ياسين أقطاي - يني شفق
التمسك بالأفكار النمطية، والتحدث بالشعارات، والاقتصار على إطار ضيق للأيديولوجية، هو سمة الناس العاديين. أما السياسيون الذين يتمثل عملهم بالتلاعب بالناس وتوجيههم وإخضاعهم للطاعة، لتحقيق مصالحهم الخاصة، فلا يُوصلون رسائلهم من خلال تحفيز الأفكار وتشجيع التفكير وتطبيقه. فالتطور الحر للفكر وبلوغه أقصى حدوده الممكنة لا يخدم مصالحهم على الإطلاق. فلا تُعتبر الفكرة مقبولة وصحيحة ومشروعة إلا إذا قادت إلى النتيجة التي يريدونها. أما الأفكار التي لا تقودهم إلى ما يرغبون فيه ولا تجعل الجماهير تطيعهم كالخرفان فلا قيمة لها عندهم.
في بعض الأحيان، يَظهر بعض السفسطائيين الذين يلعبون دور المفكرين الكئيبين، وعندما يجمعون ما يكفي من المؤيدين، يربطون أفكارهم بشعارات ونمطيات وأيديولوجيات سياسية محددة. ويقومون بمهارة واحترافية بمهمة جعل الجماهير خاضعين للسياسيين الدهاة. لا شكّ أنّ بعضَ هؤلاءِ يقومون بذلك عن إيمان منهم، دون أن يُدركوا تمامًا معنى ما يفعلون، أو فائدة أفعالهم. إن عجزهم عن رؤية كيف أن ادعاءاتهم "التاريخية" الكبيرة هي نتاج لمرحلة تاريخية محددة، يمثل حالة من المأساة الكوميدية لا تعد فريدة من نوعها. إنها ليست سوى حالة من الغفلة والضلال التي تتكرر عبر التاريخ باستمرار.
لطالما كانت نقاشات الشريعة في تركيا مجالًا لا يسمح بأي تعمق في الفكر أو المعرفة أو الحكمة، بل يقتصر على ترديد الشعارات فقط. ففي هذ الدولة قام من ألغوا الشريعة الإسلامية بفرض شريعتهم الخاصة بدلاً منها، وابتكروا صورة نمطية مشوهة للشريعة حملوا عليها كل الشرور لتبرير أفعالهم. وقولنا بأنهم فرضوا "شريعتهم الخاصة" هو مجرد تعبيرٍ مجازي، فشريعة هؤلاء ليست سوى مزيج مستورد من المسيحية السويسرية، وروما القديمة، ومن هنا وهناك، دون فهم أو معرفة. لقد ابتكروا شريعة لا تتوافق مع تاريخ المسلم التركي ولا مع عاداته ولا بنيتهِ الاجتماعية، وحكموا بها هذا البلد لمدة مائة عام. هذه الشريعة كما وصفها مؤخرًا وحيد الدين إينجه على موقع tezkire.net، ليست سوى نسخة معدلة من الشريعة البدوية الغربيية لتتناسب في هذا البلد.
هناك حقيقة أساسية يتجاهلها أو يغفل عنها أولئك الذين يزعمون هذه الأيام أن الشريعة الإسلامية هي سبب كل المصائب التي حلت بنا باسم الدين أو باسم جميع العمليات السياسية، وهي أنه لم يعد هناك أي أثر للشريعة الإسلامية في هذا البلد منذ مئة عام على الأقل.
لا شك أن ربط الشريعة بالإسلام أمر لا يمكن إقامته دون بعض الشرح. الشريعة هي سمة من سمات الإسلام. فلا إسلام بدون شريعة. كما لا يمكن أن تكون هناك يهودية بدون شريعة، أو مسيحية بدون شريعة، أو أي دين أو أيديولوجية سياسية بدون شريعة. وبالمثل لا وجود للكمالية بدون شريعة، وهناك شريعة كمالية مطبقة في هذا البلد منذ قرن. كما أنّ هناك شريعة بدوية غربية سائدة في هذا العالم منذ قرنين. وبعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى ضدّ الغرب ألغت هذه الشريعةُ البدوية الشريعةَ الإسلامية وحلت محلها. وبطريقة أو بأخرى يُحكَم العالم الإسلامي اليوم بالشريعة البدوية الغربية. ولا يحق لأحد إلقاء اللوم على الشريعة الإسلامية في أي سلبيات يعاني منها. فمن يفعل ذلك إنّما يهدف إلى تعزيز وتبرير والحفاظ على على استمرار شريعة تخدم مصالح الإمبريالية.
إن الحالة التي وصلنا إليها اليوم بسبب الشريعة الغربية واضحة للجميع، فقد أدت إلى اندلاع حربين عالميتين كبيرتين راح ضحيتمها عدد هائل من الناس يفوق مجموع ضحايا جميع الحروب في تاريخ البشرية، وذلك بأبشع الطرق وأكثرها وحشية وهمجية. كم من شعب تعرض للإبادة الجماعية، وكم من حضارة طويت صفحة تاريخها، على يد الشريعة البدوية الغربية التي شريعتنا ليست سوى فرعٍ منها. وكأن ذلك لم يكن كافياً، فهي تواصل إبادة التاريخ والمعرفة لمنع الحضارات المدفونة من النهوض من جديد، وذلك من خلال الاستشراق، والتأريخ، والعلم، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، والتنمية، والحداثة. وكل هذا يتم بمساعدة العملاء المحليين الذين يخدمونها بأقصى درجات الولاء.
إن من لا يدرك أنّ الشرط الأساسي لصحة ووجود الشريعة الإسلامية كقانون هو وجود هيئة سياسية وقوة وسلطة، هل يمكن أن يطلق عليه عالم دين أو عالم سياسة أو عالم اجتماع؟ قد تُسبب بعض الدول التي تُدرج الشريعة الإسلامية في دساتيرها، بينما تسعى جاهدة في الوقت نفسه إلى قمع أي من مظاهر الإسلام، حالةً من الحيرة والارتباك. ففي محاولة لتبريرِ الاعتداءات على الشريعة التي تم اغتيالها،يُقال: "انظروا إلى حال الدولِ التي تحكمُ بالشريعة". وكأن هذه الدول تُمثل نموذجاً يُحتذى به. هل من الصعب إدراك أن النخب الحاكمة في تلك الدول هم في الحقيقة متعاونون ومتواطئون مع الغربيين البدو في النهب؟
يقال: إن المسلمين لا يستطيعون الاتفاق فيما بينهم، وأن هناك خلافات كثيرة حول الشريعة، وأنّ وجود العديد من المذاهب الإسلامية يُثبت أن الشريعة لم تعد سارية المفعول، لمن تُروى هذه الخزعبلات؟ هل هناك مجتمع إنساني يخلو من الخلاف؟ أي قانون أو دستور لم يكن محل نقاش؟ لقد ألغيت الشريعة، فهل كانت الشرائع التي حلت محلها اليوم خالية من أيّ خلاف أو نقاش أو فساد؟ هل هي قوانين مثالية ومتفق عليها؟ ألم يُدركوا أنه في ظل وجود سلطة سياسية إسلامية تجعل تطبيق الشريعة أمراً ممكناً فإن الخلافات والاختلافات والاجتهادات هي جزءٌ لا يتجزأ من الشريعة الإسلامية. إن انتشار الجهلاء الذين يزعمون أنّهم علماء دين وفلاسفة وعلماء اجتماع، دون أن يفهموا أو يدركوا أن القوة والسلطة السياسية هما من يُبعدان القوانين والمعرفة عن الخلافات ويحققان التوافق إلى حد ما، هو في الواقع علامة على دق أجراس الخطر لبعض الأطراف.
لقد جندوا كل من يستطيعون من دعاة، وسعوا جاهدين للحفاظ على شريعتهم التي لم تجلب للبشرية سوى الكذب والخداع والفساد والمحن والكوارث على مدار قرن من الزمان.
إنهم يحاولون تحميل الشريعة الإسلامية مسؤولية كل الدمار الذي تسببوا فيه والعالم الذي جعلوه غير صالح للعيش. وكأن الشريعة الإسلامية هي التي حكمت طوال هذا القرن، ولم تتمكن من مواكبة العصر ولا مسار الزمن، وكأنّها أصبحت متخلفة عن التاريخ، ولديها العديد من الجوانب التي لا تتوافق مع العلم والعقل وعلم الاجتماع المتطور، والآن إذا وضعناها على الطاولة وقمنا بإصلاحها بشكل جيد، فسيتم حل جميع المشكلات.
إذا نظرتم إلى الأمر من زاوية ما، ستجدونه غباءً، ومن زاوية أخرى ستجدونه مكرًا وخبثًا، ومن زاوية ثالثة ستجدونه خيانة.
لِنُذكِّرْ أولئك الذين يبحثون عن الحقيقة، لا الحمقى والخونة، بحقيقة بسيطة: لم يتم إقصاء الشريعة الإسلامية لأنها لم تتمكن من مواكبة العصر، بل لأن العالم الإسلامي قد هُزم أمام "البدوية الغربية" قبل 106 سنوات. لم تُطبق تلك الشريعة منذ ذلك الحين ولا اليوم، ولم تُجرَ الاجتهادات اللازمة لتطبيقها في هذا العصر. لا علاقة للشريعة الإسلامية التي لم تعد تطبق عملياً بأي من السلبيات التي شاهدناها سابقا ونشهدها اليوم. قد يكون لتَذَكُّر الشريعة الإسلامية أحيانًا في عالمهم المنهار الذي نهبوه ودمروه بوحشية وهمجية، معنى طقوسي في شريعتهم الخاصة. لكن لا يمكن لأي طقوس إنقاذ عالمهم المفلس بعد الآن.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس