احسان الفقيه - خاص ترك برس
"الدين شهامة.. الدين غيرة..
إن الإسلام الحقيقي هو أكبر قوة في العالم..
إننا في حالة تلاوة القرآن نتعلم دروس الشهامة..
والإيمان والحماس..".
هي قصيدة للشاعر الإسلامي التركي محمد عاكف الملقب بـ شاعر الأمة التركية، وأحد الشخصيات الهامة التي أثَّرت في تشكيل الشخصية الإسلامية لأردوغان".
ذلك الزعيم رجب طيب أردوغان صاحب السمت الإسلامي الظاهر، والذي أسماه الأتاتوركيون العلمانيون بـ "الحاج الرئيس"، على وجه السخرية منه عندما قام وزوجته المحجبة بأداء العمرة.
ذلك الرئيس الذي بدأ في أحد خطاباته الأخيرة وكأنَّه داعية أو واعظٌ، يذكر الناس بحقيقة الموت، ويترجم هذه المعرفة إلى سلوك وواقع عملي ينسجم مع الحقيقة الكونية وعلاقة الإنسان بالخالق والمخلوق، ويتناغم مع المهمة التي خلق الله الناس لأجلها من عبودية تتسع لتشمل مناحي حياتهم، ويلعب فيها إعمار الأرض جزءًا أساسيا.
هو الزعيم الذي وعظ الجماهير قائلا: "أرجوكم لا تنسوا، الموت حق على الجميع، لو كنتُ رئيس جمهورية، أو رئيس وزراء، أو كنتُ أثرى الأثرياء فإن الموت حق، المكان الذي سنذهب إليه جميعا واضح، وهو حفرة بمترين".
وأصبحت مثل هذه المشاهد أمرًا اعتياديا في حياة أردوغان السياسية، فصار أنموذجا للحاكم المسلم العادل الذي يتطّلع إلى مثله المسلمون.
هذا السمت الإسلامي الذي يبرزه أردوغان هل هو دروشة؟
الإجابة على مثل هذا السؤال حتما تستلزم الإبحار في مسيرة أردوغان ونشأته الإسلامية، لنحكم بعدها على تلك الجزئية، أهي دروشة ومظاهر للتفاعل النفسي مع تعاليم الدين لدى أردوغان يمارسها منفصلا عن الواقع، أم أن الرجل يعرف ما يفعل بالفعل.
وإنما دعاني لطرق هذا الموضوع أن تأكيد أردوغان على مرجعيته الإسلامية كان ولا يزال مثار جدل واسع النطاق، فالبعض يرى أن أردوغان يستصحب إبراز هذه الهوية ( لعبًا) على العاطفة الدينية لدى الأتراك، ويستغلّ الدين لتحقيق أهداف سياسية.
وبعضهم يقول إن أردوغان يحاول أن يقود السنة بمشروع تكون تركيا هي مركزه.
وبعضهم يرى أنه علماني وأنه صِبغته الإسلامية مجرد مجموعة من القيم الروحية التي يعتنقها.
فكما يقول الكاتب شريف تغيان في كتابه "الشيخ الرئيس" عن أردوغان: "يصفه العلمانيون بأنه إسلامي رجعي، ويتهمه بعض الإسلاميين بخدمة المصالح الأمريكية والتخلّي عن بعض المبادئ الإسلامية.
* لا يمكن تجاهل الخلفية الإسلامية لأردوغان، والذي تسلّم السلطة عبر جهود تراكمية لأحزاب وكيانات ذات جذور إسلامية انطلقت من الأساس الروحي الذي وضعه (بديع الزمان النورسي)، وأخذت قالبها السياسي، وتعرّضت في طريقها هذا إلى التهميش والإقصاء والاستئصال.
إن تركيا تشهد صراعا على الهوية بين حقبة (أتاتورك) التي لا زالت آثارها ضاربة في المجتمع التركي، وبين التراث الإسلامي المرتكز على الفكرة الإسلامية، والذي أحياه أردوغان.
* رجب طيب أردوغان ابن حي قاسم باشا الذي يشتهر ببأس رجاله، نشأ في أسرة متدينة، وأطلق عليه مُعلّمه في فترة تعليمه الابتدائي لقب "الشيخ رجب"، وذلك لأنه خرج أمام التلاميذ ليُعلّمهم الصلاة بصورة عملية بناء على طلب من المعلم، لكنه رفض أداء الصلاة على صحيفة بها صور نساء متبرّجات.
والتحق أردوغان بمعهد الأئمة والخطباء ونال فيه قسطا من العلوم الشرعية، أثّرت في تكوينه بشكل قوي.
قاده توجهه الإسلامي إلى الالتحاق بحزب السلامة الوطني ذي التوجه الإسلامي الذي أسّسه نجم الدين أربكان (طيب الله ذكره ومقامه)، ليقود الجناح الشبابي المحلي للحزب، وحتى عام 1980 عبر الانقلاب العسكري الذي أطاح بالأحزاب السياسية.
وبعد عودة الحياة الحزبية إلى تركيا عام 1983م، سطع نجم أردوغان في حزب الرفاه الإسلامي، وأصبح رئيس فرع اسطنبول، ثم صار عضوا باللجنة المركزية للحزب، والذي رشّحه أكثر من مرة لعضوية البرلمان التركي.
* وبعد فوزه برئاسة بلدية إسطنبول 1994م، تمكن من تغيير وجه الحياه في المدينة وجعلها نموذجا تتطلع إليه بلديات تركيا.
وكانت الهوية الإسلامية بارزة في شخصية العمدة الجديد، إلا أنه خدم الفكرة الإسلامية بتلك الملحمة من التفاني والإخلاص في العمل من أجل خدمة أهالي إسطنبول، فلم يكن الرجل من هواة التنظير، إنما كان يؤمن بأنه سيخدم توجهه الإسلامي بخدمة الناس وحلّ مشاكلهم.
* يختصر الدكتور عبد الودود شلبي في كتابه "جنرالات تركيا لماذا يكرهون الإسلام"، تلك الإصلاحات كشاهد عيان فيقول:
"وفي ظرف عام بعد تولّي هذا الشاب شؤون المدينة تغير كل شيء، توفرت وسائل المواصلات والنقل، وتوفرت المساكن للفقراء الباحثين عن مأوى، وأصبحت المرافق تعمل بصورة جيدة في كل شيء، حتى المياه التي كانت شحيحة أصبحت فائضة عن الحاجة".
أغلق أردوغان نوادي القمار والخمارات وبيوت الدعارة، بل إنه ذهب إلى زيارة زعيمة (بائعات الهوى) ليعرض عليها التوبة لها ولمن معها، ويوفر لهن حياة كريمة.
وثار العلمانيون، مُندّدين بتوجّهات هذا الرجل الذي يعمل على تقويض العلمانية وأَسلمة إسطنبول، وزاد من الهجمة العلمانية الشرسة، دعوة أردوغان إلى صلاة الاستسقاء في جميع المساجد، ليفتح شهية الأتاتوركيين للنيل منه، واتّهامه بالتخلف والرجعية والدروشة، ليفاجأ الجميع بأن السماء قد أمطرت، وملأ ماؤها الخزانات الفارغة.
* لقد أثار التوجه الإسلامي لعمدة إسطنبول، غضب الكاتبة العلمانية بينار كور، والتي جعلت تُعرض بأردوغان خلال مقال لها على صحيفة الجمهورية، فقالت "يمكننا القول إن إسطنبول بدأت طوال العام المنصرم في البحث أكثر من أي فترة مضت عن رئيس للبلدية يغني وهو يسير على طرقاتها أغنية إسطنبول الشهيرة التي تقول: لقد تجوّلت هذا المساء في كل حانات إسطنبول وبحثتُ عنكِ، عن طريق آثار الشفاة الموجودة على الأقداح".
* وفي 12 من كانون الأول/ ديسمبر عام 1997م، ألقى أردوغان خطابا في ولاية سرت تضمن أبياتا للشاعر التركي "ضياء غوك ألب"، يقول فيها:
مساجدنا ثكناتنا
قبابنا خوذاتنا
مآذننا حرابنا
والمؤمنون جنودنا
هذا هو الجيش المقدس
الذي يحرس ديننا
* كانت هذه الأبيات بمثابة انفجار هز الأوساط العلمانية في تركيا، وتمّ اعتقال أردوغان بتهمة تهديد أمن البلاد وزرع الفرقة واستنهاض مشاعر العداوة وأوقعوه قسرا تحت طائلة المادة 312 من قانون العقوبات التركي.
* ويحكي الكاتب أحمد بهجت مشاهداته في إسطنبول حيث حضر تلك الواقعة، وكتبها بعموده اليومي في صحيفة الأهرام المصرية بتاريخ 29 كانون الأول/ سبتمبر 1998م، فيقول:
"مضينا نضرب في طرقات المدينة، ثم أحسسنا حين أقبلت الظهيرة أن هناك شيئا غير عادي قد وقع، لقد بدأ المرور يتحوّل إلى البطء، وضاعت سيولة الحركة في شوارع المدينة.
وبدأنا نتتبع الخبر، كان الخبر من أعجب ما سمعنا في حياتنا الصحفية على كثرة ما شاهدنا وسمعنا من عجائب. قيل لنا أن حركة المرور أبطأت وأصابها ما يشبه الشلل بسبب مظاهرة هائلة تتكون من مائة ألف مواطن تركي اجتمعوا في الساحات والميادين والشوارع ابتداء من مسجد (الفاتح) إلى مسجد (بايازيد) وسط إسطنبول.
سألنا: لماذا احتشدت المظاهرة؟
قالوا: احتشدت المظاهرة احتجاجا على قرار المحكمة الدستورية العليا بتأكيد حبس عمدة إسطنبول ورئيس بلديتها "رجب طيب أردوغان".
سألنا: ما هي الجريمة التي كانت سببا في الحكم عليه بالحبس؟ قالوا: هي جريمة خطيرة خطيرة، لقد قرأ منذ ثمانية أشهر وهو يخطب في الجماهير بيتا من الشعر كتبه شاعر كانت له اتجاهات إسلامية".
* لقد كانت الطفرة التي أحدثها أردوغان في بلدية إسطنبول، هي الرصيد الواقعي لتجربته، والتي أسهمت في فوز حزبه الصاعد "العدالة والتنمية"، والذي تجنب في توجهه استفزاز العلمانيين على النحو الصريح الذي تميز به أربكان، نظرا لضغط الواقع العلماني وسطوة المؤسسة العسكرية العلمانية.
* وكانت العبارة الشهيرة التي أطلقها أردوغان "لم أتغير ولكني تطورت" تشير إلى تمسّكه بالفكرة الإسلامية واستصحاب الهوية، دون الدخول في صدامات مع الأتاتوركيين المتنفذين.
فمن ذلك أنه أرسل ابنته لتلقّي تعليمها في أمريكا حتى لا تنزع حجابها، وذلك تفاديا للصدام مع العلمانيين.
وخلال فترة تولّي حزبه شؤون البلاد، تعاطى أردوغان مع الواقع التركي المُعقّد، واستطاع تدجين النسور في المؤسسة العسكرية، وهدم الصنم التركي وفق رؤية تدريجية متوازنة، مراعيا موازين القوى في بلاده.
* لقد سار أردوغان في اتجاهيين بهذا التوازن، أولهما التنمية والنهضة الاقتصادية وتطهير المؤسسات، والبحث عن دور محوري لتركيا في المنطقة، وثانيهما العمل على استبدال الأفكار والمظاهر الأتاتوركية بالإسلامية.
وتمكن الرجل من استغلال المناخ الديموقراطي الذي ساد في عهد العدالة والتنمية، في نصرة الشعائر الإسلامية، وأحرج العلمانيين بفكرة الحريات الشخصية التي تكفلها الديمقراطية، من أبرزها حق كل تركية في ارتداء الحجاب في الجامعات والبرلمان والمؤسسات الحكومية بما أنه حرية شخصية.
* ومن جانب آخر، أعاد أردوغان روح التراث العثماني المُحمَّل على الفكرة الإسلامية، باعتبار الامبراطورية العثمانية آخر عهود الخلافة.
أردوغان أحيا اللغة التركية القديمة التي أهال عليها أتاتورك التراب ليقطع الصلة بين الأتراك وتراثهم العثماني الإسلامي.
أعاد للمرأة التركية حقها في ارتداء الحجاب.
واجه دعوات المغرضين لجعل الأذان باللغة الكردية.
أعاد تركيا إلى مسارها الأول في متانة العلاقات مع العالم الإسلامي.
لا يدع مناسبة تمرّ إلا وخاطب جمهوره مؤكدا في أغلب الأحيان على الهوية الإسلامية.
هو أردوغان الذي تراه في صورة يقف بخشوع أمام قبر النبي صلى الله عليه وسلم.
وتراه في أخرى يرفع يديه بالدعاء على الإفطار وهو يتناوله في رمضان مع اللاجئين السوريين.
هو الذي تسمع صوته يؤذن في أحد المساجد.
هو الذي يتلو القرآن بصوته الندي وهو يؤدي واجب العزاء في بيت أحد الأصدقاء.
ولكن هل أخطأ أردوغان بهذا الحضور القوي والصريح لهويته الإسلامية؟
وهل إبراز السمت الإسلامي لدى أردوغان هو دروشة لا تليق بحاكم دولة بحجم تركيا؟
وهل يصحّ قول البعض أن أردوغان بذلك التوجّه يضرُّ الفكرة الإسلامية أكثر مما يفيدها؟
* الذي أعتقده، أن أردوغان لا يؤكد على هويته ويفتخر بها، ويستصحبها في كل مناسبة، بدافع الحماسة، أو بناء على رغبة شخصية، وإنما هو مسار يتّخذه للتأكيد على الهوية الإسلامية للشعب التركي باعتباره رأس الدولة، وزعيم الأمة التركية، وهو الأمر الذي من شأنه أن يعكس تلك الملامح في وجدان الشعب التركي، لمَحو الصبغة العلمانية التي اصطبغت بها البلاد منذ عهد أتاتورك، والعودة إلى الجذور الأولى.
والمُتتبع لمسار أردوغان التدريجي، سيرى أن السمت الإسلامي يزداد وضوحا لدى أردوغان كلما قطع بفريقه خطوات من الإنجازات الملموسة التي يشعر بها المواطن التركي.
وكأن هذه الإنجازات تعطيه قوة للظهور الإسلامي، للتأكيد على ارتباط الإنجاز والتقدّم بحمَلَة الفكرة الإسلامية التي ينفِّر منها أبناء أتاتورك.
* لا أتحدث عن أردوغان باعتباره خليفة للمسلمين، ولا باعتباره مُحقّق حلم المسلمين، ولا أزعمُ خلوّ مساره السياسي من زلات وأخطاء.
إنما أتحدث عن زعيم مسلم لدولة غالبيّة شعبها مسلم.. يحمل الفكرة الإسلامية ويحاول المُوازنة بين الواقع والمأمول.. وقد قُلتها من قبلُ عدّة مرات وأُكررها على أعين من يدّعون أني أُطبّل لأردوغان:
(كفّاي مُتحفّزان للتصفيق لمن سينتصر لفكرتي الإسلامية كُليّا او جزئيا)
كلما وجدتُّ صاحب فكرة إسلامية يبحث عن أسباب تكريسها سأهتف له وأشير اليه.. ومن تركيا وعن تركيا.. للحديث بقية..
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس