عليه الجنرال الانقلابي.
ولعب حفتر، بالتحالف مع رئيس مجلس نواب طبرق عقيلة صالح، دورا رئيسيا في عرقلة منح البرلمان الثقة لحكومة الوفاق الوطني، طيلة 5 سنوات.
بل عمل على إسقاط حكومة الوفاق، وتقويض سلطتها في شرق البلاد وجنوبها، قبل أن يشن هجوما كبيرا على معقلها بالعاصمة طرابلس في 4 أبريل/نيسان 2019، للإجهاز عليها.
وحتى بعد فشل هجومه الذي استغرق 14 شهرا، سعى حفتر لفرض نفسه رئيسا للبلاد، عبر ما أسماه "تفويض شعبي"، لكن هذا المشروع سقط في الماء ولم يلق أي ترحيب دولي، وتصدى له حليفه عقيلة صالح، الذي أصبح ينافسه على السلطة والنفوذ في شرق ليبيا بدعم قبلي وأيضا روسي ومصري.
ورغم الترحيب الداخلي والدولي الواسع للسلطة التنفيذية الجديدة في ليبيا، إلا أن أصوات قليلة داعمة لحفتر، عبرت عن رفضها للمجلس الرئاسي الجديد بقيادة محمد المنفي ورئيس الحكومة عبد الحميد دبيبة.
ما يطرح تساؤلا حول ما إذا كان ترحيب حفتر السريع بالسلطة التنفيذية الجديدة تغير استراتيجي نحو السلام، أم خطوة تكتيكية لتفادي العاصفة؟.
** قلق من عقوبات أمريكية
لا شك أن رحيل دونالد ترامب من البيت الأبيض وصعود جو بايدن لرئاسة الولايات المتحدة أثر بشكل سريع في المشهد الدولي إجمالا، وخاصة على حلفاء حفتر وعلى رأسهم السعودية والإمارات، في ملف حرب اليمن وقضية اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده في إسطنبول عام 2018.
واستبق حفتر أي موقف أمريكي ضده، بإعلانه خضوعه للسلطة المدنية الجديدة.
فالأمم المتحدة وعدة دول غربية، بما فيها فرنسا الداعمة لحفتر، هددت بفرض عقوبات على المعرقلين للحوار الليبي.
ولا يملك حفتر مساحة واسعة للمناورة بعد رحيل حليفه ترامب عن البيت الأبيض، صاحب "الضوء البرتقالي"، فلم يعد أمامه سوى "أضواء حمراء" مع استلام بايدن للسلطة.
ورغم أنه هدد في ديسمبر/كانون الأول 2020، بخوض حرب جديدة في ليبيا ضد تركيا، قبل استلام بايدن للحكم رسميا في 20 يناير/كانون الثاني الماضي، إلا أن أقرب حلفاء حفتر الدوليين (باستثناء الإمارات) لم يعودوا يثقون في قدرة مليشياته على تحقيق نصر سريع للسيطرة على طرابلس.
إذ سبق لحفتر أن نجا من عقوبات دولية طالت حليفه عقيلة في 2016، بفضل الفيتو الفرنسي، لكن وضعه الحالي هش على عدة أصعدة، وأوراق باريس أصبحت مكشوفة، وقد لا تستطيع حمايته هذه المرة، بل وقد تبادر بمعاقبته.
** البحث عن حصانة
يضيق الخناق يوما بعد يوم حول عنق حفتر، في قضيتين مرفوعتين ضده أمام محكمة فيدرالية أمريكية بولاية فرجينيا، بتهمة ارتكاب جرائم حرب، بعدما رفض وزير الخارجية الأمريكي السابق مايك بومبيو، رمي حبل النجاة له.
إذ تجنب بومبيو، قبل مغادرته منصبه، الرد على مراسلة المحكمة بشأن ادعاء فريق الدفاع عن حفتر بأنه يتمتع بحصانة رئاسية أو شبه رئاسية، ما يعني ضوءا أخضرا للاستمرار في محاكمته.
وفي حال إدانته، قد تتم مصادرة ممتلكاته في الولايات المتحدة والمقدرة بملايين الدولارات، لكن ذلك سيفتح الباب أمام دعوات قضائية أخرى ضد حفتر، ما سيعرقل توليه مناصب عليا في الدولة أو الترشح لرئاسة البلاد.
لذلك لا يستبعد أن تكون مغازلة حفتر للسلطة التنفيذية الجديدة، مناورة للحصول على منصب سيادي (القائد العام للجيش) يمنحه حصانة ضد محاكمته في الولايات المتحدة أو غيرها.
وهجوم كتيبة "طارق بن زياد"، التي يقودها "صدام" نجل خليفة حفتر، على مقر مليشيا اللواء التاسع "الكانيات" في مدينة سرت (450 كلم شرق طرابلس)، في 2 فبراير/شباط الجاري، تدخل ضمن محاولة الجنرال الانقلابي التبرؤ من جرائم "الكانيات" في مدينة ترهونة (90 كلم جنوب شرق طرابلس).
ففي 25 نوفمبر/تشرين الماضي، أدرجت واشنطن مليشيات "الكانيات" التابعة لحفتر ضمن قائمة العقوبات، لتورطها في ارتكاب جرائم تعذيب وقتل، خاصة بعد اكتشاف مقابر جماعية بترهونة ومحيطها، عقب تحرير المدينة في يونيو/حزيران الماضي.
ويسعى حفتر لترك مسافة بينه وبين "الكانيات" حتى لا يتحمل مسؤولية جرائمها أمام المحاكم الدولية، وقد يضحي بقادتها مستقبلا إن اضطر لإنقاذ نفسه وأبنائه.
** انهيار مشروع الحكم العسكري
مشروع حفتر لحكم ليبيا بالقوة العسكرية وصل إلى منتهاه، وأصبحت هناك قناعة لديه ولقادة مليشياته ولقبائل الشرق الداعمة له استحالة السيطرة على طرابلس، ما دامت تركيا واقفة إلى جانب الشرعية بما تملكه من ثقل عسكري ودبلوماسي واقتصادي.
وحفتر ليس فقط عاجز عن الهجوم مجددا على طرابلس لتوازن القوة، بل قد يفقد معاقله في الشرق والجنوب.
قواعده تتململ، والمظاهرات التي شهدتها المنطقة الشرقية العام الماضي والاحتجاجات في محافظة الجفرة الاستراتيجية (وسط) وفي الجنوب تعكس غضب المواطنين الذين لم يعودوا يخشون قبضته الحديدية كما في السابق، رغم عودة مسلسل الاغتيالات إلى مدينة بنغازي (شرق).
لم يعد حفتر يمتلك من خيار واقعي سوى الانضواء تحت السلطة الجديدة لتجنب نهاية مأساوية، في ظل مشهد دولي يعيد ضبط ساعته على توقيت الحاكم الجديد في البيت الأبيض.
فها هي الإمارات تتخلى عن حليفتها السعودية في حرب اليمن، وتقول إنها انسحبت من الحرب منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بعد ساعات من خطاب بايدن، أعلن فيه وقف دعم واشنطن للتحالف العربي.
وليس من المستبعد أن تتخلى الإمارات ومصر والسعودية ومعهم فرنسا عن دعم حفتر، إذا ما اتخذ بايدن قرارا حاسما في الملف الليبي.
لم يتبق مع حفتر سوى روسيا، التي لها مصالحها الاستراتيجية في ليبيا، تتجاوز "أحلامه الصغيرة" في حكم البلاد، لكن "الغريق لا يتردد في الإمساك بالأفعى"، لذلك قد يراهن عليها للبقاء في المشهد السياسي.
فتوازن الرعب، والخوف من العقوبات الأمريكية، والبحث عن حصانة في مواجهة الدعاوى القضائية المرفوعة ضده، تدفع حفتر للمسارعة في إعلان دعمه للمجلس الرئاسي الجديد، وخضوعه لسلطة مدنية طالما رفضها بعناد.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!