د. سمير صالحة - أساس ميديا
تضع الحكومة العراقية اللمسات الأخيرة على الاستعدادات لقمّة بغداد الإقليمية أو ما سُمِّي حتى الأمس القريب بمؤتمر دول الجوار العراقي المقرّر في نهاية الشهر الحالي، بمشاركة حوالي 13 دولة، بينها الدول المجاورة للعراق وأطراف إقليمية مؤثّرة تقع في الدائرة الجغرافية الثانية المحيطة.
باستثناء سوريا، وجّهت الحكومة العراقية دعوات إلى دول جوار العراق، إيران والسعوديّة والأردن والكويت وتركيا، ودول أخرى، مثل مصر وقطر والإمارات وسلطنة عُمان. ستستضيف طاولة الاجتماعات أيضاً قيادات وشخصيّات غربية مؤثّرة في الملفّات الإقليمية قادمة من الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وبريطانيا.
تبرز الخصوصية الأولى لسياسة العراق الخارجية، منذ عقد تقريباً، متمثّلةً في كونه يتحرّك إقليمياً ودولياً انطلاقاً من تعزيز سياسة الحياد والحفاظ على علاقات جيدة مع الجميع في إطار تراتبية وطنية وعربية وإسلامية وإقليمية واضحة ترفع شعار تحويل العراق إلى نقطة التقاء وجسر تواصل مع الجميع. قمّة العراق مهمّة لأكثر من طرف أيضاً باعتبار أنّ مصطفى الكاظمي غير محسوب على أيّ حزب سياسي عراقي، ولديه علاقات قوية مع الجوار العربي والإقليمي والغربي.
الجديد اللافت في قمّة بغداد سيكون جلوس الإيراني والأميركي والفرنسي والتركي والسعودي والمصري على قدم المساواة حول طاولة ترتّبها بغداد بعناية ودقّة كي لا تُغضِب أحداً، فتدفعه إلى الانسحاب قبل انطلاق الأعمال.
ترتيب طاولة حوار في بغداد في هذه الآونة، على الرغم من كلّ التعقيدات والصعوبات الإقليمية، بهدف مناقشة فرص التهدئة وتحسين العلاقات وتطويرها بين الدول المشاركة، سيكون بين أهمّ ما تسعى إليه بغداد لتسهيل دعم العراق للوقوف على قدميه وتمكينه من مواصلة خطط الحرب على الإرهاب، وإنجاز مشاريع التنمية بما يساعد الدولة على بدء مرحلة جديدة. لهذا يستحقّ العراق والكاظمي مثل هذه الفرصة.
لا تبحث القيادة العراقية من خلال هذه المبادرة عن سياسة النأي بالنفس لأنّه في قلب جغرافيا دائمة التحرّك ووسط لعبة توازنات ومعادلات لا يمكن تجاهلها أو البقاء خارجها. لكنّ ما يمكن أن يفعله هو الابتعاد قدر الإمكان عن الصراعات، وتقديم ما عنده بشكل جديد: بغداد يمكن أن تكون الجسر الذي يربط بين أكثر من لاعب إقليمي، وتساهم في حلّ الكثير من الخلافات إذا ما تمّ دعمها للخروج من أزماتها. تسعى بغداد إلى استرداد دورها المحوري في المنطقة، وتثبيت تموضع دولة العراق في قلب التوازنات العربية والإسلامية والإقليمية، ولكن عبر إقناع الدول المشاركة بأهمّية ومنطقيّة ما تقوله وتريده.
تهدف بغداد أيضاً من خلال ترتيب هذا اللقاء إلى رفع مستوى علاقاتها مع دول الخليج، والاستفادة من خطط التمويل والاستثمار، والعودة إلى مقترح استقبال العراق بين المنظومة الخليجية الذي طُرِح يوماً وأهدر العراق وقتها مثل هذه الفرصة الذهبية.
قد تكون حكومة الكاظمي تسعى إلى طرح الفوائد المرتجاة من تخفيف التوتّر بين دول المنطقة أكثر ممّا تسعى إلى التوسّط بين الأطراف المتخاصمة، لكنّها ستذكِّر الجميع أنّ تفاهمات إقليمية بهذا الاتجاه ستقلِّل من مساحة التدخّلات الخارجية في العراق، وستمنح هذه الدول فرص الاستفادة من الأجواء الإيجابية على أكثر من صعيد.
يريد العراق الاستفادة من الحالة الإقليمية القائمة، ولعبة التوازنات الجديدة، والدعمين العربي والغربي المقدَّمين له وتجييرهما إلى فرصة تكمن أهمّيتها في جمع خصوم ومتنافسين وشركاء إقليميين حول طاولة واحدة، وهي مغامرة باتجاهين، لكنها تستحقّ ذلك.
صحيح أنّ الحضور لن يتركوا أسباب خلافاتهم وتباعدهم خارج القاعة، وأنّ المؤتمر قد يكون عبارة عن جلسة بروتوكولية دون نتائج كبيرة، إلا أنّ ترتيب طاولة من هذا النوع في مثل هذه الظروف الإقليمية سيُعتبر إنجازاً مهمّاً لبغداد، وفرصةً للحضور للبحث عن لقاءات ثنائية في القاعات المجاورة إذا ما رغبوا بحوار مباشر لبحث مشاكلهم.
لن تكون سهلةً مهمّةُ الحكومة العراقية التي اختارتها لنفسها، وهي تواجه أكثر من معضلة سياسية وأمنيّة واقتصادية داخلية، فقرّرت أن تتحرّك بطابع إقليمي هذه المرّة. فالعراق تحوَّل منذ 4 عقود إلى ساحة احتراب ومواجهات بالوكالة للعديد من الدول والأجهزة والتنظيمات كان هو حلقة أساسية فيها مرّةً، وفُرِضت عليه مرّات أخرى.
إذا ما تكلّلت بالنجاح هذه الجهود السياسية والدبلوماسية، التي تبذلها بغداد منذ أسابيع بهدف الإعداد لمؤتمرها الإقليمي، فهي ستكون قد قطعت بذلك شوطاً كبيراً على طريق تعزيز الوحدة الوطنية وتسهيل استرداد العراق لموقعه ودوره العربي والإقليمي عبر فتح ثغرة كبيرة في جدار محاولات عرقلة جهود إزالة التوتّر والشحن بين دول المنطقة.
لا تبحث القيادة العراقية عن هدف تحويل المؤتمر إلى منصّة تأسيسية لمنظمة إقليمية دائمة لأنّ المتغيّبين الكثر، وعلى رأسهم إسرائيل، سيتحرّكون حتماً لإفشال المشروع. لكنّ حكومة الكاظمي تتطلّع من وراء ذلك إلى توفير الدعم الإقليمي والدولي لجهود الانتقال بالعراق من مرحلة إلى أخرى جديدة، حيث الأمن والاستقرار، وتذكير الآخرين بهويّته وانتمائه وأولويّاته. من الطبيعي أن يدير العراق شبكة علاقاته على أساس موقعه وانتمائه العربي والإسلامي والإقليمي، وحسب مصالحه.
سيكون من حقّ الحكومة العراقية صرف أموال وإغلاق شوارع وساحات وإعلان حالة الاستنفار الأمني في بغداد لعدّة أيام طالما أنّها قرّرت المغامرة بتنظيم لقاء بهذا الحجم وهذا الثقل. استفاد العراق من دروس هدر وخسارة مليارات الدولارت التي كانت كفيلة أن تنتقل به من مرحلة إنمائية واقتصادية إلى حالة إقليمية أخرى. على البعض في الداخل والخارج أن يتحمّل مسؤولية تحميل العراقيين كلّ هذه الأعباء والمشقّات، ودفع البلاد إلى أن تنتظر قرضاً أمميّاً أو دوليّاً للوقوف على قدميها.
يرصد لاعبون كثر عن قرب رغبة العراق وتحرّكه في الأشهر الأخيرة لاسترداد عافيته وقوّته وموقعه العربي والإقليمي. منذ أشهر طويلة يتحرّك الكاظمي للدفاع عن مصالح العراق، وهو مزوّد بالدعم العربي، كما رأينا في بيانات القمم العربية الأخيرة، والوقوف الغربي إلى جانبه، خصوصاً واشنطن وباريس ولندن. والدليل هو اختيارهم بغداد من بين العشرات من العواصم لحضور المؤتمر. نصف الأرقام التجارية العراقية المعلنة هي مع تركيا وإيران، ومع ذلك يواجه أكثر من أزمة سياسية وأمنية مع الدولتين الجارتين. تتحمّل أنقرة وطهران مسؤولية كبيرة في الوقوف إلى جانب بغداد من أجل استرداد موقعها ودورها. يستحقّ العراق مثل هذه الفرصة من خلال تنظيم مؤتمر بهذه الأهمية، لكنّه سيُطالَب بإثبات أنّه لن يفرِّط بها طبعاً.
يتطلّع العراق إلى مشاركة رفيعة المستوى، وأن تحدث مفاجآت على هامش الجلسات الرسمية بين الوفود الحاضرة، والخروج ببيان قمّة نهائي يُرضي المشاركين ويُنعش آمال العراقيين في الداخل والخارج. إنّ مؤتمر بغداد المنتظر هو فرصة للانتقال بدول المنطقة من فضاء عربي إقليمي إلى مناخ عربي إقليمي جديد قد يكون نهاية مسار وبداية مسار آخر بالنسبة إلى العراق ودول المنطقة.
ليس الاجتماع عصا موسى لمعالجة الكثير من أزمات المنطقة، لكنّه محاولة تسجيل اختراق سياسي ودبلوماسي لأزمات إقليمية مزمنة تنذر بكوارث أكبر. وسيكون دعم العراق في معالجة مشاكله مفتاح الحلّ للعديد من القضايا والعِقَد الإقليمية. ما يقدّمه العراق اليوم هو فرصة للراغبين في دفع الأمور نحو مسار حلحلة أوسع في ضوء المصالحة الخليجية، والحوار التركي-المصري والتركي-الإماراتي، ودعم التهدئة في سوريا وليبيا واليمن.
أجمعت الدول المشاركة في مؤتمر برلمانات دول الجوار العراقي، الذي انعقد أخيراً في بغداد، على دعم استقرار العراق لضمان استقرار المنطقة، ولأنّ استقرار العراق سيساهم في عودته بكلّ ثقله السياسي والاقتصادي وموارده البشرية إلى محيطه العربي والإقليمي.
إنّ اجتماع تركيا وإيران والسعودية وأميركا وفرنسا وإنكلترا والإمارات ومصر حول طاولة حوار واحدة سيعني الكثير لِمَن يتابع. لكنّ هناك حقيقة أخرى، وهي أنّ إعطاء العراق ما يريده يتطلّب إنجاز الكثير من التفاهمات والتعهّدات والخطوات السياسية والدستورية الداخلية التي ظلّت حبراً على ورق منذ عام 2005، والقطع مع محاولات الهيمنة على القرار السياسي في البلاد من قبل مجموعات وقوى رديفة تأتمر بقرارات وتعليمات الخارج.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس