د. سمير صالحة - أساس ميديا

يعتبر “حزب العدالة والتنمية” التركي الذي ولد في منتصف آب 2001، من أكبر أحزاب أوروبا والمنطقة. تسلّم السلطة منفرداً في البلاد بعد عام واحد من انطلاقته. وهو رقم قياسي وحلم الكثير من الأحزاب والحركات السياسية التي تطمح للوصول إلى السلطة.

زاد من شعبيّته بعد سنوات ونجح في انتخاب رئيس جديد لتركيا من قيادات الحزب هو عبد الله غل. ثمّ واصل تفرّده وصعوده الحزبي والسياسي مع رجب طيب إردوغان الذي قاد عملية تغيير شكل النظام من برلماني إلى رئاسي قبل 7 سنوات وجمع بين قيادته لتركيا والبقاء على رأس حزبه حتى اليوم… بعد 23 عاماً، يقترب خطر حزب “الشعب الجمهوري” الذي تقدّم أكثر من 6 نقاط عليه في استطلاعات الرأي الأخيرة. فهل شاخ الحزب؟ أم حان زمن التغيير على التوقيت التركي؟

رفع حزب “العدالة والتنمية” أكثر من شعار يجمع التجديد والتغيير والإصلاح في سياسات تركيا الداخلية والخارجية، وكان له أكثر ممّا أراد في العقد الأوّل من عمره:

– سحب ورقة الانقلابات العسكرية أو التلويح بها من يد البعض. وكان آخرها في صيف عام 2016 محاولة “الكيان الموازي” المتوغّل في المؤسّسة العسكرية الانقلاب على السلطات السياسية، فأفشلها توحّد الشارع التركي في مواجهة المحاولة بعد رسالة إردوغان الصوتية ودعوة الجماهير إلى النزول إلى الساحات.

– سجّل في تاريخ حكمه إنجاز العديد من المشاريع الإنمائية والخدماتية العملاقة، بينها عشرات الجسور والأنفاق والمطارات والبنى التحتية.

 – حقّق حلم رفع مستوى دخل الفرد وأرقام التجارة الخارجية وقطاعات الصناعة والحركة المصرفية إلى أرقام خيالية. وهو ما أبقى تركيا أمام طاولة الدول العشرين على الرغم من كلّ أزماتها.

 – قدّم الحلول السياسية والاجتماعية للعديد من أزمات تركيا الداخلية، إلى جانب توسيع رقعة نفوذ تركيا وتمدّدها الخارجي باتّجاه أكثر من دولة وبقعة جغرافية تحمل الأهمّية الاستراتيجية بالنسبة لأنقرة.

تغيير الشّعار التّاريخيّ.. والجمهوريّ يسبقه

رفع حزب العدالة عند الانطلاق شعار “لن تبقى الأمور على ما كانت عليه في السابق”. أمّا شعاره الجديد بعد مرور 23 عاماً على التأسيس فهو التالي: “حزب العدالة هو مركز القرار والمستقبل والأمل في تركيا”.

لكنّ هناك ما يقلقه حتماً، فأرقام آخر استطلاعات الرأي التي نشرت في الأسبوعين المنصرمين تشير إلى تقدّم حزب “الشعب الجمهوري” المعارض على حزب “العدالة والتنمية” بفارق 6 أو 7 نقاط في حال إجراء انتخابات مبكرة في البلاد.

لا تعني هذه الأرقام بالضرورة أنّ تحالف المعارضة أقوى من تحالف الجمهور، ولا تعني أنّ أصوات إردوغان كرئيس للدولة تراجعت لمصلحة أيّ مرشّح تعلنه المعارضة. لكنّ ما يقلق إردوغان وحزبه هو احتمال الفشل في الالتفاف على أكثر من أزمة داخلية. وهو ما قد يزيد الفارق في الأصوات لمصلحة حزب الشعب ويعرّض أحلامهما وخططهما للتراجع وخيبة الأمل.

هل لدى حزب إردوغان خطّة للمواجهة؟

ما الذي يعدّ له حزب العدالة في المرحلة المقبلة للالتفاف على خطط المعارضة وجهودها لدفعه نحو انتخابات برلمانية ورئاسية مبكرة، مستقوية بما تقوله شركات استطلاعات الرأي وتراجع أرقام الاقتصاد؟ هناك أكثر من إجابة:

 – الرهان على وزير المالية محمد شيمشاك أن يسجّل اختراقاً باتّجاه إخراج البلاد من ورطة الأزمة الاقتصادية والمعيشية التي تعيشها قبل نهاية العام الحالي.

– الاستعداد لطرح دستور عصري جديد. أصوات “تحالف الجمهور” تحت سقف البرلمان لا تسهّل له ذلك. الحديث يدور عن “الترانسفير” البرلماني والاستعانة ببرلمانيين من حزب المستقبل والحزب الجيّد وبعض المستقلّين لبلوغ العدد 367 صوتاً.

– لعب ورقة استقدام مليارات الدولارات والاستثمارات الخارجية لتسهيل المرحلة الانتقالية في الأسواق التركية، ومواصلة تحسين وضع الليرة وتخفيض قيمة الفوائد المصرفية ومحاصرة ارتفاع سعر الدولار.

– تسريع المشاريع الإنمائية والممرّات التجارية الإقليمية وتفعيل خطوط نقل الطاقة بين آسيا وأوروبا على الرغم من الوضع الإقليمي المتأزّم.

هل هو جاهز لتنازلات أمام دولت بهشلي؟

هدف إردوغان وحزبه في القريب العاجل هو البحث عن فرص سدّ الفجوة المعلنة في أرقام شركات استطلاعات الرأي التي تجعل من حزب الشعب الجمهوري المعارض متقدّماً عليه. حتى لو كانت شعبية إردوغان محصّنة وكأنّ هو المعنيّ هنا، فضغوطات الأزمات الاقتصادية والمعيشية وأرقام البطالة الأخيرة التي عادت للارتفاع، قد لا تبقي المشهد على ما هو عليه بالنسبة لإردوغان وحزبه. كما أنّ الرهان على شريكه دولت بهشلي قد يعني تقديم المزيد من التنازلات الحزبية والسياسية للبقاء في الحكم. فهل هو جاهز لمغامرة من هذا النوع بعد أكثر من عقدين على التفرّد في السلطة؟

فشلت أحزاب المعارضة في تسجيل انتصار سياسي إبّان الانتخابات البرلمانية والرئاسية الأخيرة. حقّقت ما تريد في آذار الماضي خلال معركة الانتخابات المحلية. شعبية الرئيس التركي على حالها، لكنّ شعبية حزبه في تراجع دائم لمصلحة حزب الشعب الجمهوري. لذا تتّجه الأنظار نحو سيناريوهين:

– الأوّل تعوّل عليه قوى المعارضة، وهو تراجع شعبية إردوغان بعد تراجع أصوات حزبه ودفعه مبكراً نحو الصناديق.

– الثاني يريده حزب العدالة، وهو استرداد ما فقده من شعبية في العامين الأخيرين. ويواصل بذلك طريقه للسنوات الأربع المقبلة.

قال إردوغان خلال مشاركته في احتفالات الذكرى السنوية الـ 21 لتأسيس حزب العدالة إنّ “تركيا تبني رؤيتها لعام 2023 باتّجاه أن تصبح واحدة من أكبر الدول سياسياً واقتصادياً”. تحتاج رؤية الأعوام المقبلة أوّلاً إلى إخراج تركيا من أزماتها الاقتصادية والمعيشية والغلاء والتضخّم والبطالة، ومحاولة إعداد دستور تركي عصري جديد. الوقت حتى موعد 2028 تاريخ الانتخابات البرلمانية والرئاسية ما زال بعيداً. لكنّ المعارضة وصعودها المتواصل عقبة حقيقية في طريق إردوغان وحزبه.

نجح حزب العدالة في مراجعة سياساته الخارجية وغابت صور الاصطفافات والمواجهات الإقليمية عن المشهد. حسّنت أنقرة من علاقاتها مع دول المنطقة، وتُوّج ذلك بصفحة جديدة من التعاون. لكنّ الحديث عن النموذج الإقليمي لم يعد بمثل هذه البساطة نتيجة الأزمات التي يواجهها الداخل التركي. كيف سيعيد حزب العدالة لتركيا ما قدّمه لها قبل عقد ونيّف من صعود ورفاهية؟

يُبرز إردوغان وحزبه الجوانب الإيجابية في الخطط والإنجازات التي تحقّقت في مجال التصنيع العسكري والتكنولوجيا المتطوّرة وإطلاق السيارة التركية الوطنية “فوغ”. كما أنّ المواطن التركي ما زال يثق بقدرات حزب العدالة بالمقارنة مع معارضة تركية مشرذمة سقطت أمام أوّل امتحان انتخابي لها قبل عام. لكنّ ما ينتظر إردوغان وحزبه يحمل الكثير من المخاطرة والمغامرة أيضاً، فهناك:

– تزايد شعبية حزب “الشعب الجمهوري” الذي أبعد كمال كليتشدار أوغلو واستبدله بقياديّ جديد شابّ وطموح هو أوزغور أوزال.

– الفوز الكبير الذي حقّقه حزب الشعب الجمهوري في آخر انتخابات محلّية جرت قبل 5 أشهر بعدما احتفظ برئاسة بلديّات المدن التركية الكبرى وأضاف إليها بلديّات جديدة على حساب حزب العدالة.

– عدم وصول خطّة الإصلاح الاقتصادي والماليّ التي يقودها الوزير محمد شيمشاك القادم من خارج الحكم إلى أيّ تغيير حقيقي في أرقام التضخّم والغلاء والبطالة حتى اليوم، على الرغم من أنّ إردوغان يعوّل عليه لقلب المشهد القائم وإخراج البلاد من أزماتها نتيجة خطط وبرامج اقتصادية وماليّة خاطئة واكبها الكثير من المواقف والقرارات السياسية الخارجية المكلفة.

– هذا إلى جانب تحدٍّ صعب آخر، وهو كسب شريحة الشباب التي لها رؤيتها وتطلّعاتها وأحلامها المغايرة والتي صوّتت بنسبة كبيرة لقوى المعارضة في الانتخابات الأخيرة.

أمضى حزب العدالة والتنمية التركي 23 عاماً من الحكم منفرداً في إدارة شؤون البلاد. لكنّه منذ عام 2018 يستعين بتكتّل “تحالف الجمهور” وحزب “الحركة القومية” اليميني الذي يقف إلى جانبه تحت سقف البرلمان في القرارات السياسية الداخلية والخارجية الصعبة، من دون أن يكون شريكاً في السلطة ويتحمّل المسؤوليات والمساءلة المباشرة. أصوات كتلته البرلمانية لم تعد قادرة لوحدها على تمرير القوانين واتّخاذ القرارات.

يذكّر حزب العدالة والتنمية بالإنجازات الكبيرة والمشاريع العملاقة التي وضعها بتصرّف الشعب التركي في العقدين الأخيرين، وهذا من حقّه، لكنّ المواطن التركي يلتفت باتجاه الوضع الاقتصادي والمعيشي الصعب القائم اليوم، وهذا من حقّه.

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس