د. عطية عدلان - الجزيرة مباشر
يَعْجَبُ المرء عندما يتأمل تلك المواقف التي حدثت على نحو يشعر بالإعجاز، ويقف إزاءها مندهشا متسائلا: كيف حدث هذا؟ وكيف وقع على هذا النحو الإعجازي الباهر؟ وكيف تكررت تلك المواقف الفذة في تاريخ البشرية بشكل يكاد المرء معه يجزم بأنها تخضع لناموس مستقر!
وقف الخلق ينظرون جميعًا إلى المقاومة وإلى أهل غزة، ويتساءلون: كيف يمكن أن يبلغ إنسان هذا المستوى من الصبر والثبات والتفاني وتحدي الصعاب؟! كيف يستطيع إنسان أن يحمل روحه على كفه وكفنه على عاتقة ويخرج في مواجهة الموت لا يكترث بالأهوال؟! لقد وقعت في القرن الحادي والعشرين معجزات وخوارق رآها الناس جميعًا رأي العين، لو تلقوها عن أصدق الصحف وأوثق الكتب ما صدقوها ولا استسلموا لها، فما سرّ هذا الإعجاز؟ لا تفسير لذلك إلا الإيمان وأثره الإعجازيّ؛ لذلك وجب التسليم لهذه الحقيقة، والانطلاق منها إلى صناعة الهمم التي تسعى صوب القمم.
كيف استطاع نبي الله إبراهيم عليه السلام أن يجابه الجاهلية العاتية، التي ضربت بأطنابها على كل معمور من أرض الله آنذاك، وبسطت ظلالها الكثيفة على كل البقاع والأصقاع فلم تدع رطبا ولا يابسًا ولا سهلا ولا وعرا إلا وأحكمت عليه قبضتها وبسطت عليه سلطتها؟! وبأي قلب تحمل الموقف الرهيب الرعيب؛ وقد اجتمع الناس عليه وجمعوا له، اجتمعوا عليه؛ فلم يتخلف منهم حاكم ولا محكوم ولا سيد ولا مسود، وجمعوا له؛ فلم يتركوا جليلا ولا حقيرا يضرم النار ويذكي الاستعار إلا احتملوه؟! ومن أين استمد القوة والثبات في لحظة يطير فيها القلب هلعا، وتتفطر فيها النفس جزعا؛ ساعة أن لفظته الجاهلية في المنجنيق وقذفت به في سواء الحريق؟!
وكيف استطاع كليم الله موسى عليه السلام أن يطأ بإرادته البلاط الفرعوني وهو يعلم أنه مطلوب لدى السلطات الفرعونية؟! وكيف استطاع أن يشنق الخوف على باب قلبه، وأن ينفض عن نفسه كل هاجسة تثير القلق والتوتر مثلما ينفض الطائر عن جناحيه كل ما يعيقه عن الطيران والتحليق؟! وبأي سحر روحانيّ وقف السحرة التائبون هذا الموقف الأسطوري وليس لهم عهد في الإيمان سوى ساعة أو بعض ساعة؟! وبأيّ لسان وجنان صدرت تلك القذائف الدامغة التي سجلها القرآن في مواجهة التهديد الرهيب الرعيب؛ لتبقى شاهدة على سحر الإيمان: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} (طه 72) {وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرًا وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ} (الأعراف 126) {قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} (الشعراء 50)!!
وأَىّ قوةٍ تلك التي حولت الفَرَّ كَرًّا وصيرت الهزيمة نصرا؛ يوم أن أُفْرِدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في واد حنين، وسط محيط من سيوف الكفر تغذيه سيول تتدفق من أعالي الجبال وقمم التلال، فإذا بصوت عال كأنه زئير الجبال: “أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب”! وكيف استطاع عبد ضعيف مضيع مثل بلال، كَسَرَهُ الرق وأحناه ذل العبودية، أن يكسر أنف الطغيان وأن يحني هامة الكفر، وأن يفرض على الدنيا إلى يوم الدين أن تسمع همسته تحت وطأة الحجر: “أحد أحد”!
يكاد الإنسان منا يتوهم أن أولئك الذين وقفوا تلك المواقف العظيمة لم يكونوا بشرا ويوشك المرء منا أن يرسم لهم صورا أسطورية من وحي الخيال والواقع الذي يشهد به التاريخ أنهم لم يكونوا إلا بشرا؛ فما الذي صنع بهم هذه المعجزات؟! إنه الإيمان، إنه اليقين، إنه الثبات المستمد من قوة الإيمان وصدق اليقين، إنه العزم الذي يستمد مضاءه من الاعتصام بالله والرضى بقضائه واللجوء إلى حمايته وعنايته.
إن أمتنا العربية والإسلامية في أيامها هذه لفي مسيس الحاجة إلى هذه القوة الخلاقة لكي تصنع المعجزة التي تنتظرها البشرية المعذبة؛ لتخرج من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، وعلى أمتنا وهي تشق طريقها إلى غايتها المنشودة أن تدشن مسيرتها بذكر الله؛ {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد: 28).
إنّنا في أيامنا هذه ونحن نواجه كل هذه التحديات في أمسّ الحاجة إلى تقوية الإيمان، وتمتين اليقين، وتوثيق الصلة بالله، ولا غنى لنا عن ذلك ولو ملكنا أعلى مقومات الفلاح والنجاح -ولسنا في الواقع حائزين لأدناها- فنحن نواجه أحد خيارين لا ثالث لهما: قمة المجد أو قاع اللحد، هكذا لم تدع لنا المعركة القائمة بشروطها الصارمة خيارا وسطا، فإمّا أن تنطلق الأمة إلى حيث تبلغ غاية التمكين وإمّا أن تسحق تحت أقدام الطغاة المستبدين.
وقد هيأتنا الظروف التي مرت بنا ولا تزال تَعْرُكنا للاستفادة من تلاوة الكتاب العزيز ومن تدبر آياته استفادة على مستوى صناعة الحالة الإيمانية الخارقة؛ فإنّ من شروط حصول ذلك أن يكون التدبر مقرونا بمعايشة الواقع وحمل همه ومعالجة مقتضياته، أمّا التدبر العلميّ المحصور بين الأروقة الأكاديمية والمخنوق بأجوائها الباردة فإنّه ينتج رشدا أكاديميًّا لا يجاوز السطور التي اشتملت عليه، وإذا كان طوفان الأقصى قد أدَّى ما عليه في إظهار الظاهرة وإبراز الحالة وإقامة الحجة على الأمة؛ فليس أمامنا نحن إلا أن نسعى لاكتساب هذا الامتياز (قوة الإيمان) الذي يمكن أن يحقق لنا وثوبًا حضاريًّا هائلًا، لا خيار لنا إلا التقدم صوب الغاية بالمجاهدة: {وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (العنكبوت 69).
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس