ترك برس
زاد الاهتمام التركي مؤخراً بالانخراط بعمليات وساطة بين أطراف متنزاعة، آخرها كانت مباحثات التفاوض التي استضافتها أنقرة بين الصومال وإثيوبيا، الأمر الذي يثير تساؤلات حول أهداف وغايات الدبلوماسية التركية من عمليات الوساطة، وتأثيرها على معادلات الربح والخسارة التركية.
وعندما بدأت الحرب في غزة وبينما كانت المواقف تتالى من الشرق والغرب أبدى الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان استعداد بلاده للعب دور "الوساطة" وبالتوازي كان وزير خارجيته، حقان فيدان يعرض على الدول العربية والإسلامية ما وصفها آنذاك بـ"خطة الضامنين".
لكن حجم الهجوم الذي نفذته حركة حماس في السابع من أكتوبر وطبيعة الحرب التي بدأتها إسرائيل كانت كفيلة بأن تقطع الطريق أمام أي بادرة أو "عرض سلمي" لإيقاف دوامة العنف.
ما يزال العنف مستمرا حتى الآن ويحصد أرواح المدنيين، وباتت له أيضا ارتدادات تتعدى حدود قطاع غزة، لتصل إلى الدول المجاورة كلبنان، والبعيدة مثل إيران، متزعمة ما يعرف بـ"محور المقاومة".
ورغم أن العرض التركي لم يجد آذانا صاغية من الجانب الإسرائيلي في أكتوبر 2023 إلا أنه حظي بتفاعل إيجابي وعندما استنسخته أنقرة خلال الأشهر الماضية في عدة ملفات إقليمية ودولية، برز منها مؤخرا الملف الخاص بإثيوبيا والصومال.
واستضافت أنقرة قبل يومين جولة المحادثات الثانية من نوعها بين البلدين المذكورين والمتصادمين، على خلفية الخطوة التي أقدمت عليها إثيوبيا، في يناير 2024، عندما استأجرت شريطا ساحليا من أرض الصومال، مقابل الاعتراف بها.
ووصفت مقديشو الاتفاق حينها بأنه غير قانوني وردت بطرد السفير الإثيوبي والتهديد بطرد الآلاف من القوات الإثيوبية المتمركزة في البلاد للمساعدة في قتال مسلحي حركة الشباب.
"دائرة الوساطة تتوسع"
الملف المتعلق بإثيوبيا والصومال ليس الوحيد الذي انخرطت فيه أنقرة كـ"وسيط"، بل سبق وأعلنت قبل أسبوع رعايتها لصفقة تبادل السجناء ما بين روسيا والدول الغربية، على رأسها الولايات المتحدة الأميركية.
وقبل ذلك بأشهر تردد اسمها على خط العلاقة بين روسيا وأكرانيا في ظل الحرب، وببين الروس والأمم المتحدة والدول الغربية، عندما رعت اتفاق "ممر الحبوب".
الحال التركي وصل مؤخرا أيضا إلى نقطة الحديث عن نية أنقرة الدخول كطرف وسيط ما بين شرق ليبيا وغربه، بعدما كانت تدعم حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس لسنوات.
وتوسعت دائرة "الوساطة" شيئا فشيئا لتصل ارتدادتها إلى سوريا، مع اتجاه أنقرة لفتح صفحة جديدة مع دمشق، بعد سنوات طويلة من العداء والقطيعة، لاعتبارات تتعلق بموقفها منذ 2011 في الميدان وأروقة السياسة، بحسب تقرير لـ "الحرة".
ماذا تريد أنقرة؟
ولم يكن يتردد ذكر "الوساطة" على لسان المسؤولين الأتراك قبل الانعطافة الأخيرة التي طرأت على السياسة الخارجية التركية، ويقودها الآن الوزير حقان فيدان.
وقبل فيدان عاصر سلفه مولود جاويش أوغلو فترة قصيرة من "التغيّر" الذي طرأ، وشهد فقط رعاية اتفاق الحبوب بين الروس والأمم المتحدة، والمحادثات الأخرى التي جرت بين موسكو وكييف.
ويعتقد الباحث في الشأن التركي، محمود علوش أن "دور الوساطة في القضايا والنزاعات الخارجية أصبح عنصرا رئيسيا الآن في تشكيل السياسة الخارجية لتركيا".
ويوضح لموقع "الحرة" أن "الدور الجديد مصمم في جانب لتعظيم هامش التحرك لدى تركيا في هذه القضايا والنزاعات للعب دور أكثر فعالية".
ومن جانب آخر تهدف تركيا من وراء "دور الوسيط" الحد من أثر القضايا على علاقاتها ومصالحها مع مختلف الأطراف الفاعلة فيها، وفق علوش.
وفي الصراع الروسي-الغربي كانت "الوساطة التركية" مصممة بدرجة أساسية لتعزيز قدرة أنقرة على موازنة سياستها في الصراع ومصالحها مع الطرفين، في مسعى منها لتعزيز "مشروعية نهج التوازن وحاجة موسكو والغرب إليه".
وفي المقابل يتابع الباحث أن دور تركيا كوسيط كان مصمما بشكل مختلف في قضايا مثل الصراع الليبي، وهنا تذهب الأهداف باتجاه "تعزيز وسائل التأثير التركي في ليبيا، من خلال إقامة علاقات مع المنطقتين الشرقية والغربية".
"باب وطاولة مفاوضات"
وفيما يتعلق بالقرن الإفريقي يقول الباحث علوش إن "دور الوساطة بين إثيوبيا والصومال مصمم بدرجة أساسية لتعزيز حضورها كوسيط للقوة والاستقرار في هذه المنطقة".
وعلى أساس ما سبق يؤكد أن "وظائف وأهداف دور الوساطة التركية تختلف بين قضية وأخرى".
وتعتبر تركيا "وسيطا نشطا في العديد من الصراعات الإقليمية" وفق كبير الباحثين الأميركيين في "المجلس الأطلسي"، ريتش أوتزن، ويقول إنها تستند بذلك "على ثقلها ونفوذها العسكري والدبلوماسي الكبير".
ويوضح أوتزن لموقع "الحرة" أن ما سبق "يشكل مدخلا مهما في السعي إلى السلام والاستقرار، وخاصة في المناطق التي لا يستطيع الغرب أو لا يرغب في إعطاء الأولوية لجهودها".
وساعدت "الوساطة التركية" في استقرار الأزمات في ليبيا وشرق أفريقيا والقوقاز، وفتحت الباب لاستئناف المفاوضات، حسب أوتزن.
وفي أوكرانيا وسوريا كانت النتائج أكثر تباينا، مع استمرار الصراعات.
وبخصوص الملف المتعلق بروسيا والغرب أو الولايات المتحدة لا يعتقد أوتزن أنه يمكننا الحديث عن تركيا "كوسيط".
ويشرح بالقول إنها "ليست قوية بما يكفي للتأثير على أي من الجانبين بقوة.. في الواقع فهي ليست محايدة.. إنها حليف للغرب"، على حد تعبيره.
لاعب أم وسيط؟
ويؤكد إردوغان حتى الآن على "النهج المتوازن" الذي تسير عليها بلاده وبدأته على نحو أكبر قبل عامين.
وقبل فوزه بانتخابات الرئاسة في 2023 اتجه إردوغان لإصلاح علاقاته مع دول المنطقة، وكان أبرزها مصر والسعودية ودولة الإمارات.
وجاء ذلك بعد سنوات طويلة انخرطت فيها تركيا في أكثر من صراع، كما حصل في ليبيا وما بين أذربيجان وأرمينيا وسوريا التي ما تزال "معضلة" لا أفق للحل فيها.
ويعتبر مدير تحرير صحيفة "ديلي صباح" التركية، محمد تشيليك أن دور الوسيط الذي تلعبه بلاده "نشط وحاسم ويرفع من مكانتها في المجتمع الدولي، باعتبارها لاعبا قادرا على تغيير قواعد اللعبة".
ويقول لموقع "الحرة" إن "تركيا باتت لاعبا فعالا ووسيطا في الوقت نفسه"، وإن "الدور الأول يكمل الآخر"، مضيفا: "فبدون أن تكون لاعبا قويا لا يمكنك أن تعمل كوسيط يتمتع بالهيبة حيث تضع الأطراف الأخرى ثقتها فيك".
ويعتقد الفاعلون الأتراك أن أي عدم استقرار في المنطقة وخارجها سيؤثر على سلام تركيا وازدهارها، وفق تشيليك.
ولهذا السبب "تعمل تركيا كوسيط من خلال قوتها الدبلوماسية الواثقة وتتدخل في النزاعات بعقلية الحل".
ويشير الباحث علوش إلى أن الظروف والتحولات التي فرضها الانخراط التركي في العديد من الصراعات والمنافسات الجيوسياسية تلعب دورا رئيسيا في عملية تشكيل السياسة الخارجية التركية.
وبالتالي "يخلق دور الوساطة هامشا كبيرا من المرونة في التكيف مع هذه الظروف والتحولات".
ومع ذلك فإن نجاح هذا الدور بحسب علوش "لا يتوقف فحسب على كفاءة دبلوماسية الوساطات التركية، بل على العوامل المحلية والخارجية المحركة لديناميكيات القضايا التي تلعب فيها تركيا دورا. وهي ظروف غير مساعدة في الغالب".
هل تستفيد؟
وبالنظر إلى إثيوبيا فإن تركيا تشترك معها بصفقات عسكرية وأبرزها توريد الطائرات المسيرة بدون طيار.
وفي الصومال كانت أنقرة قد أبرمت مع مقديشو اتفاقا لحماية مياهها الإقليمية، في يناير العام الحالي.
وإلى الشمال الإفريقي وفي حين بنت تركيا نفوذا كبيرا في الغرب الليبي طوال عدة سنوات فتحت قبل أشهر أبواب الحوار مع الشرق وأبناء حفتر.
علاقة تركيا مع روسيا ما تزال قائمة وفي ذروتها أيضا، وكذلك الأمر مع أوكرانيا التي تواصل خوض الحرب على أراضيها واخترقت قبل أسبوع الأراضي الروسية.
ويرى الصحفي محمد تشيليك أن "السياسة الخارجية لتركيا الآن مقترنة بجهودها من أجل الاستقرار الإقليمي والعالمي، فضلا عن قوتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية المتنامية".
وباعتبارها جهة فاعلة رئيسية في منطقتها وخارجها، "أقامت تركيا علاقات قوية مع الأطراف المتحاربة على العديد من المستويات، مما مكنها من العمل كوسيط جدير بالثقة"، وفق حديثه.
ويضيف رئيس تحرير صحيفة "صباح" أن جهود الوساطة التي بذلتها تركيا كانت واضحة بين أوكرانيا وروسيا، حيث تمكنت أنقرة من إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة للحوار.
ومن ناحية أخرى يعتقد الباحث أوتزن أن أنقرة تستفيد من دور الوسيط ومن خلال نفوذها "على شروط تسوية النزاعات المختلفة".
وقد يعني ما سبق وفي غالب الأحيان "الصفقات التجارية الوصول العسكري والأمني.. وأحيانا المكانة"، كما يضيف كبير المحللين في "المجلس الأطلسي".
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!