سعيد الحاج - الجزيرة نت
كانت الانتخابات الأخيرة في تركيا مختلفة في سياقها وأهميتها، وكذلك في تبعات نتائجها على المديين القريب والبعيد، في عدة مجالات وعلى مختلف الأطراف وفي مقدمتها المعارضة التي خسرتها، على صعيد الأحزاب وكذلك التحالف.
انتخابات مصيرية
لطالما وصفت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة في تركيا بأنها حاسمة ومصيرية، وأحد أسباب وصفها بذلك أنها قد تحدد مصير بعض المشاركين بها، تحالفات وأحزابا وشخصيات.
ولعل أهم أسباب ذلك أن الرهانات على نتائج الانتخابات كانت كبيرة، إذ لأول مرة شعرت المعارضة أنها أمام فرصة حقيقية لإمكانية الفوز إما بأغلبية مقاعد البرمان أو الرئاسة أو كليهما. ولذلك فقد وضع الجميع، بمن فيهم أحزاب المعارضة، كل بيضهم في سلة الانتخابات، مستخدمين كل ما يمكن أن يعزز فرصهم فيها.
لكل انتخابات تبعات وارتدادات على من يخوضونها، فائزين وخاسرين، إلا أن الانتخابات الأخيرة تبدو أوقع أثرا من هذه الناحية، لا سيما على المعارضة وتحالف الشعب المعارض على وجه الخصوص الذي أخفق في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية معا. لا سيما وأنها، أي المعارضة، راهنت بالكثير من أجل هذه الانتخابات التي عولت عليها كثيرا، بما في ذلك تغيير الخطاب والبرامج والتحالفات بل وفرض المرشح التوافقي للرئاسة فرضا.
كانت الأحزاب حديثة التأسيس في خطر أكثر من غيرها، إذ كانت قد غامرت بخروجها من عباءة أحزاب كبيرة وقوية، ثم نسجت تحالفات مع خصومها التقليديين أو بقيت خارج منظومة التحالفات، ولذلك كانت خسارتها يمكن أن تعني خروجها من المعادلة السياسية تماما ونهائيا.
بيد أن فوز حزبيْ المستقبل والديمقراطية والتقدم (المنشقين عن العدالة والتنمية) بعدد لا بأس به من مقاعد البرلمان على قوائم الشعب الجمهوري يخرجهما إلى حد ما من هذا الخطر مؤقتا بانتظار تقييم أدائهما في البرلمان تحديدا.
بينما يمكن أن تكون الضغوط التي تعرض لها "محرم إينجة" المرشح الرئاسي ورئيس حزب البلد (المنشق عن الشعب الجمهوري) فرصة لإبقائه في المشهد السياسي رغم النتيجة الضعيفة التي حققها.
ولذا، كانت التبعات حاضرة بشكل ملحوظ في أقدم الأحزاب الكبرى، وتحديدا في حزبي الجيد والشعب الجمهوري، بما في ذلك احتمال أن يخسر رئيساهما منصب رئاسة الحزب.
مستقبل المعارضة
بالنسبة للحزب الجيد، ثاني أكبر أحزاب الطاولة السداسية، فقد كانت التوقعات بخصوص فرصه في الانتخابات البرلمانية مرتفعة السقف، وكان الحزب واثقا من تحقيق فارق ملموس عن الانتخابات السابقة. إلا أن عوامل عدة في مقدمتها أزمة انسحابه من الطاولة السداسية ثم عودته إليها أدت لحصوله على نتيجة أقل بكثير من ذلك.
تعالت بعض الأصوات الناقدة داخل الحزب، إضافة لاستقالات محدودة في هيئاته القيادية، ولذلك يمكن أن تواجه رئيسة الحزب ميرال أكشنار منافسة وتحديا نسبيا في المؤتمر العام المقبل للحزب، ولكن يُستبعد أن تفقد رئاسته.
أما في الشعب الجمهوري فالأمور أكثر سخونة وسرعة، لعوامل ذاتية وداخلية في الأصل، فقد كان رئيسه كليجدار أوغلو تعرض لمنافسة شديدة أكثر من مرة وفاز بنسبة قريبة من ثلثي أصوات الهيئة العمومية لمؤتمر الحزب العام أكثر من مرة مقابل القيادي السابق فيه محرم إينجة.
فرض كليجدار أوغلو نفسه مرشحا توافقيا لتحالف الشعب المعارض، رغم تحفظ بعض الأطراف في حزبه وكذلك داخل التحالف وخصوصا الحزب الجيد. إضافة لذلك، كان تقديم مرشحي الأحزاب الصغيرة على قوائمه ضمن أسباب احتفاظ تحالف الجمهور بأغلبية مقاعد البرلمان، ما يعني أن أصابع اللوم ستوجه له أكثر من غيره وسيُحمّل مسؤولية الهزيمة، وهو ما كان.
هذه المرة أتت الاعتراضات والمطالبات بالتغيير من أكثر من مستوى، على شكل مظاهرات من أنصار الحزب أمام مقره، وفي وسائل التواصل الاجتماعي، وكذلك على لسان عدد من القيادات. رفع رئيس بلدية إسطنبول الكبرى أكرم إمام أوغلو لواء "التغيير في الحزب" تماشيا مع نتائج الانتخابات وتناغما مع المطالب الشعبية، عبر أكثر من تصريح لا يحمل معنيين، موضحا أنه "مستعد لتحمل المسؤولية المناطة به" في مسار التغيير.
هذا الكلام، الذي يعني أنه يريد تولي رئاسة الحزب، وجد صدى لدى عدد من القيادات البارزة فيه بمن فيهم رئيس كتلته البرلمانية الحالية وأحد المقربين جدا من كليجدار أوغلو.
لا يعني ذلك أن الطريق باتت ممهدة للإطاحة بكليجدار أوغلو، فقانون الأحزاب يمنحه -ويمنح كل رئيس حزب- صلاحيات شبه مطلقة تتيح له السيطرة على الهيئة العمومية المناط بها انتخاب الرئيس.
ولذلك فإنه من الصعوبة البالغة تغيير رئيس حزب ما لم يكن راغبا في ذلك ومضطرا له، كما حصل مع رئيس الحزب السابق "دنيزك بايكال" الذي استقال بعد نشر تسجيل فاضح له.
هذه المطالبات المتكررة من أعلى المستويات في الحزب تزيد من الضغوط على كليجدار أوغلو الذي قد رفع شعار التغيير والتجديد والديمقراطية على مستوى تركيا، بما يصعّب عليه أن يقاوم هذه المطالبات داخل الحزب، لا سيما وأنه أضاف هزيمة جديدة له أمام أردوغان، فضلاً عن عمره المتقدم.
ولذلك فقد تبنى خطابا يؤكد على فكرة التغيير دون أن يلزم نفسه بشيء منه، لافتا إلى أنه سيقود عملية التغيير في الحزب بنفسه من باب أنه "ربان السفينة وعليه أن يوصلها للمرفأ بسلام"، والتقى إمام أوغلو أكثر من مرة خلال الأيام الماضية.
التغيير.. 3 سيناريوهات
لكن كليجدار أوغلو عمد إلى تغيير اللجنة المركزية للحزب، مخرجا المقربين من رئيس بلدية إسطنبول من دوائر صنع القرار، ثم لم يعين في التشكيلة القيادية الجديدة مسؤولاً للتنظيم في الحزب بل ربط الأخير به مباشرة ليحكم القبضة عليه قبل المؤتمر العام في الخريف المقبل.
هنا، فكليجدار أوغلو ومعه أكبر أحزاب المعارضة أمام أحد 3 سيناريوهات:
الأول، أن يحافظ كليجدار أوغلو على منصبه حاليا ويصل بالحزب للمؤتمر العام ثم لا يترشح للرئاسة فيه، فيكون قد خرج "بشكل لائق" وبحفظ ماء وجهه متجنبا صورة المستقيل أو المُقال بسبب الخسارة، ويكون بذلك قد فتح بنفسه باب التغيير وأسهم إلى حد كبير في تحديد اسم الرئيس المقبل، وربما يكون ذلك باتفاق وترتيب مسبقين بما يحقق له مكاسب إضافية. هذا السيناريو هو الأقرب لمنطق تصريحات الرجل، وهذا ما نرجحه وفق المعطيات الحالية وآخر التطورات.
أما السيناريو الثاني المحتمل فهو اضطرار رئيس الحزب للاستقالة تحت الضغط، وبالتالي ذهاب الحزب لمؤتمر عام وسط حالة من الاختلاف والجدل، مع عدة مرشحين للرئاسة، وهذا سيناريو غير مرجح برأينا في الوقت الحالي.
وأخيرا، يمكن أن يذهب كليجدار أوغلو من جهة ومنافسوه من جهة أخرى لمعركة صفرية حادة، ويُنظم المؤتمر العام في حالة من الخلاف والمواجهة، وساعتها سيحدد أعضاء الهيئة العمومية الرئيس المقبل، والذي يرجح أن يكون كليجدار أوغلو مجددا وفق هذا السيناريو.
أما على صعيد تحالف الشعب المعارض، فقد أجّل الخلافات بين أعضائه طويلاً، حتى أعادتها خسارة الانتخابات للواجهة وساد التلاوم بين أحزابه، وقدموا مشهدا من التلاوم بعد صدور النتائج، وصولا لحديث بعض قيادات الحزب الجيد بأن التحالف انتهى مع إجراء الانتخابات. وبعد صدور النتائج اجتمع التحالف مرة واحدة دون صدور بيان عن أحزابه، وانشغل كل حزب بأجندته الذاتية وأولوياته الحزبية.
يضاف لما سبق المشاكل الداخلية التي يعانيها أكبر حزبين في التحالف؛ وتشكيل الأحزاب الثلاثة المحافظة التي دخلت البرلمان على قوائم الشعب الجمهوري، وهي الديمقراطية والتقدم والمستقبل والسعادة، كتلة برلمانية ستتيح لها التحرك بشكل منسق مع بعضها بعضا.
فضلاً عن تمثيلها في اللجان البرلمانية وفرصة مخاطبة الرأي العام -لا سيما الشريحة المحافظة- بشكل مباشر وبالتمايز عن الشعب الجمهوري وحتى الحزب الجيد. كل ذلك يعني أن التحالف قد انتهى فعليا، وإن لم يعلن عن ذلك بشكل رسمي، ولا يمنع ذلك إعادة تفعيله في الانتخابات البلدية المقبلة أو في أي انتخابات أخرى مقبلة.
وعليه، ستكون الأشهر القليلة المقبلة حافلة بالتطورات داخل مختلف الأحزاب السياسية في تركيا وفي مقدمتها أحزاب المعارضة، وستظهر الأيام ما إذا كان سيناريو التغيير ممكنا في حالة حزب الشعب الجمهوري تحديدا.
أما مآلات التغيير، من حيث الفوائد والمخاطر، فستحددها جملة من العوامل في مقدمتها سيناريو التغيير ونتيجته ومدى قبول الأطراف جميعها به، فضلاً عن التوازنات السياسية والحزبية في البلاد عموماً.
ولذا، فالمعارضة التركية مقبلة على مرحلة تحتاج فيها اتخاذ قرارات مفصلية قد تصل بها لتغيير يحمل معه تنشيطا وتفعيلا، أو لانقسام وتشظٍّ يضعفها أكثر، أو يبقيها في حالة الجمود وقلة الفعالية سنوات إضافية.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس