ترك برس

استعرض مقال للكاتب والسياسي التركي ياسين أقطاي، التحوّل الجوهري في موازين القوة بالمنطقة، بعد الردّ الإيراني على الهجمات الإسرائيلية، مسلطًا الضوء على ازدواجية المعايير الغربية في التعاطي مع العدوان الإسرائيلي على إيران وغزّة، خصوصًا من قِبل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا.

ويرى أقطاي في مقاله بموقع الجزيرة نت أن هذا الانحياز الغربي لإسرائيل، رغم ثبوت ارتكابها جرائم إبادة جماعية، يفضح سقوط النموذج الحداثي-الإنساني الذي تتغنّى به تلك الدول.

كما يشير إلى أن الضربة الإيرانية وضعت حدًا لغطرسة إسرائيل وأفقدتها حصانتها، وسط إشادة بتجارب الاعتماد على الذات في الردع، كحال إيران وتركيا، مقابل هشاشة الاعتماد العربي على الحماية الغربية.

ويختم أقطاي، وهو نائب برلماني سابق في حزب العدالة والتنمية الحاكم، بدعوة لأردوغان لقيادة مبادرة إسلامية موحدة من إسطنبول لمواجهة هذا المسار العالمي المختل. وفيما يلي نص المقال:

لا يفترض أن يقابل العدوان المتغطرس من إسرائيل، الدولة التي ثبت ارتكابها جرائم إبادة جماعية بقرار من المحكمة الدولية، على إيران إلا بمزيد من الإدانة والرفض، ولذلك كان مدهشًا أن تتعامل بريطانيا وفرنسا معه وكأنه خطوة "طبيعية"، بدلًا أن تدينا ما جرى.

لقد أعلنتا، شأنهما شأن الولايات المتحدة، وقوفهما إلى جانب "إسرائيل" ضد إيران، بينما كانت هذه الدولة ذاتها تواصل حربها الإبادية في غزّة بلا انقطاع منذ 610 أيام. إن التضامن مع قوة نووية تنتهج الإبادة الجماعية، لمجرد مواجهة مساعي إيران لامتلاك السلاح النووي، من شأنه أن يقوّض تمامًا ما تبقّى من ركائز النموذج الحداثي- العلماني- الإنساني، الذي أصيب أصلًا بزلزال عنيف منذ بدء مجازر غزّة.

إن الرسالة التي خرج بها اجتماع مجموعة السبع G7 – والتي مفادها أن "إيران لن تصبح قوة نووية" – لا يمكن أن يُساء فهمها في العالم الإسلامي، بل ستُفهم تمام الفهم. إذ سيُرى في هذا الإصرار على منع إيران من امتلاك السلاح النووي، رغم مواقفها التي أثارت الجدل داخل الساحة الإسلامية لسنوات، أثرُ انحياز ديني مكشوف. لأنه إذا كان لا بدّ من الحديث عن "خطر حقيقي"، فإن وجود سلاح فردي – مجرد مسدّس – بيد "إسرائيل" يكفي لتهديد الإنسانية جمعاء، فكيف إذا كانت تمتلك ترسانة نووية ضخمة؟!

إنّ "إسرائيل"، بتسلّحها النووي وقوّتها المفرطة، أصبحت خطرًا حقيقيًا على السلام العالمي والبشرية بأسرها. حقيقة هذا الخطر تظهر يوميًا في غزّة، وفي الضفة الغربية، وفي سوريا. إنها قوة عدوانية متغطرسة بطبيعتها، ومع ذلك، وبدلًا من أن تُدان، تُمنح الحقّ في أن تقرر من يحق له امتلاك الأسلحة في المنطقة، ومن لا يحق له ذلك، رغم أنها دولة مدانة بجرائم إبادة جماعية.

هذه واحدة من زوايا الحرب التي نعيشها. أما الزاوية الأخرى المهمّة، فهي أنّ "إسرائيل"، بإقدامها على هذه الحرب، فقدت الامتياز الذي طالما تمسّكت به رغم عدوانيتها: الحصانة، والقدرة على الإفلات من العقاب، والشعور بالعلو المطلق. فمن هذه اللحظة، لم تعد قادرة على مهاجمة أي دولة شاءت من دون أن تدفع الثمن. لقد اصطدمت غطرستها العنيفة بجدار صلب، رغم اعتمادها الكامل على ترسانة سلاح حصلت عليها من الولايات المتحدة وحلفائها المتدينين في أوروبا. واليوم، بدأت مدنها، وفي مقدّمتها تل أبيب، تتعرّض لدمار يشبه ذلك الذي أنزلته بغزّة.

والأدهى، أن هذا الدمار الذي أصاب قلبها جاء من مصدر طالما تجاهلته باستهزاء، بل أنكرت وجوده أساسًا: من بلد محاصر منذ خمسين عامًا، عاش في ظلّ الحصار كل صنوف الحرمان، لكنه استطاع أن يطوّر أسلحته بجهد ذاتي، وسط شحّ الموارد والضغوط.

هذه الحقيقة تطرح تساؤلًا كبيرًا: ما هو ضرر الحصار الأميركي والإسرائيلي؟ وما الذي قدّمته الحماية الغربية لحلفائهم في المنطقة؟ فلننظر إلى إيران، التي عانت على مدار نصف قرن من الحصار والعقوبات الأميركية والغربية، وها هي اليوم قادرة على تأمين ما يقرب من 80% من حاجتها الدفاعية من خلال التصنيع المحلي.

صحيح أنّ منظومة الدفاع الجوي لديها لم تثبت كفاءتها في المرحلة الأولى، إلا أنّها بدأت تدخل الخدمة بشكل أكثر فاعلية، إلى جانب الطائرات المسيّرة، والصواريخ الباليستية، وفرط صوتية، التي زعزعت المكانة الإستراتيجية التي طالما ظنّت "إسرائيل" أنها تحتكرها في المنطقة، وفرضتها على جيرانها.

بل إنّ هذه الزلزلة لم تكن وليدة اليوم. لقد بدأت إرهاصاتها في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، حين فجّر شعب غزّة الباسل، المحاصر منذ 2007، شرارة مقاومة عارمة، زعزعت توازن الردع الإسرائيلي. ويمكن أيضًا إضافة التجربة التركية في الصناعات الدفاعية كحالة بارزة توضح ما يمكن أن تصنعه الإرادة والاعتماد على الذات.

وفي المقابل، هل يمكن تجاهل المفارقة المفجعة؟ مئات المليارات من الدولارات أنفقتها بعض الدول على التسلّح من مصادر أميركية وأوروبية وإسرائيلية – ومع ذلك، ما تزال تعتمد على الحماية الأميركية. أليست هذه المفارقة وحدها كافية لتكون درسًا بليغًا؟

على صعيد آخر، أخطأ نتنياهو في تفسير صبر إيران إزاء اعتداءاته المتكررة، إذ فهمه على أنه علامة ضعف (بل يمكن القول إنّ هذا التفسير لم يأتِ فقط من نتنياهو، بل من الشارع العربي والإسلامي الذي كان ينتظر من إيران ردًا على كل صفاقة إسرائيلية). والحقيقة أنّ إيران لم تكن تسعى إلى حرب شاملة مع "إسرائيل"، وهذا ليس أمرًا يصعب فهمه.

لكن نتنياهو فسّر ذلك الصبر بأنه ضعف من قبل إيران، وقوة مطلقة من طرفه، فاندفع يطلب نصرًا سريعًا، مهللًا لما ظنّه "ضربة مفاجئة" لخصمه، لكنّها لم تكن إلا فخًا ابتلعته فرحته الكبرى مثل كأسٍ مسمومة. واليوم، يبدو أن هذا السُمّ بدأ يسري في جسد "إسرائيل" كلّه. حتى الشارع العربي، بمختلف تياراته، بات يلتف حول إيران؛ لأنها الدولة الوحيدة التي تواجه "إسرائيل" فعليًا في ساحة المعركة. فلينظروا كيف استقبلت الشوارع العربية صور الصواريخ الإيرانية، وهي تضرب تل أبيب بفرحٍ عارم!

ربما آن الأوان للولايات المتحدة، و"إسرائيل"، وأوروبا أن يدركوا هذا الواقع: العالم الإسلامي الذي مزّقوه وأخضعوه عبر إستراتيجيات "فرّق تسد"، يمكن أن يتوحّد تحت وطأة هذا العدوان الصهيوني العنصري المفرط في تطرفه.

فإذا كانت الولايات المتحدة والدول الأوروبية ترغب فعلًا في تجنّب المزيد من النتائج الكارثية لهذا المسار العبثي الذي شرعت فيه، فليس أمامها سوى أن تتخلّى عن دعمها لـ"إسرائيل". لأنها إن لم توقف الحرب التي أشعلتها، فلن تستطيع السيطرة على نهاياتها – كما لم تستطع إنهاء حرب أوكرانيا التي أشعلتها ضد روسيا.

وعند هذه النقطة، لن يكون أمامها خيار سوى اللجوء إلى تركيا، إلى زعيمها رجب طيب أردوغان. وإنّ أردوغان، إلى جانب دبلوماسيته الهاتفية المحمومة التي يقودها منذ أيام، يستطيع – بل ينبغي له – أن يبادر بجمع قادة العالم الإسلامي في إسطنبول، لبلورة موقف مشترك، يمثّل العالم الإسلامي برمّته، في وجه هذه الفوضى. وسيكون هذا بمثابة خطوة تأسيسية فارقة نحو نظام عالمي جديد أكثر عدلًا وتوازنًا.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!