د. علي محمد الصلابي - خاص ترك برس

حدد القرآن الكريم قواعد التعامل مع الظالمين من خلال آيات كثيرة بيّنت سبل القصاص من الظالمين واسترداد الحقوق وغير ذلك، فمن الآيات المفصلة للتعامل مع الظالم في القرآن الكريم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ * وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى: 39-43]. وقد جاءت هذه الآيات في سياق صفات الذين آمنوا، وفيها:{وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى:37].

فإذا تجاوز الأمر الإغضاب المحتمل إلى البغي أو الظلم والعدوان، جاز الانتصار، أي: الانتصاف من الباغي، ولكنه انتصار مفيد بالمثلية: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]، ولما كانت هذه المثلية عسيرة التطبيق رغَّب الله في العفو، فقال تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} (الإسلام وصراع العدالة والظلم ، ص173).

ولكن دون أن يهمل سبحانه وعيد البادئين بالحرمان من محبته في قوله تعالى: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}، وقد خصص البخاري رضي الله عنه حديثاً لبيان قوله: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} [ النساء149]. وفيه تذييل لطيف، حيث ربط العفو بالمقدرة، وهو أسمى أنواع العفو.

ومختصر موقف الإسلام من الظلم، هو تحريم بدايته، ووجوب دفعه من قبل أولي الأمر والقضاة، ومن في حكمهم، وجواز ردِّه من قبل الواقع بهم، بما لا يزيد عن الظلم السابق، مع تفضيل العفو للقادر على الانتقام، وعلى ذلك يمكن حصر معاملة الظالمين في النقاط الاتية:

1 ـ دعوتهم إلى رد المظالم والتوبة:

تكون هذه الدعوة بشيء من الحكمة والموعظة الحسنة؛ كي نرغِّبهم في رد المظلمة والتوبة إلى الله، فليس المراد هنا التشهير، وإذا أمكنت الدعوة سرّاً ودون افتضاح فهي أولى، وإذا لم يكن بدٌّ من الإعلان فبالرفق والحكمة، إذ ما دخل الرفق شيئاً إلا حسَّنه، وما دخل العنف شيئاً إلا شانه وضيعه، فإذا سُدَّت كل أبواب السلم لرد المظالم جاز استعمال القوة ممن يملك حق استعمالها، ومن أولئك المظلوم والمسؤول.

2 ـ عدم الركون إلى الظلمة:

فالركون إلى الظالم أو الميل إليه ومساعدته ظلمٌ في حد ذاته، قال تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ}[هود: 113].

أي: لا تستندوا إليهم، فتجعلوهم ركناً لهم تعتمدون عليهم، فتقرونهم على ظلمهم، وتولونهم في السياسات والأعمال فيستعملونكم فيما تحت أيديهم من سلطان، ويقدمونكم في ولايتهم لما أنسوا منكم الاستعداد للركون إليهم، والاستظلال بسلطانهم لدنيا تصيبونها؛ فإن الظلمة من الحكام يؤثرون تقديم من يقيم رئاستهم شأن من يطلب رئاسة نفسه، والآية جلية المعنى في النهي عن الظلم، وهي عامة في الظلمة من غير فرق بين كافر ومسلم (العدالة من منظور القرآن، الصلابي، ص133).

ويشمل النهي حينئذ مداهنتهم وترك الحسبة عليهم مع القدرة، ومجالستهم من غير داعٍ شرعي، والمشاركة لهم في غيِّهم، ومعنى الركون إليهم الاستناد إلى ولايتهم والاعتماد على سلطانهم، ولا يدخل في معناه أن يكون الأمر يقتضي ذلك شرعاً كالطاعة الواجبة لولي الأمر في غير معصية، أو التقيّة إذا خيف الضرر منهم، أو لدفع مفسدة عامة أو جلب مصلحة عامة؛ فإن ذلك يكون مخصصاً لعموم النهي بأدلتها التي أشرنا إليها، مع كراهة ما هم عليه من الظلم، وكراهة الصلة لهم: «وإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى».

وخلاصة القول الحق: أنه لا تعارض بين وجوب طاعة الأئمة والأمراء فيما لا معصية فيه لله تعالى من المعروف، وبين النهي عن الركون إلى الظالمين، وحظر ما دون الركون إليهم مما قاله المفسرون وغيرهم، وما في معنى هذا النهي من آيات القرآن في تقبيح الظلم، وبيان كونه سبباً لهلاك الأمم في الدنيا وعذابها في الآخرة، وكذا الآيات الدالة على سلطة الأمة عليهم، وما ورد من الأحاديث في طاعتهم يقابله ما ورد فيها من وجوب الأخذ على أيدي الظالمين عامة، وعلى أئمة الجور والأمراء خاصة، ووجوب تغيير المنكر باليد أولاً؛ فإن لم يستطع فباللسان، وكون إنكاره بالقلب عند عدم الاستطاعة لمن فعله أضعف الإيمان، ومنه عدم الميل إليهم ولو يسيراً، فإن كفّ الإمام عن الظلم ولو بالعزل فهو حق أهل العقد؛ الذين هم محل ثقة الأمة؛ الذين يمثلون الرأي العام فيها؛ الذين عناهم خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول في خطبته الأولى عقب مبايعته: ((وإذا استقمت فأعينوني، وإذا زغت فقوّموني)). والركون إلى الذين ظلموا من حكام الجور المنهي عنه يتجسد في صورتين، جاءتا في حديثين صحيحين للنبي صلى الله عليه وسلم:

إحداهما: قوله صلى الله عليه وسلم: «إنَّه يُسْتَعْمَلُ علَيْكُم أُمَراءُ، فَتَعْرِفُونَ وتُنْكِرُونَ، فمَن كَرِهَ فقَدْ بَرِئَ، ومَن أنْكَرَ فقَدْ سَلِمَ، ولَكِنْ مَن رَضِيَ وتابَعَ، قالوا: يا رَسولَ اللهِ، ألا نُقاتِلُهُمْ؟ قالَ: لا، ما صَلَّوْا» فالركون يتجسد في الرضا والمتابعة.

وثانيهما: في قوله صلى الله عليه وسلم عن بطانتي الخير والشر: «إن الله لم يبعث نبيا ًولا خليفة، إلا وله بطانتان، بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالاً، ومن يوق بطانة السوء فقد وُقي) (في الفقه السياسي الإسلامي، فريد عبد الخالق، ص، 212).

فالركون المنهي عنه يتجسد في بطانة السوء التي لا تألو السلطان الجائر خبالاً بمساندته في ظلمه، وشبيه بطانة السوء في زماننا الحاضر، وهي أن يكون المرتكن إلى الحاكم الجائر في شيعته السياسية وعصبيته الحزبية، فهذا الركون المنهي عنه في الآية، وهو العصبية التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سألته امرأة يقال لها فسيلة، قالت: سمعت أبي يقول: سألت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله أمن العصبية أن يحب الرجل قومه؟ قال: «لا، ولكن من العصبية أن يعين الرجل قومه على الظلم».

3 ـ الإذن في مواجهة الظالمين:

المؤمن من طبيعته لا يظلم أحداً، ويعفو عمن ظلمه، ولكن عليه أن يكون شجاعاً صبوراً حين تدفعه الضرورات إلى مواجهة الظلم، ومن هذه الضرورات الدفاع عن النفس وحماية المستضعفين، وهي مواجهته لرفع الظلم بشروط مبثوثة في الكتاب والسنة.

قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا}[النساء: 75] وقال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ }[ الحج: 39]( العدالة من منظور القرآن، الصلابي، ص135).

ويجدر الأخذ بالرأي السديد والمشورة الرشيدة، فالعجلة في القتال فادحة الثمن، وعاقبتها وخيمة في الدنيا والآخرة، وإن أشد ما يثبّت المؤمن في المواقف العصيبة ثقته غير المحدودة في الله، تلك القوة التي تزداد بزيادة الإيمان. قال سبحانه: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}[ الزمر: 36].

4 ـ تفادي الظلم والتحفظ منه:

ربّى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه على منهج مدرسة القرآن الكريم؛ التي تقبح الظلم وتحذر من عواقبه، وتتخذ لذلك أساليب مختلفة تجتمع في الدعوة إلى اجتنابه وبيان خطره، فقد ورد في حديثه الدعاء بالحفظ من الظلم والظالمين، ومن ذلك ما روته أم المؤمنين أم سلمة حين قالت: ما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من بيتي قط إلا رفع طرفه إلى السماء فقال: «اللهم أعوذ بك أن أَضِلَّ أو أُضَلَّ، أو أَذِلَّ أو أُذل، أو أَظْلم أو أُظْلَم، أو أَجْهَل أو يُجْهَل عليَّ». وورد التحذير منه في حديث عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة».

وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم؛ فهو ممن كملت مروءته، وظهرت عدالته، ووجبت أخوته، وحرمت غيبته». وفي هذه الأحاديث الثلاثة صيغ مختلفة من التحفظ من الظلم، ففي الأولى استعاذة بالله منه، وفي الثانية أمر باتقائه معللٌ بسببه، وفي الثالثة أسلوب شرط وجزاء، مفاده أن من لم يظلم الناس فاز بتلك الصفات الواردة في الجزاء: وهي علامة كمال المروءة وظهور العدالة، ووجوب اتخاذه أخاً لبقية المسلمين، وتحريم غيبته، ومفهوم المخالف أن من ظلم الناس كان جزاؤه أضداد هذه الصفات، وهي طريقة أخرى من التحذير والوعيد، لا تلتزم الأمر والنهي، وربما فاقتها تحذيراً وتحفظاً (الإسلام وصراع العدالة والظلم، الهرامة، ص187).


المراجع:

الإسلام وصراع العدالة والظلم، عبد الحميد الهرامة، جمعية الدعوة الإسلامية العالمية، ليبيا، 2009م.  

العدالة من منظور القرآن، علي الصلابي، دار ابن كثير.

في الفقه السياسي الإسلامي، فريد عبد الخالق، دار الشروق، ط1، القاهرة، 1988م.

عن الكاتب

د. علي محمد الصلّابي

الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس