سعيد الحاج - عربي 21
تمر في هذا الأسبوع الذكرى العشرون لتأسيس حزب العدالة والتنمية التركي، الذي أُشهِرَ في 14 آب/ أغسطس 2001. عقدان من الزمن والحزب يتربع على عرش السياسة في تركيا، ليصبغها باسمه وصبغته إلى حد كبير، لا سيما وأنه الحزب الحاكم فيها منذ 19 عاما بشكل مستمر دون انقطاع، إثر فوزه بأغلبية البرلمان وبالتالي تشكيل الحكومة منذ أول انتخابات خاضها في 2002 وحتى الآن، إضافة للرئاسة منذ عام 2007.
خلال هذه الرحلة الطويلة من الحكم، مر الحزب بتحديات كبيرة وعديدة داخلياً وخارجياً، بدءاً من تحدي التأسيس والتواجد، مروراً بتحدي الإنجاز، وليس انتهاءً بتحدي البقاء والاستمرار. وخلال العقدين الماضيين، وإلى جانب عدد كبير من القضايا الشائكة التي واجهته، يمكن القول إن أهم وأخطر ما واجهه العدالة والتنمية هي محاولات الانقلاب عليه وحظره.
من ذلك أزمة انتخاب رئيس الجمهورية عام 2007 وبيان رئاسة أركان الجيش الذي عُدَّ "انقلاباً إلكترونياً"، ثم رفع دعوى لدى المحكمة الدستورية لحظره عام 2008 والتي رفضت بفارق صوت واحد حينها. ومن ذلك أيضا تخطيط بعض الضباط أو تفكيرهم بانقلاب عسكري في ما سمّي قضايا أرغنكون والمطرقة وغيرهما. ومنه أيضاً قضايا الرشاوى والفساد التي طالت عدداً من وزرائه في كانون الأول/ ديسمبر 2013 والتي سميت بـ"الانقلاب القضائي". وأخيراً، هناك المحاولة الانقلابية الفاشلة التي كانت ربما تتويجاً لكل ما سبق على شكل انقلاب عسكري صريح ودموي، ولكن لم يقدر له النجاح كسابقيه.
اليوم، وقد تحول العدالة والتنمية إلى حزب حاكم استمر على رأس السلطة في البلاد لما يقرب من عقدين كاملين، يواجه الأخير وتواجه معه تركيا تحديات من نوع مختلف. لكن ذلك لا يقلل من أهميتها، بل لعلها عوامل مهمة سيكون لها دورها في تحديد مصير الحزب وأدائه في الانتخابات المقبلة، ومستقبله على المدى البعيد.
أحد أهم هذه التحديات هو الوضع الاقتصادي المتراجع في البلاد في السنوات الأخيرة. فقد تراجع اندفاع أموال الاستثمار إلى تركيا بعد استقرار الأوضاع المالية وأسعار الفائدة في الولايات المتحدة في فترة ما بعد الأزمة الاقتصادية العالمية، وكذلك لأسباب تتعلق بالأوضاع في تركيا وسياستها الخارجية. ثم أضيف لها عدد لا بأس به من الأزمات الداخلية والخارجية، وانخراط البلاد في عدة صراعات إقليمية بشكل مباشر وغير مباشر في السنوات القليلة الماضية. ثم ألقت جائحة كورونا بظلالها على اقتصاد تركيا أسوة بعدد كبير من دول العالم، ولا سيما الاقتصادات الناشئة. تفاعل ذلك كله مع المشاكل البنيوية للاقتصاد التركي وفاقم أزمته، وهو تحدٍّ يشكل بلا شك أولوية للعدالة والتنمية وحكوماته، حالياً وفي المستقبل القريب.
ومن أهم التحديات كذلك تراجع حضور الحزب لدى شريحة الشباب تحديداً، وهو أمر له شواهده في المحطات الانتخابية التي خاضها الحزب في السنوات القليلة الأخيرة، وكذلك في استطلاعات الرأي. ولعل أحد أهم أسباب ذلك أن شباب اليوم لم يعرفوا تركيا ما قبل العدالة والتنمية، وبالتالي فتقديرهم لإنجازات الحزب أقل بكثير من تقدير الأجيال السابقة عليهم، وخوفهم من غياب الحزب عن حكم تركيا أقل بكثير من خوف هؤلاء.
كما أن تراجع الأجندة الإصلاحية للحزب في السنوات الأخيرة، وبعض المؤشرات المتعلقة بالحقوق والحريات، وكذلك تداعيات الأزمة الاقتصادية وخصوصاً فيما يتعلق بفرص العمل، كلها لها تأثيرها كذلك على فئة الشباب تحديداً أكثر من غيرها من الشرائح. وبالنظر إلى أن نسبة هؤلاء الشباب تزداد مع كل مناسبة انتخابية، فإن ذلك يشكل تحدياً مستمراً أمام الحزب في الانتخابات المقبلة واللاحقة عليها.
ومنها كذلك أن العدالة والتنمية تحول لـ"حزب حاكم" بما تعنيه الكلمة، بحيث بات يفكر ويتكلم ويسوس بمنطق الحزب الحاكم، وقد زاد من تأثير ذلك طول مدة بقائه في السلطة. يعني ذلك من ضمن ما يعنيه تراجع وتيرة الإصلاحات لديه لصالح السعي للإبقاء على الوضع القائم ومنظومة تحالفاته مع القوميين وخصوصاً حزب الحركة القومية، واقترابه أكثر من رؤية الدولة (والمؤسسة العسكرية) في الملف الكردي ومواجهة منظمة حزب العمال الكردستاني مثلاً، وفي بعض الممارسات السياسية التي توحي بغرور القوة والسلطة. وهي كلها عوامل تجعل من العدالة والتنمية اليوم حزباً مختلفاً إلى حد ما عنه لدى التأسيس عام 2001، وهو أمر ترك آثاره على الحزب فكراً وخطاباً وسياسةً بحيث بات أقرب لحزب قومي؛ من جهة، وعلى الشرائح الناخبة للحزب والداعمة له من جهة أخرى.
ومن التحديات المستجدة التي لم يواجهها العدالة والتنمية سابقاً؛ تأسيس أحزاب خرجت من عباءته، تشاركه تقريباً نفس الخلفية والأفكار والمرجعية، وتقودها شخصيات كانت يوماً من أبرز الأسماء الناجحة في مسيرته، ونقصد تحديداً حزبَيْ الديمقراطية والتقدم بقيادة علي باباجان؛ والمستقبل بقيادة أحمد داود أوغلو.
صحيح أن تجربة تركيا مع الأحزاب المنشقة عن أحزاب كبيرة وقوية غير مشجعة، وصحيح أن الحزبَيْن الوليدَيْن ما زالا ضعيفَيْ الأثر حالياً في الساحة التركية، في ظل وجود أردوغان وقوة حزبه وتماسكه، إلا أن ذلك لا يقلل من حجم التحدي في الانتخابات المقبلة أولاً، ثم في مرحلة ما بعد أردوغان بالنسبة للعدالة والتنمية على المدى البعيد، وهو التحدي الحقيقي.
وبالإشارة إلى "مرحلة ما بعد أردوغان"، فلعلها أحد أهم وأصعب التحديات التي ستواجه العدالة والتنمية على المدى البعيد. فمن جهة يمثل أردوغان رئيساً وقائداً وزعيماً في الحزب، ويملك الكاريزما ورمزية الإنجاز وقيادة الحزب أمام مختلف التحديات التي واجهته منذ التأسيس، فضلاً عن تفرده في القيادة والإدارة للحزب والدولة. وقد زادت سنوات الحكم الطويلة من هذا التفرد وقوة أردوغان في قيادة الحزب وتركيا، كما أضاف الانتقال للنظام الرئاسي لصلاحياته وقوته وسيطرته على المشهد الحزبي والسياسي في البلاد.
يعني كل ذلك أن لحظة غياب أردوغان عن الحزب في المستقبل ستكون جذرية وشديدة الوطأة على الحزب، في ظل حضور الرئيس في كافة التفاصيل وضعف مؤسسية الحزب في السنوات الأخيرة.
ومن جهة أخرى، فقد خَرَجَ أو أخرِجَ من الحزب، ولا سيما من دوائره القيادية خلال هذه المدة - لأسباب متعددة لا مجال لنقاشها هنا - عددٌ لا بأس به من الشخصيات المؤسسة والقيادية السابقة التي كانت لها بصمة في مسيرة الحزب وإنجازاته، وكذلك نصيب وحضور لدى أنصار الحزب وجماهير الشعب على حد سواء.
اليوم، لم يبق في هيئات الحزب القيادية من المجموعة المؤسِّسة البارزة للحزب إلا القليل، ربما يُذكر منهم رئيس الوزراء الأسبق بن علي يلدرم ووزير الخارجية الحالي مولود تشاووش أوغلو، بينما لا وجود اليوم للثلاثة الذين كانوا إلى جانب أردوغان في النواة الصلبة الضيقة لتأسيس الحزب، وهم عبد الله غل وبولند أرينتش وعبد اللطيف شنار، ولا وجود كذلك لعدد كبير من الوزراء الناجحين والمؤثرين، وفي مقدمتهم باباجان وداود أوغلو وحسين تيشليك وبشير أتالاي وغيرهم، بل إن بعضهم انضم للأحزاب الجديدة كما سبق ذكره.
يعني ذلك أن العدالة والتنمية يفتقد اليوم لوجود شخصية قيادية ذات كاريزمة عالية وإجماع عليها داخل الحزب، بحيث يمكن أن تقوده وتحافظ على وحدته وقوته بعد أردوغان، وهو الحزب الذي تنضوي داخله تيارات عديدة تتنافس فيما بينها على النفوذ في الحزب والدولة والحظوة لدى الرئيس والفرصة في خلافته.
في الخلاصة، تخطى العدالة والتنمية العديد من التحديات خلال سنوات حكمه الـ19 في تركيا، وما زال رقماً صعباً في الحياة السياسية التركية، وحزباً حاكماً قوياً من الصعب على أحزاب المعارضة منافسته فضلاً عن هزيمته في المشهد الحالي. لكن ذلك لا ينفي وجود تحديات من نوع مختلف، سيكون لها تأثيرها وتداعياتها عليه وعلى الحياة السياسية التركية على المديين المتوسط والبعيد، إذ أن كل مرحلة تأتي بتحدياتها الخاصة بها.
ولعل كيفية تعامل الحزب مع هذه التحديات وغيرها، والرسائل التي سيوصلها لأنصاره وللشعب بخصوصها، ونتيجة كل منها، ستكون عوامل مؤثرة في حظوظ الحزب في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة، سواء بقيت على موعدها في 2023 أو بُكّرت لموعد أقرب.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس