صالحة علام - الجزيرة مباشر
فيما بدأ سلاح الجو التركي استعدادات مكثفة لبدء عملية إجلاء واسعة النطاق لمواطنيه من لبنان، تشهد الساحة السياسية التركية استنفارا بالغا يقوده الرئيس أردوغان الذي طالب في كلمته أمام البرلمان التركي -بمناسبة بدء دورته الجديدة- العالم الإسلامي بضرورة التعاون من أجل التصدي للهمجية الإسرائيلية، التي ترتكب جرائم ضد الإنسانية بما فيها الإبادة الجماعية، والمجازر، والاغتصاب، والتعذيب، والتطهير العرقي، وقتل الصحفيين، وإغلاق مكاتب الفضائيات التي تفضح فظائعه وجرائمه أمام العالم، وقصف المستشفيات والمدارس ودور العبادة، تحت قيادة “المدعو نتنياهو” الذي وصفه بأنه “يحاكي هتلر” بهدف جر المنطقة لمحرقة.
أردوغان حذر من مغبة استمرار ترك الساحة خالية أمام دولة الاحتلال لتعيث فيها فسادا، مؤكدا أن ترك غزة والضفة ولبنان بمفردهم في مواجهة الأحلام التوسعية للإدارة الإسرائيلية التي تتحرك من منطلق هذيان أكذوبة الأرض الموعودة، يضع الأراضي التركية وتحديدا مناطق الأناضول في مواجهة خطر التوسع الإسرائيلي بعد الانتهاء من فلسطين ولبنان.
يدرك الرئيس أردوغان جيدا أن ما يقوم به رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يدخل ضمن سعيه لتحقيق حلم أجداده المكتوب لديهم في التلمود، والخاص بتأسيس دولة يهودية تمتد من منابع نهر الفرات الموجودة في جنوب تركيا، مرورا بالأراضي السورية ومنها إلى العراق حتى شط العرب، يدخل ضمن هذه التحركات اعتداءاته على الفلسطينيين في كل من غزة والضفة، واستهدافه للأراضي اللبنانية، وسعيه لتوسيع نطاق علاقات الصداقة التي تربطه بالتنظيمات الانفصالية المسلحة التي تسعى إلى فصل أجزاء من الأراضي السورية والتركية لإقامة كيانات سياسية منفصلة عن الإدارة المركزية في كلا البلدين.
ولعل الخريطة التي رفعها نتنياهو، خلال كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة مؤخرا، جاءت تأكيدا لهذه الأطماع الإسرائيلية، التي تستهدف توسيع المناطق الخاضعة لسيطرته، رابطا بين هذا التوسع وبين مدى الأمن والازدهار الذي يمكن أن يصل إليه العالم ويعيشه إذا ما تحقق هدف الصهيونية العالمية.
دعوة نتنياهو العالم لدعم الخطوات التوسعية لبلاده رفعت حدة المخاوف التركية، في ظل حجم الأراضي التركية التي يضمها الحلم الإسرائيلي، الذي يشمل منابع نهر الفرات، وتحديدا من هضبة أرمينيا شرقا وجبال آمانوس التي تمتد من الشمال إلى الجنوب بموازاة ساحل خليج السويدية، وخليج الإسكندرون بمحافظة هاتاي، وتصل شمالا حتى جبال طوروس عند مقاطعة عثمانية، وجنوبا حتى ممر بيلان، اللذين يقعان ضمن إطار الكيان الكردي الجديد وفق الوعد الذي قطعته واشنطن لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) كمكافأة لها على مساعدتها في القضاء على تنظيم الدولة.
ومما زاد من القلق التركي تلك الوتيرة المتسارعة التي تتبعها إسرائيل في تنفيذ مخططها التوسعي، التي مردها إلى ما يعرف في الأوساط اليهودية ب “لعنة العقد الثامن”، التي تدور حول فكرة أن اليهود عموما لم تدم لهم دولة لأكثر من ثمانين عاما، حتى أصبحت هذه الفكرة تمثل هوسا لدى التيارين الديني والعلماني في المجتمع الإسرائيلي، حيث يستند التيار الأول على نصوص دينية مدرجة في التوراة، بينما تستند مخاوف التيار الثاني على الوقائع التاريخية، التي تؤكد أن الدولتين اللتين عرفهما التاريخ لليهود لم تستمرا لأكثر من ثمانين عاما.
خط سير نهر الفرات يمثل في العقلية التوسعية الإسرائيلية جزء لا يتجزأ من المشروع الصهيوني الذي يعمل المسؤولون الإسرائيليون على تنفيذه منذ عقود مضت، بهدف إعادة إحياء ما يسمى بمملكة داوُد وسليمان على أرض شاسعة المساحة تمتد وفقا لمخيلتهم من الفرات إلى النيل، وفقا لادعاءات بأنها أراضٍ بلا شعب، وهي أساطير لا سند لها، إذ لم يعرفها التاريخ ولم يكن لها وجود فعلي في أي من صفحاته، لكن اليمين الإسرائيلي المتطرف المدعوم من الولايات المتحدة دائم الترويج لها في كل مناسبة.
يدخل في هذا المخطط إلى جانب تركيا كل من سوريا والعراق، وفق جغرافية المنطقة التي تضم نهر الفرات المذكور تحديدا في التلمود كخط الحدود الفاصل بين دولة إسرائيل الكبرى وغيرها من الدول المحيطة بها.
وتشمل هذه الجغرافية هضبة أرمينيا التي ينبع منها النهر، والواقعة على ارتفاع 3000 متر عن سطح البحر، حيث يتشكل الفرات من التقاء نهرين هما نهر “مراد صو” أي الماء المراد، ونهر “قره صو” وتعني الماء الأسود، اللذان يسيران بشكل متوازٍ نحو الغرب، ويلتقيان عقب تحولهما إلى الجنوب في مدينة مالاطيا ليشكلا نهر الفرات، الذي يستكمل مسيرته ويتجاوز حدود دولة المصب أي تركيا، بادئا رحلته داخل الأراضي السورية عند مدينة جرابلس قاطعا مسافة تصل لحوالي 455 كيلومترا في تركيا.
ومن جرابلس يواصل الفرات انحداره باتجاه الجنوب حتى مدينة مسكنة، يتوجه بعها نحو الشرق باتجاه وادي الفيضي وصولا إلى الرقة، ليبدأ الانحدار باتجاه الجنوب والشرق إلى مناطق دير الزور، ويستمر في سيره المتعرج داخل الأراضي السورية ليخرج منها بالقرب من مدينة البوكمال، قاطعا مسافة 680 كيلومترا داخل الأراضي السورية..
ومنها إلى الأراضي العراقية حيث يتجه شرقا ومن ثم نحو الجنوب الشرقي عبر البادية العراقية، حتى يصل إلى مدينة الرمادي التي يتسع فيها مجراه ويصبح انحداره ضعفيا ومن ثم يقترب من نهر دجلة في المنطقة التي تقع بين مدينتي الفلوجة والمسيب، ليتحد معه في منطقة هور الحمّار، يبدأ رحلة جديدة حيث يتفرع إلى عدة فروع باتجاه الجنوب مشكلا مع نهر دجلة المنطقة المعروفة باسم شط العرب.
إدراك أنقرة لحجم المخاطر التي يمثلها مخطط التوسع الإسرائيلي على حساب حدود دولتها ودول المنطقة دفعها لمراجعة سياساتها الخارجية، وعلاقاتها بدول الجوار الإقليمي، وفي هذا الإطار يمكن فهم التطور الذي شهدته علاقاتها بكل من العراق ومصر على التوالي.
فقد نجحت مؤخرا في إزالة كافة المعوقات التي حالت خلال الأعوام الماضية دون عودة العلاقات بهما إلى طبيعتها، وقام الرئيس أردوغان بزيارات رسمية لكل من بغداد والقاهرة، وتم توقيع العشرات من الاتفاقيات في مختلف مجالات التعاون خاصة الأمنية والاستخباراتية، والتصنيع والتدريب العسكري إلى جانب تشكيل مجالس للتعاون الاستراتيجي معهما.
يضاف إلى هذا سعيها الدؤوب الحالي لإعادة علاقاتها الدبلوماسية بسوريا، وإنهاء مرحلة القطيعة المستمرة بينهما منذ 12 عاما، وذلك بهدف العمل على تشكيل ائتلاف يضم تحت مظلته الدول الأربع لمواجهة المخططات التوسعية لدولة الاحتلال الإسرائيلي، ووقف تجاوزاتها وتهديداتها لجميع دول المنطقة.
وفي هذا الإطار أعلن أردوغان أن بلاده لن تترك لبنان بمفرده في مواجهة الغطرسة الإسرائيلية، وأنه سيعمل على زيادة حجم المساعدات الإنسانية التي يمكن أن تشمل في مرحلة من المراحل تزويد الجيش اللبناني ببعض ما تنتجه تركيا من صناعات دفاعية، تمكنه من حسم الكثير من الهجمات لمصلحته، وفي مقدمتها بطبيعة الحال المسيرات التركية، التي ساعدت الجيش الأوكراني في مواجهة الهجمات الروسية، إلى جانب القيام بحملة دبلوماسية لحث المجتمع الدولي على إجبار إسرائيل القبول بوقف إطلاق النار، وإشهار سلاح العقوبات الاقتصادية والتجارية ضدها إذا استمر تعنتها.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس