د. سمير صالحة - العربي
وصل الحماس والاندفاع بأقلام تركية محسوبة على السلطة السياسية في رسم مشهد التفاؤل، والرهان بقدوم مرحلة جديدة من العلاقات التركية المصرية، إلى الحديث عن تحالف استراتيجي مرتقب بين القاهرة وأنقرة، يقلب كل المعادلات الإقليمية رأسا على عقب. كل ما يقال في الجانب التركي، ويكرّر باستمرار منذ أشهر، هو استعداد تركيا لفتح صفحة جديدة من الحوار والمصالحة مع مصر، وإن البلدين قد يتفاوضان على ترسيم الحدود البحرية في شرق المتوسط، إذا سمحت العلاقات بينهما بمثل هذه الخطوة.
في المقابل، وباستثناء ما قاله وزير الخارجية المصري، سامح شكري، قبل فترة "إذا لم تكن الأحاديث والتصريحات متفقةً مع السياسات على الأرض فهي ستكون بلا قيمة"، لم نشاهد موقفا مصريا جديدا يتعامل مع التصريحات التركية المكثفة التي تطارد القيادة المصرية، وتحاول محاصرتها بقبول دعوات الحوار والتفاهم. الواضح أن القاهرة لن تنسى بمثل هذه البساطة ما قيل لها قبل سنوات "عادت مصر إلى الوراء خمسين عاما على أقل تقدير، بسبب الانقلاب الذي قام به الجيش"، حتى ولو قيل لها بعد ذلك "الجيش المصري عظيم، ونحن نحترمه كثيرا، لأنه جيش أشقائنا". تسعى القاهرة جاهدة لمعرفة أسباب (ومغزى) التصريحات التركية الهادئة، والمهادنة على غير العادة حيال مصر والعلاقات معها، وتسعى أنقرة إلى معرفة أسباب هذا الصمت والتعتيم المصري على كل الرسائل الانفتاحية التي وجهتها القيادات السياسية منذ أشهر من دون رد. وليس معروفا بعد ما إذا كانت قنوات الاتصال بين البلدين قد نجحت في تجاوز العقبة الأولى والأهم، تحطيم حاجز الحذر والتخوف، لكن القاهرة تقول إن أنقرة هي من يتحمّل مسؤولية إيصال الأمور إلى هذه الدرجة من التوتر. لذلك عليها الأخذ بالشروط المسبقة التي لا مفر منها. ما الذي ستقدّمه تركيا لمصر، والذي سيكون كافيا لإقناعها بتغيير المواقف والسياسات في العلاقات التركية المصرية؟
ينتقد وزير الخارجية المصري مواقف أنقرة قائلاً: "السياسات التي نراها بالوجود على الأراضي السورية والعراقية والليبية، إضافة إلى التوتر القائم في شرق المتوسط، جميعها تنبئ بتحوّلات مزعزعة للاستقرار في المنطقة". رسالة مصرية أولى ربما. والرسالة الثانية التي يمكن رصدها من العاصمة المصرية تقول إن الأفضل للقاهرة أن لا يكون هناك حوار سياسي في العلن، قبل معرفة نتائج المحادثات التي تجري بعيدا عن الأعين على مستوى أجهزة الاستخبارات والدبلوماسيين من الجانبين. والشرط المصري الثالث الذي تصرّ عليه القيادة السياسية، قبل الدخول في أي حوار مع أنقرة، مواقف واضحة وملزمة في إزالة أسباب التوتر الثنائي الذي اندلع قبل ست سنوات، ومنها فتح تركيا أبوابها أمام الإخوان المسلمين لينشطوا سياسيا وإعلاميا.
وهناك من يدعو في مصر إلى المصالحة والتطبيع مع تركيا، لأن ذلك "من شأنه أن يحقق مكاسب لمصر أكثر من القطيعة"، غير أن من يقول أيضا إن "التحوّل في الموقف التركي سببه الضربات التي تلقتها تركيا مصريا وإقليميا في الفترة الأخيرة". وهنا قد يقال إن مصر التي ذهبت وراء التنسيق مع تركيا في الملف الليبي، والمساهمة في إيصاله إلى ما هو عليه اليوم من مسار جديد، قادرة على تبنّي سياسةٍ أكثر واقعية وعملية في علاقاتها مع أنقرة عندما تتطلب الضرورات ذلك. ولكنه لا يمكن بمثل هذه السهولة تجاهل المواقف والتصريحات والخطوات التصعيدية المعتمدة في البلدين منذ العام 2013. ولا يمكن أيضا التعتيم على حقيقة وجود مصر في قلب الاصطفافات الإقليمية التي تجمع اليونان وفرنسا وإسرائيل والإمارات، والتي تتبنّى سياسات معاكسة لما تقوله وتريده تركيا في المنطقة.
تعوّل القاهرة على الاستماع إلى رسائل تركية جديدة غير المعلنة والمكرّرة منذ أشهر حول حوار سياسي استخباراتي يجري بين البلدين بعيدا عن الأعين. هي تريد أن ترى ترجمة عملية لهذه الرغبة التركية، بعيدا عن الرسائل الكلامية عن ضرورة فتح صفحة جديدة من العلاقات، وضرورة معالجة ملفات الخلاف الثنائية والإقليمية بالحوار.
المشكلة بالنسبة للقاهرة هي أيضا في الإجابة على سؤال مصري: هل تتراجع أنقرة عن تسويق مشروع "الإسلام السياسي السني المعتدل" أم لا؟ والتعامل بجدّية مع التساؤل عمّا تريده تركيا من الجانب المصري، مع العلم أن قناعة كتاب وإعلاميين مصريين كثيرين بأن بين أسباب التحول في السياسة الخارجية التركية حيال القاهرة، العامل المصري "الذي دخل في شبكة علاقاتٍ واسعةٍ أمنيةٍ واستخباراتيةٍ وسياسيةٍ، تقوم على التحالف مع خصوم تركيا، والتنسيق مع منافسين لها في المنطقة". وهناك في مصر من يقول إن القيادات التركية تحاول "كسر الصورة النمطية التي تكرّست حولها"، وإن على أنقرة مراجعة سياساتها الهادفة إلى محاصرة النفوذ المصري في البحر الأحمر وما حوله في السودان والصومال وشمال أفريقيا.
وكانت أنقرة قد نجحت في محاولاتها عزل السياسة المصرية وإرباك السياسة المصرية بين العامين 2014 و2018 تحديدا، لكن القاهرة سرعان ما تمكّنت، في العامين الأخيرين، من فك هذا الطوق التركي، بالالتفاف على تركيا في شرق المتوسط والخليج والشرق الأوسط في سورية والعراق وإسرائيل، وتحريك جامعة الدول العربية ضدها. .. ما الذي قد يدفع القاهرة، إذا، للأخذ بما تكرّره الدبلوماسية التركية منذ أشهر "أن الطريقة الأكثر عقلانية لعودة العلاقات التركية المصرية تكون عبر الحوار والتعاون مع تركيا بدلا من تجاهلها"، ذلك أن المصالح الثنائية والإقليمية تفرض على البلدين مراجعة مسار العلاقات، وتدفعهما نحو الحوار والتفاهم. ولكن لا بد أولا من تجاوز عقبة طريقة تعامل أنقرة مع ما جرى في مصر قبل سنوات ونسيانه، وذهاب القاهرة وراء البحث عن منظومة تحالفات إقليمية جديدة في مواجهة تركيا. ومعلوم أن ما ورد في بيان اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة، الشهر الماضي (فبراير/ شباط)، والذي هاجم تركيا وسياساتها العربية والإقليمية، هو صناعة مصرية بالدرجة الأولى.
وقد تخدم المصالحة التركية المصرية عواصم عربية وإقليمية عديدة، في مواجهة الصعود الإيراني والنفوذ الإسرائيلي، لكنها قد تكون غير مستحبة بالنسبة للإدارة الأميركية الجديدة، وللكرملين أيضا، لأنها قد تتحوّل إلى فرصة التنسيق الإقليمي المقلق بين قوتين لا يستهان بهما، وقد تعرقل حسابات اللاعبين الكبيرين وخططهما في المنطقة. إلى ذلك، فإنه حتى لو كانت هناك وساطات عُمانية وكويتية وأردنية، وربما قطرية، بين أنقرة والعواصم العربية، فالحقيقة أن المصالحة التركية مع دول خليجية تمر عبر القاهرة، كما أن المصالحة التركية المصرية تمر عبر الخليج أيضا. وهذا ما يعكسه مضمون بيان الاجتماع الوزاري العربي بشأن سياسة تركيا الإقليمية.
وعلى صعيد متصل، لا يمكن فصل الرسائل الانفتاحية التي وجهها المتحدّث باسم الرئاسة التركية، إبراهيم كالين، إلى دول الخليج أيضا، وهو يتحدّث عن المصالحة مع مصر، عن طريقة تعامل تركيا مع التقرير الأميركي بشأن التحقيقات في جريمة قتل الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، في قنصلية بلاده في إسطنبول. ودبلوماسية التراجع خطوة إلى الوراء هي المطلوبة اليوم في العلاقات التركية المصرية، وأنقرة بعثت رسائل ومؤشّرات في هذا الاتجاه، غير أن الجانب المصري يرجّح التريث.
قد تتقدّم التحدّيات الاقتصادية الصعبة ومواجهة ارتدادات كورونا التي يعيشها البلدان، ومواقف الإدارة الأميركية الجديدة حيالهما، أسباب مراجعة العلاقات، لكن الاصطفافات الإقليمية التي التحقا بها في الأعوام الأربعة الأخيرة تقول إن التواصل الذي يجري لن يتحوّل سريعا إلى مصالحة وتطبيع للعلاقات. من المحتمل أن ينجح الطرفان في إنجاز عملية الاتصال والتواصل، لكن مسار المصالحة والتطبيع سيستغرق وقتاً طويلاً، ذلك أن كل الرسائل الانفتاحية والحماس لإعادة العلاقات إلى سابق عهدها تأتي من الجانب التركي، أما الطرف المصري فلا يقابل هذا كله بابتسامة حتى.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس