ترك برس
تتصاعد ملامح القطيعة، إن لم نقل المواجهة الناعمة، بين تركيا وإسرائيل، بعد أن تعدت، قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، طور التقارب وحسن العلاقات وزيادة التبادل التجاري.
منذ ذاك، تم إلغاء زيارة وزير الطاقة التركي لتل أبيب بعد أن أعلن تعليق جميع اتفاقات الطاقة مع إسرائيل، وإلغاء زيارة الرئيس رجب طيب أردوغان.
نسفت وحشية إسرائيل بحربها على غزة ما تم بناؤه عبر عام من التقارب والمفاوضات والتنسيق أفضت بإعادة السفراء وجدولة زيارة للرئيس التركي لتل أبيب، وشهدت زيارة وزير الخارجية السابق، مولود جاويش أوغلو، إلى تل أبيب في مايو/ أيار 2022، كما ألقت بآمال التبادل والمشاريع المشتركة والتعاون الاستراتيجي، إلى "حيث ألقت رحلها أم قشعم".
وربما من ملامح اللاعودة، بوجود رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو في السلطة على الأقل، ما شهدناه ولم نزل، من تطورات سلبية بالعلاقات الاقتصادية التي تعتبر وجه السياسة الواضح غير القابل مراوغة وبراغماتية السياسة.
فتراجع العلاقات الذي بدأ بتعليق الاتفاقات الاقتصادية، والطاقية بمقدمتها، بعد ملامح وآمال نقل الغاز الإسرائيلي عبر تركيا لأوروبا ومشاريع التنقيب المشترك، تبعها تراجع حجم التبادل التجاري إلى النصف بعد حملات الشارع التركي الضاغط لمقاطعة السلع الإسرائيلية والداعمة لحرب الإبادة بغزة.
كما وصلت أمس إلى إبعاد تركيا لإسرائيل عن قائمة الوجهات المستهدفة لصادراتها وفق نهج قلما اعتمدته أنقرة التي تؤثر فصل السياسة عن الاقتصاد، كما فعلت مع مصر والإمارات واليونان وفرنسا، بقمة العداء وتراشق الاتهامات خلال الأعوام الماضية، الأمر الذي يؤشر على أن تركيا لا تراوغ أو تُغلب إغراءات المليارات العشرة المتوقع وصولها كحجم تبادل مع إسرائيل، على السياسة ورغبة الشارع، بل وما اعتمدته "تركيا الأردوغانية" كأدوات للتقارب مع المشرق العربي ومبادئ تقول إنها ثابتة بسياساتها الخارجية.
ولعل المتابع للتصعيد الأخير، إن خلال اعتقال أنقرة 33 مشتبها بهم يعملون لصالح المخابرات الإسرائيلية "الموساد"، أو وقت شبّه أردوغان نتنياهو قبل أيام بهتلر: "ما يفعله نتنياهو لا يقل بأي حال عمّا فعله هتلر"، والرد الذي لم يتوان نتنياهو به: "أردوغان من يرتكب الإبادة الجماعية للأكراد ومن يسجن الصحافيين، وهو آخر من يعظنا أخلاقيا".
يتأكد المتابع ربما أن إبعاد إسرائيل عن وجهات تركيا المستهدفة تجارياً ليست النهاية.
قصارى القول: لا تغيب عن ذاكرة كثيرين، وقت انسحب رئيس الوزراء أردوغان عام 2009 من المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، بعد مشادة مع الرئيس الإسرائيلي وقتذاك، شيمون بيريز، احتجاجاً على منعه من التعليق على مداخلة مطولة لبيريز بشأن الاعتداء الإسرائيلي على غزة.
بيد أن ذلك المشهد الذي أعلن خلاله أردوغان عدم حضور "دافوس" ثانية، ولم يحضر حتى اليوم، كان ركناً ضمن سياسة أردوغان الخارجية وقتذاك، وإن جاء نتيجة الحملة الإسرائيلية على غزة عام 2008، لتتلوه القطيعة الكبرى، بعد أن اعترضت البحرية الإسرائيلية "أسطول الحرية" الساعي لكسر الحصار عن غزة، في 31 مايو 2010، وقتل "الكوماندوز" عشرة ناشطين أتراك. تخللها -القطيعة- طرد السفير الإسرائيلي وتجميد التعاون العسكري وتبادل المعلومات المخابراتية والتدريبات العسكرية المتبادلة.
استمر التبادل التجاري بين البلدين رغم التوتر حينا والفتور غالب الأحايين، حتى عام 2016، وقت استئناف التبادل الدبلوماسي وتصريح أردوغان أن العلاقات ستبدأ في التحسن.
بيد أن تلك المرحلة، المشوبة بالحذر والتردد، لم تطل سوى عامين، حين عاد التمثيل على مستوى القائم بالأعمال عام 2018 إبان حرب إسرائيل.
لتعاود المراوحة والغزل الخجل الذي وصل العام الماضي، وبشكل متسارع، حدود تبادل السفراء ووعود زيارة الرؤساء، وتتعالى سقوف الآمال بالعلاقات الاقتصادية إلى مصاف التشارك على صعيد الطاقة والاستثمارات.
نهاية القول: كيف يمكن قراءة الإجراء التركي بإبعاد إسرائيل عن وجهة صادراتها وزج الاقتصاد بالسياسة لأول مرة، إذ لم يتم المد على اتفاقية التجارة الحرة والمصالح الاقتصادية، حتى بعد مقتل النشطاء الأتراك بأسطول الحرية.
ربما محاولة الإجابة عن هذا السؤال تأخذنا لقضايا عدة، أولها الصراع، وإن الخفي، بين الدولتين، إن بملف الطاقة أو الصناعات العسكرية، بعد اعتبار هذين الملفين ضمن روافع النمو وتطوير اقتصاد كلا البلدين بعد أن زادت صادرات إسرائيل العسكرية عن 15 مليارا ولمع نجم تركيا، خاصة بالطائرات المسيرة، لترتفع صادراتها إلى عتبة 5 مليارات دولار.
أيضا لا نهمل عامل الطاقة، إثر زيادة الاكتشافات الغازية بإسرائيل وجوارها المسروق، وبالمقابل، اكتشافات تركيا نحو 710 مليارات متر مكعب بالبحر الأسود وتقاطع الأحلام والتنافس بالبحر المتوسط.
ويمكن إدراج الجغرافيا، كقضية ثانية، لفهم توتير تركيا وتصعيدها، فردة فعل أنقرة الطامحة لمسك التبادل بين آسيا وأوروبا ونقل الغاز الروسي وغاز القوقاز، وربما العربي، كانت شديدة بعد أن اقترح الرئيس الأميركي جو بايدن العام الماضي، إنشاء ممر لوجستي بين اليونان والهند عبر إسرائيل والأردن والسعودية والإمارات، مبعداً تركيا التي ردت مباشرة بما أسمته خط النهضة (طريق التنمية)، يصل بينها وبين العراق ليمتد إلى الخليج العربي والمحيط الهندي، أو العكس وصولاً عبرها إلى أوروبا، بل وعرضت على بغداد التمويل.
وثالثها بقرار تركيا وتصعيدها للاعودة، أن حجم التبادل مع إسرائيل وبأحسن أحواله، لم يصل إلى 10 مليارات دولار، في حين بدائل كثيرة معروضة على تركيا اليوم، إن على صعيد السياحة والتبادل التجاري التي تتطلع تركيا إلى تعديه 300 مليار دولار، أو الطاقة، كما فعلت مع روسيا وتفعل مع الإمارات أخيراً، وتحضر فعله مع "منظمة الدول التركية" الغنية بالطاقة والغاز بالمقدمة.
إذاً، وبمقياس الربح والخسارة لتركيا، إن لم نزج بالعامل الداخلي المهم وما سيحصده الرئيس التركي من قواعد شعبية جراء عداء إسرائيل بفترة انتخابات مهمة، يمكن القول إن الظرف جد مؤات لتركيا، لإبعاد محور إقليمي منافس ومنبوذ ستوقعه تكاليف حربه على غزة البالغة 67 مليار دولار بعجز وأزمات، بعد تلقيه صفعات هجرة الشباب وهروب الاستثمارات وتهاوي الشيكل.
ولكن ليس عبر إبعاد تل أبيب عن وجهة الصادرات، بل بإدراجها، كما النوايا والتسريبات، بـ"الكتاب الأحمر" التركي، ما يعني وضعها عدوا محتملا وتشكل تهديداً على الأمن القومي التركي، ما يستوجب إعادة النظر بالعلاقات جميعها وعلى الصعد كافة... وليس الاقتصادية أو الصادرات فقط.
** تقرير تحليلي للكاتب عدنان عبد الرزاق، في صحيفة العربي الجديد..
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!