ترك برس

تناول العديد من الشعراء العرب عبر التاريخ حوادث كبرى شهدتها الدولة العثمانية، بما في ذلك سقوط مدن تركية كانت مركزاً للحضارة والثقافة.

وكان الشاعر أحمد شوقي من أبرز من أرّخوا لهذه الأحداث شعراً، حيث عبّر بأسلوبه الفريد عن التغيرات السياسية والعسكرية التي شهدتها تلك الحقبة. من خلال قصائدهم، ترك هؤلاء الشعراء إرثاً أدبياً خالداً يوثق لحظات مفصلية من تاريخ المنطقة، مجسدين الصراع، التحديات، والانهيارات التي طالت المدن العثمانية، بحسب تقرير لـ "الجزيرة نت".

تأريخ أحمد شوقي لسقوط مدينة أدرنة شعرا

كانت مدينة أدرنة الواقعة في غرب تركيا حاليا والتابعة للخلافة العثمانية عاصمة للدولة العثمانيّة من عام 1365م إلى فتح القسطنطينية عام 1453م. وفيها كثير من مقابر السلاطين وآثارهم، وعند اندلاع حرب البلقان الأولى في أكتوبر/تشرين الأول من عام 1912م بين الدولة العثمانية واتحاد دول البلقان خسرت الدولة العثمانية كثيرا من أراضيها في أوروبا، من بينها مدينة أدرنة التي جهزت بحصون منيعة وكان سقوطها صعب المنال لولا الحصار الطويل الذي امتد 5 أشهر فأنهكها. وقد أرخ الشاعر أحمد شوقي لسقوطها شعرا، مخاطبا إياها مستذكرا تداعي المدن والحصون وهزيمة المسلمين في الأندلس، إذ قال:

يا أُختَ أَندَلُسٍ عَلَيكِ سَلام

هَوَتِ الخِلافَةُ عَنكِ وَالإِسلامُ

 

نَزَلَ الهِلالُ عَنِ السَماءِ فَلَيتَها

طُوِيَت وَعَمَّ العالَمينَ ظَلامُ

 

أَزرى بِهِ وَأَزالَهُ عَن أَوجِهِ

قَدَرٌ يَحُطُّ البَدرَ وَهوَ تَمامُ

 

جُرحانِ تَمضي الأُمَّتانِ عَلَيهِما

هَذا يَسيلُ وَذاكَ لا يَلتامُ

 

بِكُما أُصيبَ المُسلِمونَ وَفيكُما

دُفِنَ اليَراعُ وَغُيِّبَ الصَمصامُ

 

وَاليَومَ حُكمُ اللَهِ في مَقدونِيا

لا نَقضَ فيهِ لَنا وَلا إِبرامُ

 

كانَت مِنَ الغَربِ البَقِيَّةُ فَاِنقَضَت

فَعَلى بَني عُثمانَ فيهِ سَلامُ

ويكمل مخاطبا المدينة مواسيا أهلها سائلا لهم الصبر، فقد غاب صوت الأذان فيها وغُربت المساجد بمنع إقامة الصلاة وخطب الجمعة بعدما كانت تضج بالمسلمين وتتزين بعباداتهم وشعائرهم، فيقول:

صَبرا أَدِرنَةُ كُلُّ مُلكٍ زائِلٌ

يَوما وَيَبقى المالِكُ العَلّامُ

 

خَفَت الأَذانُ فَما عَلَيكِ مُوَحِّدٌ

يَسعى وَلا الجُمَعُ الحِسانُ تُقامُ

 

وَخَبَت مَساجِدُ كُنَّ نورا جامِعا

تَمشي إِلَيهِ الأُسدُ وَالآرامُ

 

يَدرُجنَ في حَرَمِ الصَلاةِ قَوانِتا

بيضَ الإِزارِ كَأَنَّهُنَّ حَمامُ

 

وَعَفَت قُبورُ الفاتِحينَ وَفُضَّ عَن

حُفَرِ الخَلائِفِ جَندَلٌ وَرِجامُ

 

في ذِمَّةِ التاريخِ خَمسَةُ أَشهُرٍ

طالَت عَلَيكِ فَكُلُّ يَومٍ عامُ

تأريخ فاجعة سقوط الخلافة شعرا

وحين سقطت الخلافة العثمانية وحل محلها الحكم الجمهوري أرخ أحمد شوقي للحدث تأريخا أشبه بالرثاء يعبر فيه عن مشاعر الحزن والأسى على تفكك دولة الإسلام وانتهائها ليبدأ بعدها عهد الجمهوريات والقوميات المتعددة، مشبّها الخلافة العثمانية بالعروس التي كُفنت بثوب زفافها وتحول زفافها إلى مأتم تبكيها فيه دول المسلمين التي نُكبت بهذا السقوط؛ إذ قال:

عادَت أَغاني العُرسِ رَجعَ نُواحِ

وَنُعيتِ بَينَ مَعالِمِ الأَفراحِ

 

كُفِّنتِ في لَيلِ الزَفافِ بِثَوبِهِ

وَدُفِنتِ عِندَ تَبَلُّجِ الإِصباحِ

 

شُيِّعتِ مِن هَلَعٍ بِعَبرَةِ ضاحِكٍ

في كُلِّ ناحِيَةٍ وَسَكرَةِ صاحِ

 

ضَجَّت عَلَيكِ مَآذِنٌ وَمَنابِرٌ

وَبَكَت عَلَيك مَمالِكٌ وَنَواحِ

 

الهِندُ والِهَةٌ وَمِصرُ حَزينَةٌ

تَبكي عَلَيكِ بِمَدمَعٍ سَحّاحِ

 

وَالشامُ تَسأَلُ وَالعِراقُ وَفارِسٌ

أَمَحا مِنَ الأَرضِ الخِلافَةَ ماحِ

كانت مدينة إسطنبول تعرف في السابق لدى جموع العرب بالأستانا، وكانت تسمى "الفروق" أيضا، وبهذا الاسم خاطبها الشاعر أحمد محرم في قصيدته التي عنونها بـ"الخلافة الإسلامية ونكبة آل عثمان"، وتحدث فيها عن نكبة المسلمين بسقوط الخلافة وتفرق أمرهم من بعدها.

واعتمد في قصيدته أسلوب الخطاب والسؤال مستنكرا ما حدث، وهو بذلك يذكرنا بقصيدة أبي البقاء الرندي أيضا في رثاء مدن الأندلس، فقد قال أحمد محرم مخاطبا مدينة إسطنبول:

أعن خطبِ الخلافةِ تسألينا

أجيبي يا (فَروقُ) فتىً حزينا

 

هَوىَ العرشُ الذي استعصمتِ منه

بِرُكنِ الدَّهرِ واسْتعليتِ حينا

 

فأين البأسُ يقتحمُ المنايا

ويلتهمُ الكتائبَ والحصونا

 

وأين الجاهُ يَغمرُ كلَّ جاهٍ

وإن جَعَلَ السِّماك له سفينا

 

مَضى الخُلفاءُ عنكِ فأينَ حَلُّوا

وكيفَ بَقيتِ وحدكِ خبّرينا

ثم يخاطب قصر يلدز الشهير متعجبا مما حلَّ به بعد ما كان يزهو على غيره من بدائع العمران الفريدة بجمال ورفعة وسؤدد ومجد:

أيلدزُ ما دهاك وأيُّ رامٍ

رماك فهدَّ سؤدُدَك المكينا

 

خَفضت له الجناحَ وكنت قِدما

حِمَى الخلفاءِ يأبى أن يدينا

ويتابع خطاب الأستانا حزينا على ما أصابها، مشبها إياها بالشعلة التي خفت نورها، والضياء الذي تبدد في الظلام، ويخاطب خلفاء بني عثمان معزيا مذكرا إياهم بضرورة الصبر والتحلي بالإيمان، والتفكير بواجب المرحلة، فالخلافة فقدت مكانتها وأهميتها وجلالها ونخرها الفاسدون من الداخل وتناهبها الطامعون؛ إذ يقول:

وجلَّلكِ الظّلامُ وكنتِ نورا

يَفيضُ على شُعوبِ المُسلِمينا

 

تزاورتِ الكواكبُ عنكِ وَلْهَى

تُقلِّبُ في جَوانِبكِ العُيونا

 

تحيَّر فيكِ هذا الدّهرُ حتّى

لقد ظنّتْ حوادثُه الظُّنونا

 

فصبرا إن أردتِ أو التياعاً

وسَلْوَى عن قطنيكِ أو حنينا

 

بني عثمانَ إنْ جَزَعا فَحقٌّ

وإن صبرا فخيرُ الصّابرينا

 

أَعِدُّوا للنّوائبِ ما استطعتم

من الإيمانِ وادَّرِعُوا اليقينا

 

وما نَفْعُ الخلافةِ حين تُمسِي

حديثَ خُرافةٍ للهازلينا

 

ثَوتْ تَتجرَّعُ الآلامَ شتَّى

على أيدي الدُّهاةِ الماكرينا

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!