د. سمير صالحة - أساس ميديا
تراجع تأثير تسونامي العلاقات التركية العربية، والتركية الخليجية تحديداً، في الأسابيع الأخيرة.
هناك جملة تحوّلات ومتغيّرات إقليمية فرضت نفسها، أبرزها قرار تركيا تنفيذ مراجعة جذرية لسياساتها في المنطقة والتحرّك باتّجاه إزالة أسباب الخلاف والتباعد مع عواصم كثيرة في الإقليم، ووجود العديد من الملفّات التي تتطلّب الاستعداد لها عربيّاً وتركيّاً، وكانت كلّها أسباباً إضافية لإعادة التموضع الحاصل:
- زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن المرتقبة للمنطقة، والاستعدادات العربية بقيادة الرياض للمرحلة المقبلة.
- مسار الملف النووي الإيراني والسيناريوهات المحتملة الواجب الاستعداد لها إقليميّاً.
- تفاعلات الأزمة الأوكرانية واحتمالات ارتداداتها على دول المنطقة سياسياً واقتصادياً وأمنيّاً إذا ما طال أمدها.
- مناقشة فرص تصويب البوصلة التركية السعودية نحو أهداف ثنائية وإقليمية عديدة.
ماذا عن تركيا أوّلاً؟
في الشقّ التركي من الجولة كثر هم الذين سيتابعون عن قرب تفاصيلها ونتائجها. فهي زيارة تحمل معها الكثير من التساؤلات عن مسار العلاقات الثنائية التي تراجعت سياسيّاً واقتصاديّاً بين البلدين في الأعوام الأخيرة، وسبل العودة إلى تنسيق المواقف في ملفّات إقليمية حسّاسة في هذه المرحلة.
زيارة وليّ العهد لأنقرة جرى الحديث عنها أكثر من مرّة، وينتظرها الداخل التركي منذ أشهر، لكنّ الظروف والتطوّرات والتوقيت ربّما التقت كلّها على أن تتمّ في هذه الآونة. مهّد لها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان قبل شهرين تقريباً بزيارة قصيرة لجُدّة التقى فيها العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز ووليّ عهده الأمير محمد، وتطلّع إلى أن تكون مقدّمة لحقبة جديدة من العلاقات بين البلدين.
نعرف أنّ إردوغان لم يكن بمفرده، فقد اصطحب معه عقيلته أمينة إردوغان. لكنّه اصطحب أيضاً وفداً سياسياً وأمنيّاً وعسكرياً واقتصادياً رفيعاً، ضمّ وزراء الداخلية سليمان صويلو، والدفاع خلوصي أكار، والعدل بكير بوزداغ، والصحّة فخر الدين قوجة، والخزانة والمالية نور الدين نباتي، والثقافة والسياحة محمد نوري أرصوي، والتجارة محمد موش، إضافة إلى رئيس جهاز المخابرات هاكان فيدان، وهو ما يعني أنّ ملفّات كثيرة متعدّدة الجوانب نوقشت. ونعرف أيضاً أنّ الأمير محمد يصل العاصمة التركية في إطار جولة شملت مصر والأردن. والجانب المصري في التحرّك السعودي الحالي يعنينا هنا في تركيا أكثر من الجانب الأردني. فنحن ننتظر ما سيحمله لنا وليّ العهد من القاهرة من مفاجآت قد تحرِّك مسار العلاقات التركية المصرية المجمَّد بعد جولتين من المحادثات الاستكشافية ووعود بجولات دبلوماسية جديدة لم تتمّ حتى الآن على الرغم من مرور أشهر طويلة.
بين الزيارتين شهران، لكنّ تطوّرات الأحداث الإقليمية تكاد تقول إنّ إردوغان ركّز خلال زيارته لجُدّة على ضرورات تفعيل الحوار، واتّخاذ خطوات ملموسة، والانتقال بالعلاقات إلى مرحلة متقدّمة، والعودة إلى أجواء عام 2016.
فكيف كانت الأجواء وقتذاك؟
في مطلع عام 2016 وقف وزير الخارجية السعودي عادل الجبير ليعلن بعد لقائه نظيره التركي مولود شاووش أوغلو في الرياض أنّ البلدين اتّفقا على إنشاء مجلس للتعاون الاستراتيجي تكون مهمّته رفع درجة التنسيق بين البلدين. بعد عام فقط انفجرت الأزمة الخليجية واتّخذت تركيا فيها موقفاً فاجأ الكثيرين في العواصم العربية نفسها التي حاولت جهدها البقاء على الحياد، فتدهورت علاقات أنقرة مع الكثير من الدول الخليجية المؤثّرة، وتزايد التباعد مع عواصم عربية أخرى وعلى رأسها القاهرة. الشوط البعيد الذي تمّ قطعه في مسار العلاقات التركية السعودية توقّف فجأة، وبدأ يسير بالاتجاه المعاكس عام 2018 بعد مقتل الإعلامي السعودي جمال خاشقجي في إسطنبول.
إذاً يسبق الحوارَ التركيّ السعوديّ اليوم الكثيرُ من التطوّرات والمتغيّرات:
- إعادة تموضع في سياسة تركيا العربية والإقليمية.
- تقارب تركي إماراتي متسارع يُترجَم عمليّاً على الأرض يوماً بعد يوم.
- تفعيل العلاقات التركية الإسرائيلية، وزيارات متبادلة يُتوقَّع أن تحصل إحداها عند قراءة هذه المادّة مع زيارة مرتقبة لوزير الخارجية الإسرائيلي لأنقرة في هذه الساعات.
- حوار تركي مصري بدأ وتوقّف ويحتاج اليوم إلى قوّة دفع عربية لا يمكن الاستغناء عن الدور السعودي والإماراتي فيها.
- تصعيد إيراني إقليمي على أكثر من جبهة، أهمّها محاولة توتير العلاقات التركية الإسرائيلية والتركية السورية والتركية العراقية لأسباب أمنيّة وسياسية.
يعوّل البعض في تركيا على الشقّ التجاري من زيارة وليّ العهد بعدما تراجعت أرقام واردات المملكة من تركيا في الأشهر الأخيرة بنسبة 60 في المئة. وتأتي السياحة في مقدَّم مطالب البعض الآخر بعدما تراجعت نسبة السيّاح السعوديين بأكثر من 35%، وتراجُع المملكة من المرتبة الرابعة أو الخامسة، من حيث عدد السيّاح، إلى المرتبة العاشرة خلال العامين الماضيين. يركّز جناح آخر على خطوة سحب ملفّ جريمة خاشقجي من يد القضاء التركي وتسليمه إلى القضاء السعودي الذي سبق أن قال ما عنده في القضية منذ أشهر بعيدة وأغلق المسألة من الناحية القانونية.
استعادة الثقة
ليس التطبيع الكامل موضوع الساعة، وهو يحتاج إلى أكثر من لقاء ومبادرة وساحة حوار، وستمرّ العلاقات بمراحل لا بدّ منها لتصل إلى برّ الأمان، ولذلك لن يكون التطبيع سهلاً ولا سريعاً. إذ ينبغي أوّلاً إزالة أزمة الثقة ورواسبها وتفاعلاتها على خطّ أنقرة-الرياض. بعد ذلك يجب البحث عن سبل إعادة بناء ما تهدّم في السنوات الخمس الأخيرة، ثمّ الاتّفاق على بداية جديدة تمنع العودة إلى حالات مشابهة من التوتّر والقطيعة.
هناك أوّلاً مرحلة جسّ النبض وقرع الأبواب التي انتهينا منها، وستبدأ قريباً مرحلة الاختبار على الأرض لتسهُل إذابة الجليد ورسم معالم خارطة طريق جديدة في مسار ومستقبل العلاقات.
يبقى أنّ توصيف التقارب التركي السعودي بأنّه مقدّمة لتحالفات إقليمية جديدة ليس دقيقاً، وهو تشخيص مبكر جدّاً.
يتحرّك الرئيس الأميركي جو بايدن صوب فتح الطريق أمام تقارب عربي إسرائيلي جديد ومحاولة بناء تكتّل إقليمي بديل بعد فشل خطط "شرق أوسط جديد" و"ناتو جديد". لكنّ تركيا لا تريد أن يكون المسار على حسابها أو بما يتعارض مع مصالحها.
توازنات المنطقة
الواضح تماماً أنّ أنقرة والرياض تريدان أن تستعدّا لمرحلة ما بعد نتائج المحادثات النووية الغربية الإيرانية تجنّباً لأيّ مفاجآت إقليمية قد تحدث وتؤثّر على لعبة التوازنات والمعادلات القائمة في المنطقة كما فعلت واشنطن مع إيران في لبنان وسوريا والعراق. من دون إغفال فرص التقارب في ملفّات إقليمية، بينها الملف السوري والليبي واليمني في إطار حوار عربي تركي جديد بدأ يظهر إلى العلن بعد الاتصالات التركية-المصرية والتركية-الإماراتية.
يحاول البعض في الداخل التركي منذ الآن رمي الكرة في ملعب أطراف ثالثة "تتآمر على دول المنطقة" وتتحمّل مسؤولية توتير العلاقات التركية مع العديد من العواصم العربية. لكنّ التصعيد السياسي بين الحكم والمعارضة وتبادُل الاتّهامات يبدو أنّه لن يتوقّف. المعارضة التركية التي كانت متّهمة قبل 3 سنوات مثلاً بالتنسيق والانفتاح على العواصم العربية والخليجية في ملفّات يشوبه التوتُّر والتصعيد مع أنقرة، هي التي تنتقد هذا الانفتاح والتنسيق اليوم. عشرات الأقلام، التي كانت محسوبة على الحكم وتصعِّد في ملفّات خلافية تركية عربية قبل 4 سنوات من خلال ما تنشره وتكتبه على صدر صفحاتها، بدأ الكثير منها يأخذ نصيبه منتقلاً إلى المدرّجات مكتفياً بالتفرّج عن بعد.
بين أجمل ما قرأنا وسمعنا في الأشهر الأخيرة ما قاله العاهل الأردني عبد الله الثاني: "لن يساعدنا توجيه أصابع الاتّهام للآخرين، فهناك ما يكفي من تحدّيات في المنطقة".
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس