توران قشلاقجي - القدس العربي
هل يمكن أن يكون المزاج السائد في عصرنا هو السبب وراء الفشل في منع الحروب والوحشية التي تجري في غزة والسودان، وغيرهما من المناطق في أجزاء كثيرة من العالم؟ علينا أن نكثر من الدعاء من أجل التحلي بالذكاء والحكمة في هذا العصر، لأن الحكمة هي من أعظم نعم الله على الإنسان. تخيلوا ماذا كنتم ستفعلون لو لم يكن لديكم عقل؟ إننا نعيش مع الأسف في زمان يغزو فيه البلهاء والحمقى العالم. أينما سافرتهم حول العالم، سترون أن هؤلاء البلهاء قد استولوا على كل مكان، بدءا من المؤسسات الحكومية وحتى الشركات الخاصة.
الأشخاص الذين كانوا ذات يوم بعيدين كل البعد عن تولي المناصب والمسؤوليات، أصبحوا اليوم يتمتعون بسلطات إدارية في كل مكان، ولهذا السبب بالتحديد لم يعد العالم قادرا على أن يستجمع قواه ويعود إلى رشده بأي شكل. ولهذا السبب أيضا، يتزايد عدد الأشخاص الذين يجدون صعوبة في فهم التغيرات العالمية ويشعرون بالغضب والقسوة والاكتئاب. وباتت خصال الحكمة والرحمة والرأفة والفطنة شبه معدومة. في المقابل، سيطرت المعلومات السطحية والمضللة وضيق الأفق والتعصب على كل مكان.
أي شيء بعيد عن المنطق والعقل أصبح يؤثر بشكل خطير على الناس، وأصبحت الرداءة والتفاهة منتشرة بجانب الغباء مثل الوباء في كل مكان وشريحة داخل المجتمع، سواء في التيارات اليمينية أو اليسارية أو الليبرالية أو العلمانية أو المحافظة، على الرغم من الاختلافات الأيديولوجية. وفي هذا الصدد يقول العالم والكاتب والناقد الإيطالي أمبرتو إيكو، إن وسائل التواصل الاجتماعي «أصبحت تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى ممن كانوا يتكلمون في البارات فقط، بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسببوا في أي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فورا. أما الآن فلهم الحق في الكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل. إنه غزو البلهاء». عندما تكون الرداءة والتفاهة في كل مكان، فإن أمراض مثل النرجسية والتشتت والاضطرابات ثنائية القطب، تنتشر حتما بشكل خطير في المجتمعات.
ويشير عالم النفس الفرنسي جان فرانسوا مارميون، في كتابه «سيكولوجية الغباء»، إلى أنه في أيامنا هذه، وتحت التأثير المباشر لشبكات التواصل الاجتماعي، يتم تقديس السطحية والتعصب والأفكار التي تتعارض مع قيم المنطق مع اختفاء الحكمة تدريجيا. ويذكر مارميون أن هذا الوضع الجديد خلق كتلة نرجسية حول العالم بعيدة عن الرحمة، ومخادعة وماكرة وغير أمينة، ولديها عداء تجاه الآخرين، وتحاول هزيمة الطرف الآخر في كل فرصة، وتشعر بالغضب والاكتئاب. يلجأ الأشخاص المتملقون وذوو العقول الفقيرة وغير الأكفاء إلى مكائد مختلفة للوصول إلى مناصب عليا، وهذا يتسبب في نمو المشاكل في العديد من المؤسسات حول العالم. ويعطي مارميون في كتابه المثال التالي لهذا الغباء: «في التسعينيات، ازدادت وتيرة حوادث الطيران في كوريا الجنوبية. وفي واحدة من أكثر حوادث الطيران دموية، تحطمت طائرة تابعة للخطوط الجوية الكورية، مما أسفر عن مقتل جميع الركاب وطاقم الطائرة. ونتيجة التحقيق الشامل في الكارثة، تبين أن الجميع كان على علم بالعطل، ولكن لم يكن لدى أحد الشجاعة لإبلاغ كبار المديرين به».
في كتابه «نظام التفاهة»، يقدم المؤلف الكندي آلان دونو اقتراحات حول كيفية التصرف في عصر سيطر عليه الحمقى والبلهاء والمحتالون والمخادعون والشخصيات النرجسية المتغطرسة.. يقول دونو: «لا تكونوا أذكياء أو حتى مرتاحين؛ لا تكونوا شغوفين جدا، فسوف تخيفون الناس. والأهم من ذلك، ابتعدوا عن «الأفكار الجيدة» لأن آلات تمزيق الورق مليئة بها. نظرتكم الحادة تزعج الناس، افتحوا أعينكم وارخوا شفاهكم. يجب أن تكون أفكاركم ضعيفة وتبدو ضعيفة. عندما تتحدثون عن أنفسكم، اشعرونا بأنكم لستم أشخاصا مهمين كثيرا. فقد تغير الزمن وبسطت التفاهة سيطرتها على السلطة والعالم».
نشهد في هذا العصر المضطرب مرحلة من التهور على صعيد التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وللأسف أصبحت التفاهة تسيطر على كل المناصب، من السياسة إلى الاقتصاد. ولذلك، يصبح من الأهم بالنسبة لنا في هذه الفترة المليئة بالصعوبات، أن نحمي عقولنا ونحافظ على التواضع والبساطة، وألا نتخلى عن الرحمة والرأفة، وأن نسيطر على غضبنا ونراعي حقوق الآخرين. إن انتشار الغباء، بما في ذلك في الأوساط الأكاديمية والطوائف والطرائق التي يتمتع فيها الفلاسفة ورجال الدين بالنفوذ، يزيد الوضع سوءا. وما لم يضع الفلاسفة ورجال الدين حدا للنقاشات غير الضرورية وأن يهتموا بهموم الناس الحقيقية، فإن هذه المشاكل ستزداد أكثر.
خلاصة القول؛ إن وباء الغباء هذا يؤذي الجميع بطريقة أو بأخرى. كما يقول الصحافي والمؤلف الأوروغوياني إدواردو غاليانو: «نحن نعيش في عصر التفاهة، حيث حفل الزفاف أهم من الحب، ومراسم الدفن أهم من الميت، والمعبد أهم من الله».
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس