ترك برس
قال الكاتب والباحث في الشأن التركي، سعيد الحاج، إن زيارة الرئيس رجب طيب أردوغان إلى أربيل، عاصمة إقليم شمال العراق، لا تقل أهمية عن زيارته التاريخية إلى بغداد، وسط حديث عن توافق بين الأطراف الثلاثة حول ملفات معينة.
ولأول مرة منذ ثلاثة عشر عامًا، حطّت طائرة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في بغداد، ثم في أربيل على رأس وفد رفيع، ليوقّع الجانبان: التركي والعراقي، عددًا كبيرًا من الاتفاقيات. الزيارة التي وصفها البعض بالتاريخية تغلق مرحلة، وتفتح أخرى في العلاقات بين البلدين الجارين في عدة مجالات.
وأضاف "الحاج" في مقال له على موقع "الجزيرة نت"، إن السنوات القليلة الأخيرة شهدت عددًا من محطات التوتر بين تركيا والعراق في عدد من الملفات الخلافية، في مقدمتها ملف المياه والعمليات العسكرية التركية في شمال العراق ضد العمال الكردستاني، في إطار إستراتيجية الحرب الاستباقية، إضافة لمسار استفتاء كردستان العراق في 2017، ولذلك رأى البعض أنّ زيارة أردوغان الحالية للعراق تاريخية.
وفيما يلي النص الكامل للمقال:
وإذا ما كانت دلالات زيارة أردوغان لبغداد لافتة ومهمّة، فزيارتُه لأربيل أوضح وأكثر دلالة وتأثيرًا. ذلك أنّ أنقرة كانت قد نسّقت موقفًا ثلاثيًا مشتركًا مع كل من طهران وبغداد ضد استفتاء الإقليم على الاستقلال، ولديها حساسيتها الشديدة من الأمر من باب التحوّط لارتداداته الداخلية.
سبق الزيارة إعداد مكثّف من الجانبَين، تمثّل في عدد من الزيارات رفيعة المستوى من تركيا للعراق وبالعكس، ومن كل من بغداد وأربيل. كما سبقها تصنيف العراق حزب العمال الكردستاني، منظمةً محظورةً، وهو أمر أساسي بخصوص نظرة الحكومة المركزية له، وبالتالي للعمليات التركية في إطار مكافحته ومنع عملياته ضد الأراضي التركية.
الزيارة بهذا المعنى تعبّر عن تلاقي الإرادة السياسية لدى الطرفين، بل الأطراف الثلاثة (بضمِّ الإقليم)، نحو التهدئة وترك التوتر والتصعيد، ثم البناء على ذلك في مسارات من الحوار والتفاهم والتّنسيق بل والتعاون في بعض الملفات. ومن هذه الزاوية، فلا يمكن فصل هذه الزيارة عن مسار تطوير تركيا، علاقاتِها مع عدد من الأطراف الإقليمية في السنوات الثلاثة الأخيرة، مثل: مصر، والسعودية، والإمارات، كما لا يمكن فصلها بالكامل عن بعض التطوّرات الإقليمية والعالمية، وفي مقدمتها تداعيات جائحة كورونا على الاقتصاد العالمي والاقتصادات المحلية، والحرب الروسية – الأوكرانية، والعدوان على غزة، واحتمالات التصعيد في المنطقة، ولا سيما بين إيران و"إسرائيل".
وقّع الجانبان خلال الزيارة 26 اتفاقية ومذكرة تفاهم، أهمها "مذكرة تفاهم بشأن الإطار الإستراتيجي" للتعاون المشترك، و"اتفاق إطاري للتعاون في مجال المياه" بين البلدين، ومذكرة تفاهم "مشروع طريق التنمية". كما وقعت الوزارات والهيئات المختلفة في البلدين أكثر من عشرين اتفاقًا ومذكرة تفاهم أخرى في مجالات: التجارة والسياحة والتعليم والصحة والأمن والعلوم والتكنولوجيا والاستثمار والرياضة، وغيرها من المجالات.
في المؤتمر الصحفي الذي جمعه مع رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، قال الرئيس التركي: إن المذكرات الموقعة تمثل "نقطة تحول في علاقاتنا مع العراق"، مؤكدًا توفيرَ الدعم والتنسيق الضروريَين لتنفيذ الاتفاقيات الموقعة بالكامل. كما أشاد أردوغان بشكل خاص باتفاقية "الإطار الإستراتيجي للتعاون المشترك" والتي رأى أنها تشكل خريطة طريق قوية للبلدين في المجالات الاقتصادية والتجارية على وجه التحديد.
كما تركّزت الأنظار على اتفاقية "طريق التنمية" التي جمعت إلى جانب تركيا والعراق، كلًا من قطر والإمارات، وتشمل إنشاء طرق برية وسكة حديدية تمتد من العراق إلى تركيا، منها 1200 كلم داخل العراق، وتربط بين دول الخليج العربي وأوروبا، وتبلغ ميزانيتها الاستثمارية زهاء 17 مليار دولار أميركي، وينتظر أن تنتهي مرحلتها الأولى في 2028، والثالثة والأخيرة في 2050، ويمكن أن تؤمن مليون فرصة عمل حال اكتمالها.
آفاق مستقبلية
تنوّعت مجالات الاتفاقيات ومذكرات التفاهم التي وقّعها الجانبان، إلا أن الأهم من بينها هو ما يتعلق بملفات مكافحة الإرهاب والماء والطاقة، ذات الأولوية القصوى للبلدين.
فمكافحة الإرهاب – وتحديدًا العمال الكردستاني – تقع على رأس أولويات أنقرة، وهو ما أكّده أردوغان في المؤتمر الصحفي، حيث تنتهج تركيا في السنوات الأخيرة مبدأ "تجفيف منابع الإرهاب في مصدره" بمنطق الحرب الاستباقية، وعبر عمليات عسكرية متتالية في شمال العراق. وقد شكلت هذه العمليات في السابق مصدر توترِ متكررِ بين أنقرة وبغداد، وتحديدًا مع بعض المكونات الداخلية في العراق، وطالما قوبل تأكيد أنقرة، عدمَ طمعها في الأراضي العراقية، باتّهام بعض الأطراف لها بأنها قوة احتلال ومطالبتها بمغادرة العراق.
كما أن دعوات أنقرة كلًا من بغداد وأربيل للتحرك أو التعاون معها ضد المنظمة الانفصالية في كل من جبال قنديل وسنجار لم تلقَ آذانًا مُصغية، أو لم تتحوّل لمشروع عملي لأسباب يصعب التفصيل فيها هنا. اليوم، بعد اتفاقيات التعاون الأمني والتدريب العسكري، وعرض أردوغان مساعدة تركيا في هذا المجال، فضلًا عن تصنيف الكردستاني في العراق منظمة محظورة، تلوح في الأفق إرهاصات عملية واسعة ضد الأخير، إما بجهود تركية منفردة وتفهم عراقي، أو بتعاون الأطراف الثلاثة. كما تحدثت بعض المصادر أن أنقرة تريد التعاون مع كل من بغداد وأربيل لإنشاء منطقة آمنة من الحدود مع تركيا وداخل الأراضي العراقية على غرار سوريا.
في المقابل، يراهن العراق على الاتفاقيات المتعلقة بالمياه، أن تحل المشاكل القائمة في هذا الملف، بحيث يكون هناك "تقاسم عادل ومتساوٍ" للمياه كما تنص الاتفاقيات، وأن يتم تصدير النفط العراقي للعالم عبر الموانئ التركية.
تعزز هذه الاتفاقيات، ولا سيما الاقتصادية والتجارية منها، الاعتماد المتبادل بين البلدين الجارين، وتهيّئ الأرضية لمسار مختلف بينهما يعتمد على التنسيق والتعاون كبديل عن التوتر والتصعيد. كما أن "طريق التنمية" يمثل مشروعًا واعدًا سيربط بين البلدين أكثر فأكثر من حيث البنية التحتية، وكذلك العوائد الاقتصادية المنتظرة. على أنه ما زال من المبكر الحكم على مدى قدرته على منافسة مشاريع أخرى لربط الخليج العربي بأوروبا، وفي مقدمتها المشروع الأميركي الذي يمرّ عبر "إسرائيل".
فيما بين سطور تصريحات كل من أردوغان والسوداني، يتّضح أن الماء هو ملف الأولوية بالنسبة للعراق، بينما الأمن ومكافحة الإرهاب هما أولوية تركيا. ومن المهم الإشارة إلى أن الإرادة السياسية التي أفضت للزيارة، ثم الاتفاقيات الموقعة تفتحان الباب على تقديم كل طرف للآخر مساهمة ومساعدة في الملف الأهم له.
زيارة أربيل
من جهة ثانية، لا تقل زيارة أردوغان لأربيل أهمية عن زيارته لبغداد بالنظر لسقف العلاقة بينهما قبل فترة قريبة، كما لا يمكن تصور تنفيذ معظم الاتفاقيات الموقعة دون دور واضح للإقليم، ولا سيما فيما يتعلق بأمن الحدود ومكافحة الإرهاب وتصدير النفط.
كما تساهم الزيارة وما تخللها من تصريحات ومواقف واتفاقيات بشكل مباشر وأشكال غير مباشرة في حلحلة الإشكالات العالقة بين أنقرة وأربيل من جهة وأربيل وبغداد من جهة ثانية، ولا شك أن ذلك كان جزءًا من محادثات الرئيس التركي مع الحكومة المركزية وحكومة الإقليم.
كما أن لقاء أردوغان بالقيادات السياسية الممثلة للسنة والتركمان في العراق، يوحي بمحاولة بلاده استعادة دور ما في المشهد السياسي الداخلي العراقي، كما كانت في السنوات الأولى لحكم العدالة والتنمية من خلال الانفتاح على مختلف الشرائح، وبما يشير إلى سعي أنقرة لموازنة أدوار أطراف خارجية أخرى في العراق، وهو ما يبدو أنه محط ترحيب من أطراف داخلية هناك.
في المجمل؛ زيارة الرئيس التركي للعراق – بغداد وأربيل – محمّلة بالرسائل السياسية والإمكانات الاقتصادية والتجارية وتعبد الطريق لآفاق إستراتيجية، وقد صيغت الاتفاقيات ومذكرات التفاهم الموقعة على قاعدة الربح للجميع. يشير ذلك إلى توفر الإرادة السياسية لدى الجانبين لأسباب داخلية وخارجية عديدة، إلا أن المحك الحقيقي سيكون مدى القدرة على التنفيذ من خلال الدعم والتنسيق ومواجهة التحديات القائمة والتدخلات الخارجية واستكمال المراحل العديدة، بما يمكن أن يقلب مناخ التوتر الذي ساد في السنوات الماضية إلى جوّ من التفاهم والتنسيق والتعاون، بما يفيد الدولتين والشعبين.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!