محمود علوش - الجزيرة نت
عندما أطلقت إسرائيل حربها الوحشية على قطاع غزة بعد السابع من أكتوبر الماضي، أبدى رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو لا مبالاة صريحة تجاه مصير وحياة الأسرى الإسرائيليين المحتجزين لدى حركة حماس والفصائل الأخرى، لدرجة أنه اعتقد أن حياة الأسرى لا تستحق حتى أن تُمنح آلة القتل الإسرائيلية في غزة استراحة مؤقتة قبل تحقيق هدفها المُعلن وهو القضاء على حماس.
الآن، ومع مرور شهر ونصف على الحرب، أثبت نتنياهو أنه كان ساذجًا للغاية، وأن رهانه على سياسة الأرض المحروقة لإجبار حماس على الإفراج عن الأسرى كان فاشلًا ببساطة. لا تعني صفقة التبادل الجزئية- التي تم التوصل إليها بوساطة قطرية وشملت هدنة مؤقتة لمدة أربعة أيام فقط، والسماح بإدخال شحنات من المساعدات الإنسانية للقطاع- أن نتنياهو سيتخلى بعد الآن عن مواصلة سياسة الأرض المحروقة في هذه الحرب، لكنّ مجرّد قبوله بصفقة من هذا النوع، يعني أنه لن يكون قادرًا على مواصلة الحرب في غزة بالطريقة التي يُريدها.
حقيقة أن الصفقة شملت الإفراج عن عدد صغير من الأسرى الإسرائيليين لدى الفصائل- (50 من نحو 240 أسيرًا)، مقابل إفراج إسرائيل عن 150 أسيرًا فلسطينيًا لديها- تُشير إلى أن نتنياهو قبل على مضض الدخول في لعبة التفاوض على الأسرى مع حماس، وما تنطوي عليه من ضغط على مسار العمليات العسكرية الإسرائيلية في المستقبل.
من المعلوم أن قضية الأسرى تُشكل نقطة الضعف الكبرى في إستراتيجية إسرائيل في الحرب؛ لأنّها وضعت نتنياهو تحت ضغط شديد في الداخل، وكذلك في الخارج؛ كون عددٍ من الأسرى يحملون جنسيات مزدوجة أميركية وغربية. وبالتالي، فإنه على الرغم من جهوده المكثفة لحصر التركيز الإسرائيلي على الحرب نفسها، لم يستطع في نهاية المطاف تجاهل هذا الضغط للإقدام على مبادرات غير مستساغة كالموافقة على هدنة مؤقتة، والتفاوض مع حماس.
ومن المؤكد أن حركة حماس عندما قررت احتجاز أكبر قدر من الأسرى في هجوم السابع من أكتوبر، بنت جزءًا أساسيًا من إستراتيجيتها في الحرب على نقطة الضعف الإسرائيلية هذه. لقد كتبت مقالة في الجزيرة نت في السابع من أكتوبر، حول أنّ ملف الأسرى سيُكبل قدرة إسرائيل على مواصلة حربها. وإذا كانت الموافقة على صفقة جزئية لتبادل الأسرى- مُصممة من وجهة نظر نتنياهو لتخفيف الضغط الداخلي عليه في هذه القضية- فإنها في الواقع ستعمل على زيادة الضغط عليه أكثر من أي وقت مضى للإفراج عن جميع الأسرى لدى الفصائل.
وبالنسبة لحركة حماس، فإنّ الصفقة رابحة بكل المقاييس؛ رغم أنها لن تؤدي على الفور إلى إنهاء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. فمن جانب، سعت حماس إلى تخفيف الضغط الدولي عليها من خلال القبول بالإفراج عن الأسرى المدنيين، وهذا الأمر يكتسب أهمية كبيرة في السياق الإعلامي لهذه الحرب.
ومن جانب آخر، قد يُساعد الإفراج عن خمسين أسيرًا حركةَ حماس والفصائل الأخرى في تعزيز قبضتها على الأسرى الآخرين للتفاوض عليهم في المستقبل بشروط أقوى. وإلى جانب نجاحها في استخدام ملف الأسرى- كورقة ضغط على إسرائيل لإجبارها على الدخول في مفاوضات معها عبر القنوات الخلفية- فإن أربعة أيام من وقف الحرب، رغم قلّتها، تُساعد جهود حماس في تخفيف جزئي لحجم الكارثة الإنسانية المهولة التي سبّبتها الحرب الإسرائيلية.
إنّ قضية إدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة- والتي استخدمتها إسرائيل والولايات المتحدة كورقة مقايضة مع حماس في ملف الأسرى بشكل غير أخلاقي وغير إنساني- تبقى الأولوية الأساسية التي ينبغي أن تُركز عليها دبلوماسية القنوات الخلفية، وهو ما نجحت حركة حماس بفرضه على إسرائيل. مع ذلك، فإن الانفراجة الجزئية في قضية الإغاثة الإنسانية للمنكوبين في قطاع غزة، لا ينبغي أن تجعل العالم يشعر بالرضا عن النفس إذا لم تؤدّ صفقة تبادل الأسرى الجزئية إلى خلق مسار إنساني مستدام في الفترة المقبلة. وفق الصفقة سيتم السماح لـ 300 شاحنة محملة بالمساعدات الإنسانية بالدخول إلى غزة يوميًا خلال وقف إطلاق النار، أي بمجمل 1200 شاحنة خلال الأيام الأربعة من الهدنة، لكنّها لن تكون كافية بأي حال للتعامل مع الحجم الكبير للكارثة الإنسانية.
إن السؤال الأكبر في هذه الصفقة يدور حول تأثيرها المحتمل على مسار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة بعد انتهاء الهدنة المؤقتة. لقد صممت إسرائيل بنود الهدنة للسماح لها بمواصلة عمليتها العسكرية بقوة بعد انتهاء الأيام الأربعة. رغم ذلك، فإن استئناف الحرب بطريقة اعتيادية- وكأن شيئًا لم يحصل في الأربعة أيام- لن يمضي بالطريقة التي يأملها نتنياهو.
حاول المسؤولون الإسرائيليون إبراز بعض الفوائد العسكرية من هذه الصفقة، على اعتبار أنها ستُساعد الجيش الإسرائيلي في إعادة تنظيم قواته للمرحلة التالية من الحرب، والتي يقولون إنها ستشمل الشطر الجنوبي من القطاع بعدما اقتصرت خلال شهر ونصف على الشطر الشمالي. مع ذلك، فإن حقيقة أن الجيش الإسرائيلي لم يتمكن حتى الآن من القضاء تمامًا على وجود المقاومة في شمال قطاع غزة- والتعامل بفاعلية مع الأنفاق التي تواصل المقاومة من خلالها تكبيد إسرائيل خسائر عسكرية فادحة- لا تدعو للاعتقاد بأن إسرائيل قادرة على إحداث تغيير كبير في ديناميكية الحرب بمُجرد توسيع رقعة العمليات العسكرية إلى الجنوب. لا بل إن توسيع هذه العمليات سيعني شيئًا واحدًا، وهو مضاعفة التحديات العسكرية التي تواجهها إسرائيل في الحرب بدلًا من تقليصها.
علاوة على ذلك، فإن إسرائيل ستواجه بعد انتهاء هدنة الأربعة أيام صعوبة في تجنب الارتدادات الكبيرة لحربها على صورتها أمام العالم لاعتبارين أساسيين:
أوّلهما: أن استئناف الحرب سيولد تفاعلًا دوليًا قويًا كما لو أن الحرب بدأت للتو.
وثانيهما: أن التداعيات الإنسانية الكبيرة لتوسيع العمليات العسكرية إلى جنوب قطاع غزة ستكون أكبر من قدرة إسرائيل والولايات المتحدة على تجاهلها واحتواء تداعياتها على صعيد الموقف الدولي؛ كون الخسائر المدنية المتوقعة في هذه الحالة ستكون مضاعفة بشكل أكبر؛ لأن جنوب قطاع غزة أضحى الملجأ الوحيد للفلسطينيين الهاربين من جحيم الحرب، ولا يوجد مكان آخر يُمكنهم الاحتماء فيه.
إنّ النتيجة الواضحة التي يُمكن استخلاصها من صفقة تبادل الأسرى الجزئية أن هذه الحرب لن تنتهي بدون تسوية سياسية. وبالتأكيد، فإن هذه التسوية لن تكون على غرار ما تطمح إليه إسرائيل وهو إخراج غزة تمامًا من معادلة الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس