ترك برس
تحول الشمال السوري المحاذي للحدود التركية إلى أحد أكثر المناطق السورية اكتظاظاً بالسكان خلال العقد الأخير، بسبب عمليات النزوح المليونية للمدنيين الهاربين من بطش نظام الأسد، لتصبح موطنا لمعاناة ملايين السوريين وفي الوقت نفسه لمهربي البشر الذين راحوا يستغلون آمال اللاجئين في عيش حياة أفضل.
شبكة الجزيرة القطرية، نشرت تقريراً سلطت فيه الضوء على تهريب اللاجئين الذي تحول إلى "تجارة مربحة تستثمر في أوجاع السوريين"، متطرقة إلى مسارات تهريب اللاجئين السوريين، ومنها تركيا.
وفيما يلي النص الكامل "للجزيرة نت":
يشعر يورغن نيسن ضابط الشرطة الذي يرأس فريقا من محققي جرائم الاتجار بالبشر في مدينة "فلنسبورغ" الألمانية بالضجر لعدم تمكنه من اعتقال كبار المهربين أو وقف تدفق اللاجئين.
ويتذكر ضابط الشرطة الألماني -في تصريحات نقلتها وكالة الأنباء الألمانية- أنه في تسعينيات القرن الماضي كان معظم المهاجرين إلى ألمانيا من الفلسطينيين، ثم جاء مهاجرون من الصين وإريتريا، أما الآن فإن الغالبية من السوريين والعراقيين الفارين من الحرب بحثا عن حياة أفضل.
ويقيم زعماء تجارة البشر -الذين يسعى نيسن لاعتقالهم- داخل سوريا، غير أنه لا يعرفهم ولا يعرف منهم سوى اثنين يعيشان في بلدة صغيرة على الحدود السورية مع تركيا، وهما من بين المخططين الرئيسيين لأعمال التهريب.
ويوضح نيسن أن الرجلين لديهما علاقات في جميع أنحاء أوروبا ومكاتب في سوريا وتركيا وكذلك وسطاء في بلغاريا، كما لديهما شبكة خاصة وقدرات لوجستية لنقل اللاجئين إلى أوروبا عن طريق البر والبحر.
وينظم المهربان وسائل النقل والإقامة للمهاجرين ويخططان لطرق السفر، ويتقاضيان بالمقابل 10 آلاف يورو عن الشخص الواحد، ويمتلكان اليوم ثروة طائلة من وراء تجارتهم.
وكان التقرير السنوي لوزارة الخارجية الأميركية حول الاتجار بالبشر، الذي صدر الاثنين الماضي، قد أدرج سوريا ضمن القائمة السوداء التي تضم دولا يتهم التقرير حكوماتها بالتورط المباشر في هذه الجرائم.
تدفق اللجوء رغم المخاطر
ويشكك مراقبون بإمكانية توقف عمليات لجوء السوريين إلى أوروبا أو الحد منها، رغم الصعوبات التي يواجهونها بسبب قيود صارمة فرضها الاتحاد الأوروبي للحد من تدفق موجات جديدة.
وترى منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) أن إغلاق قنوات الهجرة النظامية أمام معظم من استدعتهم الظروف للهرب من بلادهم فلا يجدون سوى القليل من المسارات الآمنة ولا خيار أمامهم سوى إشراك المهربين لمساعدتهم على عبور الحدود.
وأشارت اليونيسيف إلى أن الذين تتم رحلاتهم عبر البحر الأبيض المتوسط يكونون أكثر عرضة لخطر الاتجار والاستغلال، ومن المرجح أن أغلب الشباب يتعرضون للاستغلال، لأنهم غالبا ما يسافرون بمفردهم ويقضون وقتا أطول في العبور ويكون وصولهم إلى أنظمة الحماية أقل.
وبينما لا تزال سفن ومراكب نقل اللاجئين والمهاجرين السوريين تنطلق من سواحل عدة دول شرق أوسطية إلى أوروبا، سجلت مدينة طرطوس على الساحل السوري في الآونة الأخيرة نشاطا متزايدا في عمليات تهريب السوريين لخارج البلاد.
ويشهد الاتحاد الأوروبي ارتفاعا في حالات الوصول غير النظامية إلى أراضيه، فضلا عن ازدياد عدد طلبات اللجوء. ورصدت وكالة فرونتكس في عام 2023 أكثر من 355 ألف محاولة عبور لحدوده، في حين تخطت طلبات اللجوء مليون طلب، وفق وكالة اللجوء التابعة للاتحاد.
ويقول الخبير الحقوقي فايز الزعبي -في حديث للجزيرة نت- إن خيار الهجرة لن ينتهي، وطالما استمرت الأوضاع في سوريا على هذا النحو من الرعب والهشاشة الاقتصادية فسيستمر تدفق المهاجرين وسيبقون عرضة لانتهاك حقوقهم على يد تجار ومهربي البشر ولمخاطر متعددة كسوء معاملة حرس الحدود على الشواطئ التي يصلون إليها.
أوضاع صعبة وخيارات محدودة
وتظهر بيانات مسح أجرته المنظمة الدولية للهجرة لأكثر من 16 ألف مهاجر في 7 بلدان أوروبية أن 73% من الذين تمت مقابلتهم قدموا مؤشرا واحدا على الأقل يدل على استغلالهم، في حين قال 37% إن لديهم تجربة شخصية تشير إلى وجود اتجار بالبشر أو ممارسة استغلالية تعرضوا لها أثناء رحلتهم عبر طريق البحر الأبيض المتوسط.
ومع ذلك، وفقا للمنظمة، لا يزال عدد كبير من المهاجرين يخاطرون بحياتهم عند عبورهم البحر في طريقهم إلى أوروبا، وغالبا ما يتحملون رحلات طويلة محفوفة بالمخاطر تقدم وقائعها أدلة متزايدة حول حجم ونطاق الاستغلال الذي يتعرضون له.
ويرى الزعبي أن معظم دوافع هجرة السوريين حاليا "تتجاوز مسألة بطش آلة النظام الأمنية والعسكرية" ويعود أغلبها لأسباب اقتصادية ومعيشية، فمعظم المهاجرين في الوقت الراهن من المناطق التي يسيطر عليها الأسد ضربهم الفقر وأصاب مجتمعات النازحين في الداخل واستنزف مصادرهم المالية، ولم يبق أمام الجميع سوى خيارات صعبة وبعضها مأساوي.
من الهرب على ظهر الدواب إلى شبكات عابرة للحدود
يرجع متابعون بدء أنشطة تجارة وتهريب السوريين إلى خارج الحدود، إلى فترة حكم الرئيس حافظ الأسد (1970-2000)، وهي الفترة التي اتفق محللون على أن "البلاد تحولت إلى دولة بوليسية وعانت فيها من حكم فردي اختفت فيه مظاهر الحياة السياسية والبرلمانية والتشاركية".
وفي حديثها للجزيرة نت، تحكي زوجة معارض سوري لجأ في عام 1980 إلى لبنان وتوفي قبل سنوات، أن زوجها استعان بأدلاء من البدو نقلوه إلى بلدة متاخمة للحدود السورية اللبنانية على ظهر دابة حملته عدة كيلومترات تحت جنح الظلام، ولم يتقاض غير مبلغ زهيد قياسا على أجور اليوم.
وتابعت كانت الرحلة شاقة لعدم توفر آليات نقل حديثة آنذاك، كالسيارات والدراجات النارية التي تساعد حاليا في تهريب اللاجئين عبر المنافذ ذاتها.
وهرب بالطريقة نفسها -على خلفية مطاردة أجهزة المخابرات لهم- مئات السوريين من مدن حمص وحماة ودمشق في مطلع الثمانينيات إلى لبنان والأردن والعراق.
وشهد العقدان الأخيران تطورا تدريجيا في عمل "المهرب الدليل"، كما تطورت طريقة الرحلة وأدواتها، بعد أن انضم ألوف من المتظاهرين ضد حكم الرئيس بشار الأسد في منتصف عام 2011 إلى قائمة المطلوبين على لوائح أجهزة المخابرات، وخضع تهريب السوريين لشبكات تهريب عابرة للحدود منظمة ومعقدة تضم مئات المهربين.
وتقول الشرطة الإسبانية إنها وبالتعاون مع يوروبول والشرطة الفدرالية الألمانية فككت العام الماضي البنية اللوجستية لواحدة من تلك الشبكات كانت متخصصة بتهريب السوريين مقابل 20 ألف يورو تقريبا للشخص الواحد.
ويفيد بيان الشرطة بأن التحقيقات مع العناصر المقبوض عليهم دلت على تعاون الشبكة مع منظمات في دول أخرى، وكانت تتلقى أموالا من خلال "حوالات" مكنتها من جني نحو 2.5 مليون يورو.
وتوصلت التحقيقات إلى أن طريق الرحلة يبدأ من لبنان، حيث يسافر السوريون من مطار بيروت إلى مطار القاهرة مقابل 4 آلاف يورو، ثم يعبرون برا إلى ليبيا وتونس والجزائر، مقابل 3500 يورو، وينقلون لاحقا في قوارب إلى الساحل الإسباني مقابل 10 آلاف يورو.
وبمجرد وصولهم إلى إسبانيا، يعبر المهاجرون بالسيارة إلى مدريد ويختبئون في ظروف مزرية مقابل 250 يورو في الأسبوع، وبمجرد حصولهم على الوثائق، سيتمكنون من مغادرة إسبانيا إلى ألمانيا أو النرويج مقابل 1000 إلى 2000 يورو.
وتتراوح تكلفة الرحلة من الأراضي السورية إلى الداخل التركي بحسب متابعين نحو 5 آلاف دولار أو أكثر أحيانا، بينما تكلف الرحلة بحرا من تركيا إلى اليونان نحو 15 ألف يورو.
وفرضت وزارة الخزانة الأميركية في فترة سابقة، عقوبات على المواطن السوري ناصيف بركات المقيم في مدينة حمص، وسط سوريا، على خلفية إدارته شبكة عالمية من مهربين محترفين يقومون بتهريب البشر بصورة "غير مشروعة" إلى الولايات المتحدة، ويتقاضون مبلغا يتجاوز 20 ألف دولار للشخص الواحد.
ووصفت الوزارة الشبكة بأنها منظمة إجرامية عابرة للحدود، وأن مالكها يقيم في سوريا، ويشغل شبكة عالمية من مهربي البشر، بالإضافة إلى تورطه في عمليات رشوة لتسهيل هذه الأعمال.
وتجري عمليات التهريب عبر منح الأشخاص الراغبين بالسفر وثائق مزورة تشمل جوازات سفر أوروبية، وغالبا ما يسافرون عبر لبنان أو تركيا أو الإمارات أو دول أميركا الجنوبية، وفق بيان الوزارة.
ادفع وسوف ننقلك لقبرص
ويرى زاهر (18 عاما) نفسه من بين الشباب المحظوظين، ويقول إنه عاش لحظات ظن فيها أنه لن يتمكن من الوصول إلى قبرص بعد أن ضربت الأمواج القارب الذي كان على متنه مع مجموعة من الشباب المتخلفين عن أداء الخدمة العسكرية.
غادر زاهر ساحل مدينة طرطوس سرا رفقة 20 مهاجرا شابا من مختلف المحافظات على متن قارب خشبي باتجاه سواحل قبرص، وهي الوجهة البحرية الأقرب بالنسبة لمهربي البشر المحليين.
ووصف في حديث للجزيرة نت بلاده "بالمكان السيئ حيث لم تعد مكانا صالحا للحياة، وخاصة بالنسبة للشباب الذين يتعرضون اليوم لضغوط أمنية ومعيشية في آن واحد، بسبب إلزامية الخدمة العسكرية وضعف سوق العمل، وقلة الواردات المالية والافتقار لأساسيات الحياة".
وأضاف "اتفقت مع أحد المهربين الذين يديرون شبكة منظمة للتهريب في الساحل السوري عبر خدمة الواتساب، وهي وسيلة الاتصال الوحيدة التي كانت بيننا، وطلب أجرا مرتفعا لكنه وافق في النهاية على مبلغ 5 آلاف دولار.. كان القارب يضم نحو 20 شابا، أعتقد أن معظمهم هربوا من أداء الخدمة العسكرية، بينما كان الآخرون يبحثون عن مستقبل كريم خارج بلادهم".
ونفى زاهر علمه بوجود علاقة تربط شبكات التهريب المحلية بمتنفذين داخل سلطة الأسد، لكنه وصف انطلاق المركب من ساحل مدينة طرطوس بالمريح، نظرا لعدم وجود إجراءات نقل قاسية كالتي حدثه عنها بعض أقربائه ممن عبروا إلى اليونان من سواحل تركيا الغربية.
واستقبلت قبرص عشرات القوارب التي تحمل على متنها مئات اللاجئين السوريين، خلال الأشهر الأولى من العام الجاري، بحسب مصدر حكومي قبرصي.
وقالت مسؤولة السياسات في المركز الأوروبي لإدارة التنمية أماندا بيسونج "سيجد الناس دائما طريقة للتحرك، وعندما يتم حظر جميع الطرق المعروفة يظهر طريق آخر في مكان ما وتزداد الأعداد مرة أخرى، ومع كل هذه الإجراءات فإنك تدفع الناس إلى استخدام طرق أكثر خطورة".
تعدد المنافذ وشبكات منظمة
وتشير دراسة أعدها المركز الدولي لتطوير سياسات الهجرة، إلى ان السوريين اتبعوا طرقا محددة للهروب من بلادهم، طلبا للملجأ الآمن في الخارج. وتطلّب ذلك منهم السفر من مناطق سكنهم إلى الحدود مع تركيا ولبنان والأردن والعراق.
وتذكر الدراسة أن الحاجة إلى تجنب نقاط التفتيش دفعتهم لطلب المساعدة من مجموعات البدو السورية من أجل تسهيل رحلتهم، حيث كان يجري نقلهم في شاحنات عبر الصحراء من قرية بدوية لأخرى. ومع تغير خطوط المعارك تزداد المخاطر على السائقين والركاب، ويستغل المرشدون الذين يقدمون معلومات عن طرق الهجرة غير النظامية الأكثر أمنا هذه الحالة، لطلب المزيد من الأموال.
وتستدل الدراسة على أن تجار البشر أصبحوا أكثر قوة وثراء بعد إنشائهم شبكات منظمة ومعقدة تضم في جميع الحالات تقريبا أعضاء من تركيا والبلدان الأصلية للأشخاص المتاجر بهم، وعددا من المسهلين ممن يقومون بنقل الضحايا ويعملون كوسطاء، وبعضهم أصحاب فنادق. وقد تعرفوا على الإطار القانوني من أجل إمكانية تجنب الملاحقة القضائية.
واعتبرت الدراسة الطرق القانونية التقييدية لدخول الاتحاد الأوروبي من العوامل التي زادت من سوء أحوال اللاجئين السوريين وعرضتهم للاتجار، فضلا عن تعرضهم لانتهاكات حقوق الإنسان على يد مهربي البشر.
وعوضا عن منح اللاجئين حقوقهم وتوفير التوطين لهم، قامت دول الاتحاد بتطبيق المزيد من الإجراءات التقييدية لحماية حدودها، والمفارقة، يملك اللاجئون السوريون الحق في طلب الاعتراف بهم كلاجئين وفقا لاتفاقيات الاتحاد الأوروبي ولكن لا يحق لهم دخول دوله بشكل نظامي.
من جهة أخرى، نقلت مؤسسة شاتام هاوس البحثية البريطانية معلومات ميدانية تكشف وجود عشرات المعابر غير القانونية بين سوريا ولبنان، تهيمن عليها شبكات تهريب محلية، وأبرز طرق التهريب الرئيسية تلك التي تجري عبر مسالك في ريف حمص، وتتميز بسهولة عبورها بواسطة "الحافلات أو السيارات، وأحيانا الدراجات النارية".
ولاحظ التحقيق الذي أجرته المؤسسة، أنه كثيرا ما تغض قوات الأمن والقوات العسكرية التابعة للنظام السوري وكذلك حزب الله، الطرف عن هذا النوع من التهريب، ويرضون بالرسوم التي يدفعها لهم المهربون، إذ تتراوح التكلفة بين 100 و150 دولارا للشخص، بينما تدفع العائلات رسوما أقل من ذلك.
وتؤكد المؤسسة "إمكانية تهريب أي شخص عبر الحدود إذا دفع السعر المناسب، بصرف النظر عن مدى معارضته للنظام السوري أو حزب الله أو عن الجريمة التي ربما يكون ارتكبها".
أما بالنسبة للأردن، فقد عزز من انتشار قواته على الحدود مع سوريا في إطار مكافحته لعمليات تهريب المخدرات، وتراجع تهريب السوريين إلى أراضيه على نحو واضح، بخلاف فترة السنوات الخمس الأولى من الصراع، حيث شهدت حدوده تدفقات هائلة هربت من القصف العشوائي الذي تعرضت له مدينة درعا وريفها على يد قوات الأسد.
وبخلاف حركة اللجوء التي تشهدها مناطق أخرى، تعتبر الحدود العراقية الأكثر هدوءا، نظرا لاعتبارها منطقة عمليات عسكرية، وتتقاسم السيطرة عليها قوات 4 جهات (الحكم الذاتي والأميركيون وجيش النظام وفصائل محلية).
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!