ترك برس
غاب الحديث نسبياً عن التطبيع بين أنقرة ودمشق، في التصريحات الرسمية والنقاش الإعلامي لدى البلدين، ما دفع مراقبين للتساؤل عما إذا كان قطار التطبيع يواصل مسيره أم تباطأ وتراجع زخمه.
وملف تطبيع العلاقات بين تركيا والنظام السوري محاط بكثير من العراقيل والعقبات التي تشير إلى ضرورة خوض جولات طويلة بين الجانبين للتوصل إلى نتائج تدفع هذا المسار نحو الأمام، خصوصا في وقت تعيد فيه أنقرة رفع سقفها التفاوضي عبر التأكيد على شروطها الثابتة، وهي "دستور جديد، إجراء انتخابات، وتأمين الحدود"، بحسب تقرير لـ "عربي 21".
جاء ذلك التأكيد على لسان وزير الدفاع التركي يشار غولر في حديثه له مع وكالة "رويترز" تطرق خلاله إلى ملف تطبيع العلاقات بين أنقرة ونظام بشار الأسد، والذي عاد إلى واجهة المشهد السياسي التركي بقوة خلال الشهرين الأخيرين بعدما دخل العام الماضي في مرحلة من الجمود.
وقال غولر في حديثه الاثنين الماضي، إن "أنقرة لا يمكن أن تناقش التنسيق بشأن انسحاب (قواتها) من سوريا إلا بعد الاتفاق على دستور جديد وإجراء انتخابات وتأمين الحدود".
وتعيد تصريحات غولر التأكيد على موقف تركيا من ضرورة التوصل إلى حلول جذرية للأزمة السورية التي بدأت مع قمع النظام السوري للاحتجاجات الشعبية عام 2011 بوحشية، بما في ذلك السعي إلى تحقيق استقرار سياسي في سوريا.
وتعد مسألة انسحاب القوات التركية من شمال سوريا أحد أبرز العقبات أمام مسار التقارب، حيث تشبث الأسد لفترة طويل بضرورة سحب أنقرة لقواتها من الأراضي السورية قبل الجلوس إلى طاولة المفاوضات، قبل أن يبدأ بإظهار بوادر إيجابية خلال تصريحاته الأخيرة، معبرا عن انفتاحه للمبادرات التي تستند على مبدأ وحدة الأراضي السورية.
وذلك مع وضع روسيا، حليفة النظام السوري، ثقلها في ملف التطبيع عبر لعب دور الوسيط بين الأتراك وبشار الأسد، ودفع الأخير إلى التقدم في هذا المسار.
والشهر الماضي، تحدث الرئيس التركي رجب أردوغان عن إمكانية استئناف العلاقات مع نظام الأسد ورفعها إلى المستوى العائلي، كما كان الحال عليه قبل الثورة السورية.
ودعا أردوغان، الأسد إلى اللقاء في تركيا أو بلد ثالث، وأوضح أن وزير خارجيته هاكان فيدان "يقوم حاليا بتحديد خارطة الطريق من خلال محادثاته مع نظرائه".
في المقابل، قال الأسد في تصريحات صحفية بالعاصمة السورية دمشق، حول مبادرة أردوغان: "نحن إيجابيون تجاه أي مبادرة، لكن هذا لا يعني أن نذهب دون مرجعية وقواعد عمل لكي ننجح، لأنه إن لم ننجح فستصبح العلاقات أسوأ".
ويأتي الحديث الأخير لوزير الدفاع التركي بعد سلسلة من التصريحات التي أدلى بها وزير الخارجية هاكان فيدان حول مساعي بلاده ونهجها في ما يتعلق بملف التطبيع مع بشار الأسد، والذي أكد خلالها غير مرة رفض بلاده لاستخدام أوراق الشروط المسبقة على طاولة المفاوضات قبل الجلوس إليها.
وقال فيدان سابقا إنه عندما يقال إن على "الجنود الأتراك أن ينسحبوا" أقول: "لا بد من إجراء مفاوضات من أجل ذلك".
وأضاف الوزير في معرض حديثه عن ضرورة عدم قدوم أي طرف إلى طاولة التفاوض بشروط مسبقة: "خذوا (يقصد النظام السوري) لاجئيكم ودمروا الإرهابيين في أرضكم وأنا سآخذ جنودي، ودعنا نرى العلامات التي تشير إلى أنك ستنشئ هيكلا إداريا لن يرسل لي لاجئين مرة أخرى ولن يشكل تهديدا أمنيا".
وعلق فيدان على هذا الطرح الذي يمكن أن تواجه به أنقرة النظام السوري في حال جاء إليها محملا بشروط مسبقة: "عندما يتم طرح الشروط.. لدي المزيد من الشروط".
"تأكيد للمؤكد"
في حديثه عن دلالات حديث غولر وتلويحه بشروط أنقرة مقابل تصريحات فيدان الداعية لضرورة الجلوس إلى الطاولة قبل أي شيء، يوضح الباحث في الشأن التركي محمود علوش، أن "تصريحات وزير الدفاع التركي الأخيرة هي تأكيد للمؤكد في ما يتعلق بالموقف التركي من هذه المرحلة بالتحديد خصوصا أن أنقرة سبق أن عبرت بوضوح عن أن أهداف سياستها الجديدة في سوريا منذ الانعطاف في حوار مع دمشق هو الدفع باتجاه الحل وإعادة اللاجئين السوريين تأمين الحدود والتعاون في مكافحة الإرهاب".
ويستدرك الباحث في حديثه لـ"عربي21": "لكن إعادة وزير الدفاع التركي التأكيد على هذا الموقف في هذا التوقيت مصمم لغرضين أساسيين، الأول هو الرد على السقف التفاوضي المرتفع الذي وضعه الأسد، بسقف تفاوضي مرتفع أيضا لتركيا".
و"ثانيا، إظهار أن الاندفاع التركي في التطبيع مع دمشق لن يكون على حساب الحاجة إلى توفر الظروف الأساسية والرئيسية الانسحاب من سوريا وهذه الظروف هي عبارة عن الشروط التي حددتها أنقرة على لسان وزير الدفاع".
في تصريحات مع "سكاي نيوز عربية" نهاية تموز/ يوليو الماضي، أوضح وزير الخارجية التركي أن مساعي بلاده من خلال تطبيع العلاقات مع النظام السوري تهدف إلى تأمين أمن الحدود ومكافحة الإرهاب وعودة اللاجئين السوريين بشكل آمن إلى بلادهم.
وشدد على أن "هناك خطوات يجب أن نتخذها في تركيا بالتعاون مع الدولة السورية، تشمل أمن الحدود، ومكافحة الإرهاب، بالإضافة إلى عودة اللاجئين بشكل آمن وحر".
الباحث التركي علي أسمر، يرى أن "الموقف التركي ثابت وواضح" في ما يتعلق بالتطبيع مع النظام السوري "سواء كان في تصريحات مسؤولي الحكومة التركية السابقة أم مسؤولي الحكومة الجديدة".
ويوضح في حديثه لـ"عربي21"، أن "كافة المسؤولين الأتراك أكدوا في مختلف المناسبات عدم انسحاب القوات التركية من شمال سوريا إلا في حال تحقق الاستقرار السياسي في سوريا".
لذلك، لا يرى أسمر "أي اختلاف أو تناقض" في تصريحات وزيري الدفاع والخارجية التركيين، ويؤكد أن "الكلام عن التطبيع مع النظام السوري مؤخرا هو بخصوص مكافحة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وليس بخصوص انسحاب تركيا من سوريا أو إعادة اللاجئين قسريا".
في السياق ذاته، يوضح علوش أيضا أن "تصريحات وزير الدفاع التركي لا تتعارض مع تصريحات وزير الخارجية أو حتى تصريحات الرئيس أردوغان".
ويكمل: "نحن أمام سياسة متماسكة إلى حد كبير في ما يتعلق بالموقف في سوريا وهذه السياسة يتم التعبير عنها على مستويات متعددة، وكل مستوى يلعب دور في تشكيل هذه السياسة".
"أولويتان لتركيا" في هذا المسار
شدد فيدان خلال تصريحاته مع "سكاي نيوز عربية"، على ضرورة "تطهير سوريا من الإرهاب، خاصة مناطق العرب المحتلة من قبل تنظيم بي كي كي (حزب العمال الكردستاني)"، مشيرا إلى أن "هناك منشآت نفطية استولى عليها التنظيم، ما يعني أن هناك منظمة إرهابية اغتصبت موارد الشعب السوري".
وكذلك نظام الأسد يؤكد على ضرورة "مكافحة الإرهاب" عبر مسار التقارب مع تركيا، إلا أن أنقرة تشير بذلك المصطلح إلى وحدات الحماية الكردية التي تهيمن على "قسد"، والتي تسيطر على مناطق شمال شرق سوريا "بدعم من حزب العمال الكردستاني"، المدرج على قوائم الإرهاب، فيما يقصد الأسد فصائل المعارضة السورية التي تدعمها تركيا شمال غرب البلاد.
أسمر، يلفت في هذا السياق إلى وجود "أولويتين لتركيا" من مساعيها للتطبيع مع نظام الأسد، مشيرا إلى أن كثيرين أخطأوا "في فهم الاستراتيجية التركية تجاه الملف السوري".
ويوضح في حديثه لـ"عربي21"، أن الأولوية التركية الأولى "هي هدف مهم وعاجل يتمثل في ضم النظام السوري إلى آلية مكافحة الإرهاب الثنائية التركية العراقية ضد حزب العمال الكردستاني".
والأولوية الثاني، بحسب الباحث التركي، هي "هدف استراتيجي مهم وغير عاجل، يتضمن انسحاب القوات التركية من سوريا بعد تحقيق الاستقرار السياسي عبر جلوس المعارضة مع النظام وكتابة دستور جديد وإقامة انتخابات نزيهة بإشراف الأمم المتحدة وهذا ما يضمن عودة اللاجئين وإعادة الإعمار".
وكانت تركيا كشفت سابقا على لسان وزير خارجيتها من موقفها تجاه المعارضة السورية شمال غرب سوريا في ظل التقارب مع نظام الأسد، مشددة على أن أنقرة لن تترك المعارضة السورية التي قاتلت بجانبها ضد "التنظيمات الإرهابية" منتصف الطريق، وأنها لا تفرض أيضا "أي شيء على المعارضة السورية، لكنها تقف ضد كل التنظيمات الإرهابية في الأراضي السورية".
وتتحرك تركيا على مسار التطبيق مدفوعة بعديد من الملفات الضاغطة على صانعي القرار التركي، أولها مكافحة وحدات الحماية الكردية التي تراها أنقرة امتدادا "للعمال الكردستاني" في سوريا، سيما أن عودة ملف التطبيع إلى الواجهة مجددا تتزامن مع إعلان "الإدارة الذاتية" عن عزمها عقد انتخابات محلية في مناطق نفوذها شمال شرق سوريا، قبل أن تتراجع عن ذلك تحت الضغوط التركية وتلويح أنقرة بورقة التدخل العسكري "لمنع إقامة دويلة إرهاب" على حدودها.
هل تراجع ملف التطبيع بالنسبة لتركيا؟
أصدرت صحف تركية معروفة خلال الشهر الماضي، العديد من التقارير حول تقدم المفاوضات بين تركيا ونظام الأسد، وذهبت هذه التقارير إلى الإشارة إلى عقد اجتماع بين أردوغان والأسد خلال شهر آب/ أغسطس الجاري.
وقالت كل من صحيفة "تركيا" و"ديلي صباح"، إنه من الممكن أن يشهد شهر آب/ أغسطس القادم لقاء بين الرئيس التركي وبشار الأسد، بعد ما يزيد على الـ12 عاما من القطيعة بين أنقرة ودمشق.
وفي حين رجحت صحيفة "تركيا" انعقاد اللقاء بالقرب من معبر كسب الحدودي بين البلدين، فقد تحدثت "ديلي صباح" عن لقاء متوقع في العاصمة الروسية بحضور الرئيس فلاديمير بوتين.
أما الصحفي والكاتب في صحيفة "حرييت"، فقال في معرض حديثه عن تقدم الملف، إنه "لا أحد يقول الآن إنه لن يكون هناك لقاء، فقط يتساءلون عن شروطه وأين سوف يكون".
وأوضح أن ثلاثة أماكن تبرز في هذا السياق، وهي العاصمة الروسية موسكو، والعاصمة العراقية بغداد، بالإضافة إلى بوابة كسب على الحدود التركية السورية.
ومع الزخم الذي حظي به ملف التطبيع مع الأسد في تركيا على الصعيدين الرسمي والإعلامي خلال الأشهر القليلة الماضي، إلا أن الملف لم يشهد أي تطورات كما أنه لم يحظ بالتناول المكثف ذاته خلال الأسبوعين الأخيرين.
علوش، يرى أن "هذه المواقف تشير إلى جمود في مشروع التطبيع بقدر ما تعكس الصعوبات التي تواجه عملية التطبيع"، لا سيما في وقت يسعى فيه كل طرف "إلى وضع سقف تفاوضي مرتفع قبل الجلوس على طاولة المفاوضات".
"في المحصلة.. إذا ما أرادت أنقرة ودمشق الوصول إلى نتائج في مشروع التطبيع سيتعين عليهما في نهاية المطاف التفاوض والتوصل إلى أرضية مشتركة تلبي تطلعات ومصالح الطرفين في هذه العملية"، وفقا لعلوش.
ويلفت الباحث في حديثه لـ"عربي21"، إلى أن "هذا الأمر مرهون بطبيعة الحال على المسار التفاوض الجديد المرتقب الذي يفترض أن يكون على مستويات أمنية واستخباراتية في الفترة المقبلة".
ويشدد على "عدم وجود تراجع في زخم مشروع التطبيع بقدر ما أن الظروف اللازم توفرها لتدشين مشروع التطبيع بين أنقرة ودمشق لم تنضج بعد".
وهذه الظروف، وفقا لعلوش، هي "عبارة عن مجموعة من المسارات، منها ما هو مرتبط بمسار التفاوض المباشر والحاجة إلى التفاهم على المبادئ العريضة لعملية التطبيع قبل تدشين هذا المشروع والانتقال إلى مستويات أخرى في عملية التطبيع".
و"منها ما هو مرتبط بمواقف القوى والأطراف الفاعلة المؤثرة والمتأثرة في هذه العملية لا سيما روسيا وإيران والولايات المتحدة الأمريكية"، يقول علوش.
أما أسمر، فيشير إلى أن "عملية التطبيع مع النظام السوري عملية مجمدة منذ سنوات، وما نشهده من كلام حول التطبيع من حين لآخر هو مناورات للضغط على الولايات المتحدة لكي تتحرك وتفهم الهواجس التركية ضد حزب العمال الكردستاني".
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!