ندرت أرسنال - يني شفق
بعد ساعات قليلة من إعلان الرئيس الأمريكي بايدن، وهو يتناول المثلجات، عن قرب احتمال وقف إطلاق النار في نهاية الأسبوع، تعرض المدنيون الفلسطينيون العُزَّل في غزة لمجزرة بشعة على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي بينما كانوا يتجمعون لتلقي مساعدات زهيدة من الطحين، ما أسفر عن استشهاد 104 أشخاص وإصابة ما يقارب 10 أضعاف هذا العدد.
لطالما اتَّسم علم الاجتماع الأمريكي بوجود شريحة من الوقاحة والفظاظة، لكن لم يسبق أن تجلى التناقض إنساني بهذا الشكل الفظيع بين ارتكاب مجزرة بشعة وتناول المثلجات.
وعلى الصعيد السياسي، سارع متحدث البيت الأبيض إلى تصحيح تصريح بايدن حول "قرب وقف إطلاق النار"، مؤكداً أن الأمر "لا يزال قيد العمل، لكنه ليس قريبا إلى هذا الحد".
إن اللوم يقع على عاتقنا، فهل ننتظر من واشنطن أن توقف إسرائيل عدوانها لنعبر عن امتناننا؟ كلا، بل يجب أن نندد بكل ما تقوم به الولايات المتحدة من دعم للكيان الصهيوني، فهي شريكة إسرائيل في قتل الأطفال وارتكاب المجازر الجماعية، ولا تختلف عنها أبدا. لقد نسينا للأسف، حاملات الطائرات الأمريكية التي كانت تعلن عن استعدادها لحماية إسرائيل من أي عدو، حاملة رايات التهديد والوعيد لكل من يحاول المساس بإسرائيل.
في الحقيقة لا جدوى من الكلام عن الجانب الإنساني للأزمة في غزة، ففي الوقت الذي تقرؤون فيه هذه السطور، يموت الأطفال جوعا، ولكم الحق في البصق على وجوه الدول والمنظمات التي تغمض أعينها وتتجاهل هذه المأساة. ولكن ما الفائدة من ذلك؟
هناك سلسلة من العمليات والإجراءات الدولية تتخذ مسارا موازيا للأزمة، ونحن ندعمها بقولنا "سيأتي يوم يحاسب فيه الجميع"، لكن ما فائدة هذا الكلام لمن يموتون اليوم؟ بعد الأحداث وصفت الولايات المتحدة الأمريكية الوضع بأنه "خطير"، بينما أدانت الأمم المتحدة ما حدث. ولكن ما الفرق بين هذه التصريحات وبين شتمهم لنا؟
وفي الختام لم يتحقق أي تقدم منذ بدء المجزرة الإسرائيلية، ولا يجب على أحد أن يغضب عندما نقول إن "إسرائيل تحرك 200 دولة بإصبعها". فمن يقول غير ذلك، فليذهب ويقله للأطفال المغطاة بأكفان صغيرة والذين تغمض أعينهم بغير عودة.
ولا داعي لانتقاد تركيا أيضا. فبالرغم من أننا لا نتحمل أية مسؤولية عن هذه المجزرة إلا أننا لم ننس الشعور بالخجل، وضمائرنا لا تزال حية. ونحن الدولة الوحيدة التي تدافع عن القضية بصدق. وقد رأينا بالأمس كيف وصف كل من الرئيس ووزير الخارجية، غزةَ بأنها المسمار الأخير الذي يدق في نعش النظام الغربي، وهذا هو جوهر الأمر.
هل تدرك تركيا أنها تستطيع تغيير شكل التهديدات الموجهة إليها؟
لا تعني كل هذه التطورات أن إسرائيل تفوز. فرصيدها اللامحدود الذي ورثته من الحرب العالمية الثانية آخذ في النفاد، وسيكون لذلك ثمن باهظ. ويشير بعض المحللين إلى أن "دولة فلسطين" قد تصبح حقيقة واقعة. وهذا أكثر ما يقلق الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، فهما تسعيان إلى ضمان استمرار وجود إسرائيل بعد انتهاء الحرب، مع إبقاء سيطرة "دولة فلسطين" تحت سيطرتهما. كما يسعون لعودة علاقات الدول العربية مع تل أبيب إلى طبيعتها أو توسيعها، وتهدفان إلى عزل إيران التي تمثل خطرا عليهم بقدر الإمكان. ويعملون على ربط "الدول المتعاقدة" التي ستساعدهم في تحقيق هذه الأهداف.
تؤدي المجزرة الإسرائيلية إلى ضغط نفسي هائل على المنطقة بأكملها. ويبدو أن "إدارة" هذه المنطقة ستتم من خلال ذلك. لطالما كانت منطقة الشرق الأوسط تعيش حالة من التوتر لأسباب مختلفة، لكن هذا التوتر بات الآن يهدد جميع أنحاء المنطقة.
خذ مصر مثالا. فحتى وقت قصير مضى، كانت تتمتع بأجندة مريحة، وكان لديها حرية التصرف في التعامل دول مع المنطقة. لكن الوضع مختلف اليوم. بل إن تحسين العلاقات مع مصر قد عاد علينا بالفائدة.
إن أحد خطوط التوتر الرئيسية في الشرق الأوسط هو خط الصومال - إثيوبيا - السودان - مصر. ويشكل هذا الخط عبئا على البحر الأحمر، مما يفسر حشد الدول الغربية لأساطيلها في المنطقة. وتتمتع تركيا بموقع جيد على هذا الخط. ويمتد هذا الخط أيضا إلى البحر الأحمر، إلى شبه الجزيرة العربية، حيث تتفاعل المملكة العربية السعودية واليمن. كما يمتد أحد طرفيه إلى ليبيا ومنطقة الساحل عبر البحر المتوسط. وهو أبعد خط عن دوائر التوتر المتمركزة في إسرائيل.
تشكل سوريا ولبنان والأردن حلقة قريبة من التوتر، حيث تشعل الحروب فيها من وقت لآخر، ويعد العراق وإيران من أسباب اشتعالها. ويمكن اعتبار هذه الحلقة ثاني أقرب حلقة من حلقات التوتر إلى إسرائيل. وتلعب بغداد وطهران دورا مهما في الأزمة الإسرائيلية. ثم تمتد حلقة التوتر بشكل طبيعي إلى الخليج العربي، وتشمل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر. تقع هذه الدول قريبة من "النار"، ولديها مواقف واضحة بسبب وجود مؤسسات مثل منظمة التعاون الإسلامي التي تأسست من أجل فلسطين، لكنها تبقى "أكثر برودة".
لدى جميع الدول المذكورة علاقات مع إسرائيل، وتقع جميعها في دائرة التوتر، لكنها أقل شعورا بالتهديد من هذا التوتر.
ويشكل التوتر في غزة عبئا إضافيا على المنطقة بأكملها، لكن هذه الدول لا تسحق تحت هذا العبء. ولفهم الصورة بشكل كامل، نحتاج إلى الانتقال من دول المنطقة إلى القوى العظمى.
لكن ما يجب فهمه حتى الآن، أولا: أن الضغوط التي تواجهها الدول المذكورة تغذي جميع التيارات الموجودة في هذه الدول.
ثانيا: تركيا مرتبطة بعلاقات مع كل هذه الدول. ولديها صلات مع كل منها. وتعد تركيا من أكثر الدول التي تبدي حساسية تجاه القضية الفلسطينية.
وتدرك تركيا أن جميع القضايا الأخرى التي تؤثر عليها في المنطقة قد تتغير بسبب الأزمة الإسرائيلية. وتتمتع تركيا بميزة امتلاك أقوى جيش وقيادة في المنطقة. والحقيقة هي أنه حتى القوى العظمى لا ترغب في الدخول في صراع مع أنقرة في ظل هذه الظروف، كما هو الحال مع اليونان.
لا يمكن لعب أي دور لمجرد كتابة اسمك عليه
ما يحدد مسار الأزمة الإسرائيلية هو حرب الأقطاب التي تدور رحاها في خارطة الشرق الأوسط الموسعة. وهذه حرب ديناميكية، وإذا أردنا جعل غزة مركزا لها، فسيكون من الممكن تحديد جبهات روسيا والولايات المتحدة والصين والهند.
ولكي أوضح مدى غرابة المرحلة التي وصلنا إليها، سأقدم مثالا واحدا فقط، انتشرت في هذه الفترة شائعة حول انسحاب الولايات المتحدة من المنطقة، نحن لا نناقش صحة هذه الشائعات، ولكننا نناقش مجرد بدء الحديث عنها. وعلى الرغم من أنني لا أعتقد ذلك في هذه المرحلة، إلا أن بعض التطورات العالمية قد تجبر الولايات المتحدة على الانسحاب، مثل: كيفية انتهاء حرب أوكرانيا، وكيفية انتهاء انتخابات الرئاسة الأمريكية، وتبني بعض الجهات الإقليمية أدوارا مختلفة في "النظام العالمي الجديد" أو دعوتهم لتحمل مسؤوليات جديدة بتكاليف نقل عالية، وأخيرا حالة الاقتصاد العالمي.
يجب النظر إلى جميع هذه العوامل، سواء كانت إيجابية أو سلبية، بحذر شديد. فانسحاب الولايات المتحدة من المنطقة سيؤدي إلى تغييرات كبيرة في الجغرافيا السياسية للعالم. ولن يكون الأمر مجرد "انسحب أنت ودعني ألعب مكانك قليلا".
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مواضيع أخرى للكاتب
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس