علي أبو هميلة - الجزيرة مباشر

جذبني التعبير الذي صكه مؤلف أشهر الأعمال الدرامية التركية محمد بوزداغ وهو يصف الجماعات الصوفية في أشهر هذه الأعمال مثل فاتح القدس الذي يبدأ عرض الجزء الثاني منه خلال أيام، وأرطغول الذي قدم منه خمسة مواسم درامية، والمؤسس عثمان المقرر تقديم جزئه السادس مع بدايات أكتوبر.

المتابع للدراما التاريخية التركية سيجد مساحة كبيرة منها أفسحت للطرق الصوفية التاريخية، وسيجد أهم الشخصيات من المتصوفة حاضرة بقوة متلازمة مع الوقائع التاريخية على مدار العصور سواء ما يتعلق بتاريخ أرض الأناضول في عصر الدولة السلجوقية، ثم الدولة العثمانية بعهودها المختلفة والمتنوعة، كما قدمت الدراما تاريخ أهم المتصوفين مثل جلال الدين الرومي الذي قدمت أعمالًا عن حياته، عبد القادر الجيلاني، ويونس إيمره، إضافة إلى بعض الشخصيات التي ظهرت في الأعمال التي أشرت إليها.

العبارة التي جذبتني جاءت في مسلسل فاتح القدس صلاح الدين الأيوبي «أصحاب السر» الذي توقفت عنده، وذلك على لسان شخصية (الملا عمر) المعلم الذي تولى تربية صلاح الدين، ويبيّن العمل مدى الدعم الذي قدمه الملا عمر ورفاقه من «أصحاب السر» في دعم قضية تحرير الأمة الإسلامية من الحملات الصليبية وتحرير أرض فلسطين والقدس هذا الدعم الذي كان قوة روحية وعملية لصلاح الدين يوسف بن أيوب في طريق تحرير فلسطين وبيت المقدس.

ظهر عبد القادر الجيلاني في مشاهد عدة للعمل أثناء تفرق القبائل الإسلامية في فتح عسقلان، وكيف ذكرهم برسالتهم في فتح القدس ومواجهة الصليبيين، وفي العمل الدرامي الذي قدم حياته كانت له مواقف متعددة في مواجهة تجاوزات السلطان السلجوقي، ظهر هذا أيضًا في مسلسل يونس إيمره مع شيخه توبتوك إيمره الذي كان معلمًا ومرشدًا ليونس إيمره.

نرى هذا الدور أيضًا بقوة في مسلسل أرطغول حيث تظهر شخصية محي الدين بن عربي العالم المتصوف الأندلسي الذي عمل على مساعدة أرطغول في بناء النواة الأولى في الدولة العثمانية، واستكملها الشيخ أديب علي ويونس إيمره في مسلسل المؤسس عثمان، وقد ظهر بوضوح دور الطرق الصوفية في بناء الدولة والجماعات المتصوفة من خلال جماعة الشيخ أديب علي وساعدوا في إنقاذ عثمان في العديد من المواقف وكانوا صناعًا وعمالًا مقاتلين، ولا يتأخرون عن أداء فروض الدين.

الدور يتصاعد في العمل الدرامي فاتح القسطنطينية محمد الفاتح بظهور شخصية الصوفي أق شمس الدين معلم السلطان محمد الفاتح ومربيه الذي أحضره السلطان مراد الثاني ليقوم بتربية ابنه محمد الفاتح وتعليمه، وكان أق شمس الدين عالمًا بكل العلوم الدينية والإنسانية.

لا ينسى دور أق شمس في فتح القسطنطينية بعد أن تعرضت جيوش الفاتح لخسائر كبيرة جدًا أثناء حصاره المدينة، وكادت أن تنهار الجيوش والروح المعنوية للسلطان نفسه، وأخذ أق شمس الدين على الفاتح وذكره بمكانة المدينة في التاريخ الإسلامي ومدح الرسول صلى الله عليه وسلم لجيش الفتح وأمير الجيش الذي سيفتح المدينة، واستشهاد الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري على أبواب المدينة في عهد الخليفة العادل الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

كلمة «أصحاب السر» ترددت في عقلي وقلبي على مدار الأيام السابقة مع ما تم تداوله عن الصوفية في حادث السيد صلاح الدين التيجاني التي انتشرت الأسبوع الماضي وانتشرت معها كتابات كثيرة عن الطرق الصوفية، وخاصة مع ظهور هذا الكم من الفنانين والمثقفين والكتاب الذين ظهر أنهم من مريدي صلاح الدين التيجاني.

ظهرت تحليلات كثيرة عن هؤلاء الذي يمتلكون عقولًا ناضجة ثم ينجرفون إلى أن يصبحوا مريدين لمن عليه تحفظات، والواقع أن صلاح الدين التيجاني ومن خلال عديد من التسجيلات التي ظهرت يواكب ما أصاب الأمة من تجريف كل المعاني والقيم، فكل الأشياء أصبحت كأن أو شبه، ربما وصلنا إلى حد ليس فقط الطرق الصوفية أصبحت كأن، وكذلك الدول وقيمها، بل ربما وصلنا إلى مرحلة أكاد أشك أن الدين نفسه أصبح كأنه أو شبيه بالدين الحقيقي، وهو ما يطلق عليه التدين الظاهري.

الأصل في الصوفية هي نموذج لـ «أصحاب السر» الذي هو العقيدة الصحيحة والدفاع عن الأمة الإسلامية والرسالة ضد كل من يحاول تدميرها وهدم الرسالة الأسمى للإنسانية، التي لم تعترف يومًا إلا بالقيم الروحية والعلوم الإنسانية، وقد تحول مدعو الصوفية إلى نوع من التظاهر بالشكل الصوفي فقط من حيث الملابس أو السلوك الظاهر مثل حفلات الذكر والمدح للرسول والأولياء من وجهة نظر القائمين، الناظر لحال الأمة سيجد الفروق واضحة وجلية بين الأصحاب الأصليين «أصحاب السر» وهؤلاء الذين أخذوا القشرة الخارجية لكل شيء.

أثناء عملي في ماسبيرو رأيت الكثيرين الذين كانوا حرصين على حضور هذه الجلسات وحفلات الذكر من الإعلاميين والمسؤولين في هذا المبنى المهم في مصر، والغريب أن حرصهم على الحضور بمسجد السيدة نفسية أسبوعيًا كان مثيرًا للتساؤل عندي، فأغلب هؤلاء كانوا لا يتمتعون بسمة جيدة بل يمكن أن نقول كانوا فاسدين سواء من حيث استغلال مهنتهم كمقدمي برامج وإعلاميين أو مسؤولين، ويبدو أنه كان نوعًا من التطهر من الآثام كما يظن الكثيرون في تناولهم للدين حيث الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينها، والجمعة إلى الجمعة، والحج يعود بالإنسان كما ولدته أمه لدرجة أن يصبح هذا سلوكًا سنويًا لهم على أساس ميلادهم كل عام بلا آثام.

ما يسعى إليه أعداء الأمة الإسلامية أن نصبح جميعًا كأن ولا نشبه الصالحين من الأمة سواء كانوا فاتحين، علماء، أو قادة، وأفرادًا، الغريب أنك عندما تنظر إلى أكثر السابقين من الصوفية ستجدهم علماء في علوم الفقه والشريعة، الكيمياء والطب، الفيزياء والفلك، لم يكن بينهم من اكتفى بعلوم الدين، ستجد هؤلاء جنودًا في جيوش الأمة الإسلامية مقاتلين لأعداء الأمة، يحملون رسالة الإسلام الصحيحة إلى العالم، لا يرتضون الظلم والفساد والاستبداد وهي رسالة المسلم أيًا ما كان موقعه.

عندما ننظر حولنا في هذا الأمة سنجد المثال الأوضح للمتصوفة الإسلاميين هو أهلنا في غزة الذين فهموا رسالة العقيدة والإيمان بها فكانوا مثال التضحية والوفاء، التغلب على النفس وعزلها عن مغريات الحياة وقدموا أنفسهم قدوة للعالم في الإيمان والعمل، يؤدون صلاتهم، ويصلحون الأرض، يطورون الصواريخ ويجتهدون في عمل بدائل لنقص السلاح، والعلوم كافة التي تجعلهم قادرين على الصمود والمقاومة في قوة إيمان وعقيدة لا مثيل لها.

الفروق جلية بين «أصحاب السر» الذين يقاومون كل ظلم وصوت المظلومين في العالم، لا يتوقفون عن أداء عملهم بأمانة وصدق، ويطورون أدوات مجابهة أعداء الأمة، يصنعون سلاح القوة بالعلم والعقيدة والإيمان، ويؤدون واجبهم الديني كما يجب حاملين القيم الروحية والإنسانية، وبين هؤلاء الذين أخذوا من كل الأشياء ظاهرها فقط، وهكذا تتجلى الفروق بين «أصحاب السر»، وأصحاب الفنانين.

ملاحظة: لا تنفصل الوقائع التاريخية في إطارها العام عما جاء في الأعمال الدرامية إلا فيما يتعلق بالإبداع الدرامي.

عن الكاتب

علي أبو هميلة

إعلامي مصري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس