ترك برس

تناول تقرير للباحث والأكاديمي المصري د. عصام عبد الشافي، الأزمة التي فجرتها مشاركة بطريركية الروم الأرثوذكس (أو البطريركية اليونانية في إسطنبول) بصفة دولة في قمة السلام الأوكرانية التي عقدت في سويسرا.

وعُقد مؤتمر السلام في أوكرانيا في مدينة بورغنستوك السويسرية، يومي 15 و16 من يونيو/حزيران 2024، وأيد البيان الختامي 76 مشاركا من بين 91 مشاركا في المؤتمر، إلا أن المؤتمر وما يقوم عليه من ملفات مركزية، كان مصدرا لأزمة خارج السياق بشكل كامل، بين تركيا من ناحية والدولتين المنظمتين للمؤتمر (سويسرا وأوكرانيا) من ناحية أخرى، وفقا للباحث المصري.

وعبّرت تركيا عن غضبها تجاه توقيع البطريركية اليونانية في إسطنبول على البيان الختامي للمؤتمر بصفة “دولة”، حيث أعلنت البطريركية أنها تؤيد البيان المشترك الذي صدر بعد القمة، وكانت أحد الموقعين على بيانه الختامي، وشارك البطريرك برثلماوس رئيس البطريركية اليونانية في إسطنبول في المؤتمر.

وطالبت أنقرة كلا من سويسرا وأوكرانيا، منظمي المؤتمر، بتقديم إيضاحات بشأن وجود البطريركية اليونانية في إسطنبول ضمن قائمة الموقعين على الإعلان المشترك للقمة، الذي يُفترض أن الدول فقط هي التي توقع عليه، وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية التركية أونجو كيشيلي، في بيان رسمي “تفيد التقارير بأن البطريركية اليونانية في إسطنبول شاركت في قمة السلام حول أوكرانيا التي عُقدت في سويسرا يومي 15 و16 يونيو بوصفها دولة”.

وقال كيشيلي إن “تقارير تفيد بأن وزير الخارجية التركي هاكان فيدان عقد لقاء رسميا مع البطريرك اليوناني برثلماوس على هامش القمة، وهذا ليس صحيحا». وأضاف “وفيما يتعلق بالادعاءات القائلة بإضافة اسم بطريركية إسطنبول اليونانية (بوصفها) دولة موقعة على الإعلان المشترك الذي تم اعتماده في نهاية المؤتمر وعرضه على الجمهور، تم طلب إيضاحات من منظمي المؤتمر”.

وأكد كيشيلي أنه “لم يطرأ أي تغيير في السياسة العامة فيما يتعلق بموقف البطريركية اليونانية في إسطنبول”، حيث لا تعترف تركيا بالوضع المسكوني للبطريركية اليونانية، ويقتصر وضع البطريرك وفقا لمعاهدة لوزان للسلام لعام 1923 على إجراء الخدمات الدينية لليونانيين الذين يعيشون في تركيا، ويطلق على البطريرك برثلماوس في تركيا لقب رئيس طائفة الروم الأرثوذكس في منطقة فنار، ومحظور على البطريركية ممارسة الأنشطة السياسية.

ويشير عبد الشافي إلى أن العلاقات التركية اليونانية تتسم بالصراع المستمر، وفترات الصراع والحروب فيها أطول وأعمق من فترات التعاون والتقارب، وتعود جذور هذا الصراع إلى المواجهات المسلحة بين الدولة السلجوقية والإمبراطورية البيزنطية في القرن الحادي عشر الميلادي، ثم الحروب والمواجهات مع الدولة العثمانية من منتصف القرن الخامس عشر حتى أوائل القرن العشرين.

ومع تفكيك الخلافة العثمانية وإعلان سقوطها، شهدت علاقات اليونان مع الجمهورية التركية الوليدة حربا دامية بين عامي 1919 و1922، وتشير بعض التقديرات إلى خسارة الأتراك نحو 12 ألف قتيل من الجيش ونحو 650 ألف مدني، بينما خسر اليونانيون نحو 25 ألفا من الجيش ونحو 270 ألف مدني، ورغم تباين الأرقام فقد انتهت الحرب بانتصار تركيا وقيام ثورة في اليونان ضد النظام الحاكم، وصولا إلى توقيع معاهدة لوزان في يوليو 1923.

قضايا الصراع: من الأرض والحدود إلى الهوية والدين

ووفقا للكاتب، جاء القسم الثالث من الباب الأول من النص الرسمي للاتفاقية تحت عنوان “حماية الأقليات”، وشمل المواد من 37 إلى 45، ومن بين ما نصت عليه المادة 38 “تتمتع الأقليات غير المسلمة بحرية كاملة في التنقل والهجرة، حسب التدابير المطبقة على كامل الإقليم أو على جزء منه، على جميع المواطنين الأتراك، والتي قد تتخذها الحكومة التركية للدفاع الوطني، أو الحفاظ على النظام العام”

وتابع المقال:

نصت المادة 39 على “يتمتع المواطنون الأتراك الذين ينتمون إلى أقليات غير مسلمة بنفس الحقوق المدنية والسياسية التي يتمتع بها المسلمون، وجميع سكان تركيا، دون تمييز ديني، هم سواسية أمام القانون. ولا تخل الاختلافات في الدين أو العقيدة أو الاعتراف بحق أي مواطن تركي في الأمور المتعلقة بالتمتع بالحقوق المدنية أو السياسية، مثل القبول في الوظائف العامة والوظائف والأوسمة، أو ممارسة المهن والصناعات. ولا يجوز فرض قيود على الاستخدام الحر لأي مواطن تركي لأي لغة في اللقاءات الخاصة أو التجارة أو الدين أو الصحافة أو المطبوعات من أي نوع أو حتى في الجلسات العامة، وعلى الرغم من وجود اللغة الرسمية، يجب توفير التسهيلات الكافية للمواطنين الأتراك الذين يتحدثون بلغات غير تركية، لاستخدام لغتهم شفويا أمام المحاكم”.

و”يتمتع المواطنون الأتراك الذين ينتمون إلى أقليات غير مسلمة بنفس المعاملة والأمن في القانون وفي الواقع مثل المواطنين الأتراك الآخرين. وعلى وجه الخصوص، سيكون لهم الحق المتساوي في إقامة وإدارة والتحكم في أي مؤسسات خيرية ودينية واجتماعية، على نفقتهم الخاصة، وأي مدارس ومؤسسات أخرى للتعليم، مع الحق في استخدام لغتهم وممارسة دينهم بحرية فيها” (المادة 40).

و”تتعهد الحكومة التركية بمنح الحماية الكاملة للكنائس والمعابد والمقابر وغيرها من المؤسسات الدينية للأقليات المذكورة أعلاه. وتُمنح جميع التسهيلات والتراخيص للمؤسسات الدينية، كما للمؤسسات الدينية والخيرية للأقليات المذكورة في الوقت الحاضر في تركيا، ولن تمتنع الحكومة التركية، في حالة تشكيل مؤسسات دينية وخيرية جديدة، عن تقديم التسهيلات اللازمة التي تحصل عليها للمؤسسات الخاصة الأخرى من هذا النوع” (المادة 42).

أما النص الأهم والأخطر في هذا القسم فكان في المادة 44، التي نصت على أن “توافق تركيا على أنه ما دامت المواد السابقة من هذا القِسم تؤثر على غير المسلمين من مواطني تركيا، فإن هذه الأحكام تشكل التزامات ذات أهمية دولية ويجب وضعها تحت ضمان عصبة الأمم، ولا يجوز تعديلها دون موافقة أغلبية مجلس عصبة الأمم. وتتفق الإمبراطورية البريطانية وفرنسا وإيطاليا واليابان بموجب هذه الاتفاقية على عدم حجب موافقتها على أي تعديل في هذه المواد يكون في شكله الصحيح الذي وافقت عليه أغلبية مجلس عصبة الأمم.

وتوافق تركيا على أنه يحق لأي عضو في مجلس عصبة الأمم أن يلفت انتباه المجلس إلى أي مخالفة أو وجود خطر لوقوع مخالفة لأي من هذه الالتزامات، ويجوز للمجلس عند ذلك اتخاذ مثل هذا الإجراء وإعطاء هذه التوجيهات كما يراها مناسبة وفعالة طبقا للظروف، وتوافق تركيا كذلك على أن أي اختلاف في الرأي حول المسائل القانونية أو الوقائع الناشئة عن هذه المواد بين الحكومة التركية وأي من الدول الموقعة الأخرى أو أي دولة أخرى، عضو في مجلس عصبة الأمم، سيتم اعتباره نزاعا ذا طابع دولي بموجب المادة 14 من ميثاق عصبة الأمم. وتوافق الحكومة التركية بموجب هذه الاتفاقية على إحالة أي نزاع من هذا القبيل، إذا طالب الطرف الآخر بذلك، إلى محكمة العدل الدولية الدائمة. ويكون قرار المحكمة الدائمة نهائيا، ويكون له نفس قوة وتأثير القرار الصادر بموجب المادة 13 من الميثاق”.

ورغم خطورة هذا النص، فإنه لا يتضمن في ذاته، ولا تتضمن باقي نصوص الاتفاقية أي مزايا تفضيلية تتمتع بها الكاتدرائية اليونانية في إسطنبول، حتى تشارك في قمة السلام حول أوكرانيا 2024، بصفتها دولة، وتصوت على البيان الختامي للقمة بهذه الصفة، إلا إذا كان الهدف الأساسي لليونان ومن يقف خلفها من هذه المشاركة هو خلط الأوراق وإحياء الصراعات الممتدة مع تركيا، في وقت كان يتطلع فيه الكثيرون إلى بدء مرحلة جديدة في علاقات الدولتين وخاصة بعد زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى العاصمة اليونانية أثينا في ديسمبر/كانون الأول 2023، والتوقيع على العديد من الاتفاقيات الأمنية والاقتصادية مع رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس.

وهو ما يمكن معه القول إن محاولات التهدئة وتسكين الصراعات كانت وليدة سياق سياسي إقليمي يرتبط في جانب منه بتطورات الحرب الروسية الأوكرانية، وحاجة الدول الأوروبية إلى الدور التركي في إدارة الأزمة، إلا أن ذلك لم يخفف من عمق الصراعات، وأن اليونان ومن يقفون خلفها ينتظرون الفرصة التي يمكن من خلالها تحريك أدوات التفكيك الداخلية للدولة التركية، ومن بينها ورقة الأقليات الدينية والعرقية.

عن الكاتب

عصام عبد الشافي

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!