د. سمير صالحة - تلفزيون سوريا
كشف جهاز الاستخبارات التركية في الأعوام الأخيرة عن العديد من خلايا التجسس الإسرائيلية تعمل فوق الأراضي التركية ووصل عدد من ألقي القبض عليهم إلى أكثر من 50 عنصرا، لكن تل أبيب ترى في المسألة محاولات تصعيد تركي ضدها "لإبعاد الأنظار عن الأزمات الاقتصادية والمالية التي تعيشها تركيا"، ولا تعبأ كثيرا لأن عناصر هذه الخلايا يحملون جنسيات تركية وعربية.
"كلُم كلُم لا ينفع" كما يقول المثل الشعبي التركي. لا فائدة مع إسرائيل وجهاز استخباراتها. منذ سنوات طويلة و"الميت" يطارد عملاء الموساد في المدن التركية. يعتقلهم ويشهر بهم لكن تل أبيب لا تخجل أو تتراجع. فمن الذي سيتحمل النتائج ويدفع الثمن في إسرائيل هذه المرة؟
مواصلة الموساد الإسرائيلي لعمليات التجسس عبر زرع العملاء وتجنيدهم داخل الأراضي التركية سيقابله حتما الرد التركي الأمني والسياسي. لا يمكن أن تكون ذريعة تل أبيب هنا حماية مواطنيها وسواحها داخل الأراضي التركية. من يبحث عن ذلك ينسق مع الأجهزة الأمنية التركية ويتبادل معها المعلومات. لكن ما تفعله تل أبيب هو غير ذلك تماما.
دشن رئيس جهاز الأستخبارات التركية إبراهيم كالين مهامه على رأس الجهاز بالإشراف على عملية تفكيك شبكة تجسس إسرائيلية قد تكون الأكبر من نوعها لناحية عدد أفرادها وتنقلاتهم وارتباطاتهم في الداخل والخارج. كانت القيادات الإسرائيلية تتهم هاكان فيدان الذي أفشل الكثير من أنشطتها داخل تركيا وخارجها بانفتاحه على طهران وتقول إنه قد يسلمها وثائق سرية عن التعاون الأمني التركي الإسرائيلي فما الذي ستقوله حيال كالين هذه المرة؟
العملاء أنواع. بحسب المستويات والكفاءات والدرجات العلمية والمهنية والخبرات والقدرة في الوصول إلى المعلومة والتخفي يتم الاختيار وتكون المكافأة. لكن جهاز الاستخبارات التركية "ميت" أنزل في الأعوام الثلاث الأخيرة ضربات موجعة بخلايا تجسس تركية وأجنبية مجندة في خدمة الموساد الإسرائيلي.
نشرت صحيفة "صباح" التركية المقربة من الحزب الحاكم، في مطلع الأسبوع المنصرم مادة حصرية تتحدث عن عملية أمنية نفذتها وحدات مكافحة التجسس التركية، ضد خلايا تابعة لجهاز الموساد. تقول المعلومات إن الأجهزة الأمنية التركية أوقفت 7 عناصر يحملون جنسيات تركية وعربية جندهم الموساد وقام بتدريبهم في الخارج، ضمن 9 خلايا ضمت 56 شخصا. وأشرف على التخطيط والتنفيذ 9 من كبار ضباط الجهاز الإسرائيلي.
المثير أيضا هو الكشف عن أن عمليات التجسس لم تقتصر على الأراضي التركية فقط بل وصلت إلى لبنان وسوريا وأن العمليات كانت تدار مباشرة من تل أبيب. يستخدم الموساد زيوريخ وزغرب وبوخارست ونيروبي الكينية للتواصل مع عملائه في تركيا ويلجأ أحيانا للتحرك في دائرة جغرافية مغايرة مثل صربيا وتايلند لإخفاء تنقلات عناصره، عبر رحلات سياحية معقدة لكنها سهلة عليهم حيث لا توجد تأشيرات تفرض على تركيا في هذه الدول. لكن عناصر جهاز الميت التركي كانوا هناك رغم كل عمليات التمويه والتعتيم ومحاولات التضليل للتخلص من المراقبة.
عالم الجاسوسية شيق ومثير لكنه يختلف عما هو في الأفلام. الدعاية والمخيلة الفنية شيء والواقع والمواجهة الميدانية الحقيقية على الأرض شيء آخر. عشرات الشبان العرب والأتراك يغرر بهم الموساد ليخدموا مصالح إسرائيل، عبر التجسس على مواطنيهم وإلحاق الضرر بهم وبدولهم بتوجيه من المخابرات الإسرائيلية.
ترسل أجهزة الاستخبارات رجالها ليخدموا في دول أخرى بصفة دبلوماسية أو إعلامية أو تجارية أو أكاديمية. تجند عناصر لها من مواطني تلك الدولة يعطونها ما تريد مقابل ما يبحثون عنه لسد الفراغ وهو كثير ومتنوع. هناك بيننا من يستغرب عندما يسمع أو يقرأ عن نوعية أسماء شبكة جواسيس أو عملاء تم الكشف عنها وتعمل لصالح أحد الأجهزة. فالطرف المشغل يعرف أين ومتى ولماذا ومع من يتواصل، وكيف يختار حتى من يقرع بابهم لعرض خدماته.
مشكلتنا كانت دائما مع إسرائيل في عدم المخاطرة بعملائها وجواسيسها. هي رجحت البحث عن عملاء وجواسيس يقومون بهذه المهام من أبناء المنطقة أنفسهم. تحت تصرف المخابرات الإسرائيلية فائض من الأموال لتوظيف هذا العدد من الجواسيس، وهي بنت شبكة علاقات قوية مع عواصم غربية وإقليمية تنسق معها عند اللزوم من خلال خدمات متبادلة مكنتها من التحرك والنشاط بسهولة تحت ذريعة حماية أمنها وأمن شركائها.
يردد البعض أن الموساد ينافس السي أي إي الأميركي في إنجازاته وأن من يبحث عن سيناريوهات تمكنه من إنتاج أفلام استخبارية مثيرة، بمقدوره التواصل مع الإسرائيليين إن استطاع فعندهم ما يلبي طلبه. لكن جهاز مكافحة التجسس التركي نجح في الأعوام الأخيرة في إفشال أكثر من مخطط للموساد وتوجيه أكثر من ضربة له داخل تركيا وخارجها.
توقف السلطات الأمنية التركية العملاء وتحيلهم على القضاء لنيل عقابهم. لكن تل أبيب لا تتراجع عن مواصلة البحث عن عملاء جدد لتجنيدهم. المشكلة ليست في العثور على العملاء فقط، بل في إصرار إلإسرائيليين على مواصلة ما يفعلونه رغم التحذيرات التركية.
لن تتراجع المخابرات الإسرائيلية في البحث عن ضعفاء النفوس والخونة لتجنيدهم في تركيا، ولن تتوقف المخابرات التركية عن مطاردتهم والكشف عنهم ومعاقبتهم. لكن المسألة لا يمكن أن تستمر على هذا النحو. لماذا يشيد الموساد الإسرائيلي بحجم التنسيق مع الأجهزة الأمنية التركية في الكشف عن محاولات استهداف إسرائيليين داخل الأراضي التركية، ثم يتحرك هو لاختراق الأمن القومي التركي عبر زرع عملاء وخلايا تجسس بهذا العدد والكثافة؟
عادي أن تتجسس الدول على بعضها بعضا خصوصا عندما تكون علاقاتها متوترة ومتأزمة أمنيا وسياسيا وعندما تبحث عن حماية مصالحها الاقتصادية والعلمية، وعندما تجد لها ساحة تحرك سهلة الاختراق والتمركز. لكن تل أبيب تعيش في هذه الآونة خيبة أمل كبيرة نتيجة ما حصل. نشاطات من هذا النوع ستقود حتما إلى تراجع حجم الثقة وستنعكس على مسار المصالحة والتطبيع بين تركيا وإسرائيل. فكيف ستتصرف القيادة الإسرائيلية في تل أبيب لامتصاص الغضب التركي ومحاولة إرضاء أنقرة؟ ومن سيكون الوسيط ليدخل على خط التهدئة؟ من المستبعد أن تنجح واشنطن في ذلك لأن العلاقات التركية الأميركية "ليمونية" في هذه الأيام وأنقرة طالبت بمعاقبة رؤوس وأسماء إسرائيلية حددتها وكشفت النقاب عن هويتها على ضوء الاعترافات التي قدمها جواسيس الموساد بالصور والأسماء والتواريخ والأماكن.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس