د. مصطفى حامد أوغلو - خاص ترك برس
كثيرة هي المواقف التي تبهر القارئ والمتابع البعيد، قبل المواطن القريب الذي يعيش بتلك البلاد ، التي ارتقت لمستو متقدم من الشعور بالمسؤولية و الشفافية والمحاسبة الذاتية للمسؤولين ، عندما يتقدمون باستقالاتهم بكل سهولة ورقي أمام أي موقف يعقون به لا ينسجم مع الرأي العام السائد ، أو أي خطأ يقع به مسؤول يتسبب بضرر النفع العام ، أو أي لقاء يُساء فهمه ، أو أي تصرف أو تصريح أو جملة أو حتى مجرد كلمة واحدة قد تجرح أو تؤذي مشاعر شريحة مجتمعية ، أو فئة أثنية، أو تمس بدين أو أعتقاد أو مهنة أو جنس أو معتقد .
مواقف لا نراها إلا في بلاد سادت مجتمعاتها قيم الحرية ، والانتخابات الحرة ، وثقافة المحاسبة ، وعدم السكوت على الخطأ ، ولفظ المسيء ، عن طريق حجب الثقة عنه واساقاطه في أول فرصة تمُكن المواطن من أداء دوره الذي يراه واجباً يجب القيام به ، وليس ترفاً من أمور الحياة الخاصة.
أمثلة كثيرة يمكن ذكرها بدأ من الزعيم الفرنسي ديغول القائد المظفر الذي حقق الاستقلال لبلده لكنه يستقيل ، رغم التأيد الشعبي له ، لأنه رآه ليس بالتأيد الكاف الذي يستحقه ، فقال كلمته المشهورة " أنا ذاهب الى بيتي اذا ما احتجتموني تعلمون أين تجدوني"
تصور أن قائد حرب الاستقلال يتقدم بالاستقالة والتنحي لمجرد عدم حصوله على نسبة أعلى من التأييد على حزمة اصلاحاته الجديدة رغم الموافقة عليها..!!
ولك أن تتصور زعيم عندنا أو أنصاف زعماء بل على مستويات أقل بكثير ولم يكن وصولهم لمناصبهم أصلا شرعيا عن طريق الانتخابات ولم يكن لهم أي نجاح أو أنجاز وهم يدافعون وبل ويقاتلون من أجل البقاء بمناصبهم ...!
بريطانيا هي البلد المفعم بمثل هذه الاستقالات، لمجرد أن الشعب اختار الخروج من الاتحاد الاوربي بفارق بسيط تجعل رئيس الوزراء يستقيل لأنه يدافع عن فكرة البقاء ضمن الاتحاد الأوربي .. وسلسلة الاستقالات لا نتنهي عندهم ...
أما رئيس الوزراء الياباني رغم فوزه وهو في قمة انجازاته يتقدم بالاستقالة ويختار التنحي لأنه يرى ضعف بهمته وتراجع بنشاطه فيقول "إن اضطراري الى العمل بجدية أكبر جعلني أشعر بالقلق لأنني لم أعد أستطيع ذلك"
اما الاستقالات بسبب أخطاء مالية بسيطة كاستخدام البطاقة الوزارية لمجرد مرة واحدة لأجل حساب شحصي أو ركوب السيارة العامة خارج العمل الوظيفي أو تناول وجبة مع جهة قد تكون لها منفعة شحصية ، فحدث ولا حرج...
ثقافة تجذرت عند تلك الشعوب منذ عقود بعيدة ، جعلت كثير من المسؤولين يستقيلون ويخرجون من الحياة السياسية لأسباب تراها شعوبنا تافهة وثانوية وشيء من الترف السياسي أو النرجسية والمثالية الزائدة بينما هي عندهم خطوط حمراء لا يجوز تخطيها وقيم لا يمكن التساهل بها.
ثقافة الاستقالة هذه لم تأت من فراغ أو كرم وتفضل من المستقيلين، بل هي قيم وعرف وأخلاق غير مكتوبة من العقد الاجتماعي بين شرائح المجتمع تحميها المواقف الشعبية التي تلقظ كل فاسد و ترفض كل مسيئ لها ..
وهنا يجدر بنا التساءل عن دور الرقيب المجتمعي ودور المواطن والنخب بشكل خاص لترسيخ هذه الثقافة وتجذيرها بالمجتمع ..
عندما يتخلى المجتمع عن المحاسبة ، وتسكت النخب عن المسائلة والنقد والصدح بالرأي ، لن تسود مثل هذه الثقافة في مجتماعتنا العربية ، وسيظل المخطئ والمسيئ والفاشل يجد من يرقع له سقطاته ويبرر له اساءاته ويجُمل له انحرافاته.
على العكس من ذلك نجد الأمثلة السيئة بمجتماعنا العربية وخاصة بالعقود الأخيرة
فحكام قتلت شعوبها، ودمرت بلادها ، وقادت بلادها للدمار والتمزق والفقر والجهل والتأخر لكتها لا تجد أي حرج بالبقاء بالسلطة والاستمرار بالحكم بدون أي شعور بالأثم وعذاب للضمير .
المشكلة ليست هنا ، بل بمن يدافعون عن هؤلاء وينافحون عنهم من حملة أقلام وكتاب وأعلاميين وأصحاب رأي وتأثير على المجتمع من النخب وأهل الحل والعقد ، وتمتد المصيبة لتشمل الشعوب الغير آبهة بما يدور حولها ولا تتاونى عن التصفيق والتهليل.
قد تكون هذه الظاهرة الفاسدة حالة الشعوب المقهورة التي لا تجد حيلة للانعتاق منها
لكن أن تتفشى هذه السلبية لمؤسسات تتدعي أنها قامت بثورات ضد هذا الواقع المرير، وتقع بنفس السوء والفساد، فهذه طامة كبرى وظاهرة مسيئة لمبادي التحرر وروح الثورات.
أسباب كثيرة وراء هذه الظاهرة السلبية من التشبث بالمركز والمنصب ورفض ثقافة الاستقالة ، من أهمها مزايا المنصب المادية والمعنوية والتشريفية، واعتبار المنصب مكسب وليس مغرم ، وضعف الشفافية وعدم وجود الجهة الرقابية والجهة التي تحاسب على التقصير والفشل ، ناهيك عن عدم وجود معايير الوصول لهذا المنصب الذي عادة لا يكون عن طريق الانتخابات الحرة، بل عن طرق اخرى مخلة بالعدالة والمساوة وتساوي الفرص وبيعدة عن المعايير المحددة الواضحة.
ومع غياب الرقابة المجتمعية النخبوية والرقابة الصحافية الحرة يسود الخلل ويستمر الفشل والفساد.
شماعة عدم وجود البديل الأفضل ، وحجة البقاء على الذي تعرفه أفضل من الذي لا تعرفه ، والمحافظة على خبرة صاحب المنصب والاستفادة من تجربته، من الذرائع الواهية المضلة والمسيئة للمجتمع واحتقار للنخب واساءة للكفاءات وتقليل من أصحاب الشهادات والخبرة بكل المجالات...
شهدت تركيا قبل فترة زلزال كبيرا وكان يرأس الهلال التركي أحد الزملاء الناحجين الذي أضاف للهلال الأحمر اضافات نوعية ونقلات وقفزات غير عادية، ورغم قربه وتزكيته من رئيس الجمهورية وثقته به ، لكن عندما حصل مجرد خطأ بسيط فهمه الشعب على غير محله رغم روتينية ذلك العمل ، فكان لابد من التنحي والاستقالة ... ولم يكن البديل معدوما مهما كان المستقيل ناجحا مميزاً...
يظن البعض أن "ثقافة الاستقالة" محصورة بالسياسيين فقط، وهي لا تخص بقية المناصب الاخرى من رؤساء معارضة أو فصائل أو مجالس محلية أو مدراء مراكز أو روؤساء جمعيات أو منظمات مجتمع مدني وجاليات أو ممثلين أو كتاب أو أعلاميين ...
وهذه نظرة قاصرة ايضا لثافة الاستقالة ...
فكم من مذيع أو اعلامي أوسياسي استقال لمجرد كلمة مسيئة سقطت من لسانه، أو تغريدة كتبها ، أو تصرف بدر منه ، أو تواجد بمكان لا يليق بمهنته وبذوق المجتمع..
الغريب بدولنا العربية أن "ثقافة الاستقالة" لا نراها إلا بالحقل الرياضي أمام الضغوط الجماهيرية التي تُجبر المدرب أو رئيس النادي ليقدم استقالته ..
وحتى هذه تؤكد أهمية الدور المجتمعي والنخبوي الرقابي إذا ما مورس ببقية المجالات ولم يُسكت على اخطاء وفشل المتصدرين...
الغريب أن أمة ينأى أبناءها عن أهم دور لهم بحايتهم تجاه مجتمعاتهم وشعوبهم ، عندما يبتعدون عن دور الناقد والمصلح والموجه ، وهم ينتمون لأمة يقول نبيهم انما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا اذا سرق فيهم الشريف تركوه واذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد.
ويذكرون من قال للفاروق عمر لا سمع ولا طاعة لك اليوم حتى تبين لنا هذا البرد...
وسوريا في سنيين الاستقلال الأولى ضربت أمثلة ناصعة من النزاهة والحفاظ على المال العام وما ناظم القدسي ومعروف الدواليبي وسعد الله الجابري إلا بعض قامات تلك الحقبة القريبة ...
تظل ثافة الاستقالة من مظاهر المجتمع المدني المتحضر وضرورة لأجل العدالة والحافظ على المال العام والحقوق والواجبات
لكنها تظل أيضأ محصول ونتاج ما تزرعه الشعوب وما تتحمله النخب من واجب ومسؤولية
فهل يدرك كل شخص دوره وواجبه!؟؟
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس