طه كلينتش - يني شفق

خلال حرب 6 أكتوبر 1973 وهي الحرب العربية الإسرائيلية الثالثة عام 1973، تم إرسال شاب يهودي يبلغ من العمر 19 عامًا إلى جبهة الجولان. أثناء المعارك، سمع هذا الشاب، واسمه إيلان بابيه، قائد وحدته، وهو رقيب مختص يقول: "علينا قتل العرب، وخاصة الشباب منهم. فإذا لم نقتلهم الآن، سيقومون بقتلنا عندما يكبرون" شعر بابيه بصدمة كبيرة من هول ما سمعه، ولم يستطع تصديق أذنيه. وقد لاحظ خلال الحرب أن الجيش الإسرائيلي يشن غارات جوية على أهداف مدنية دون تردد، ويهاجم القرى والمدن دون خوف من العواقب، وأنه لا أحد يشعر بالندم أو المسؤولية تجاه هذه الأفعال.

وبعد انتهاء خدمته العسكرية، أكمل بابيه دراساته العليا في الجامعة العبرية في القدس، ثم توجه إلى إنجلترا لمتابعة دراساته الأكاديمية في جامعة أكسفورد. وهناك بدأ بدراسة الدكتوراه باحثاً عن الخلفية الأيديولوجية والفلسفية لتلك المشاهد التي شهدها. وكان مشرفاه على الدكتوراه في أكسفورد هما ألبرت حوراني وروجر أوين، وهما من أبرز الخبراء في العالم العربي والإسلامي آنذاك. وقد ساعدته معرفة حوراني الواسعة ونظرته الحكيمة على فهم وتوضيح الكثير من الأمور التي كانت تشغل ذهنه. وعندما حصل بابيه على درجة الدكتوراه عام 1984، كان قد تمكن من تحليل جميع مراحل الاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية خطوة بخطوة، وأصبح على دراية تامة بالخلفية الأيديولوجية التي شكلت الدولة الإسرائيلية والتي وُضعت ضمن إطار "الدولة اليهودية".

بعد حصوله على درجة الدكتوراه، عمّق إيلان بابيه أبحاثه وبدأ، مستعيناً بالوثائق الأرشيفية، في إثبات الجرائم ضد الإنسانية التي ارتُكبت بحق الفلسطينيين خلال عملية تأسيس إسرائيل، واحدة تلو الأخرى. وكتب سلسلة من الكتب التي وثقت هذه الجرائم. ولكن المهمة التي تصدى لها لم تكن سهلة على الإطلاق. حتى والديه، اللذان كانا قد لجآ إلى فلسطين في الثلاثينيات من القرن الماضي هربًا من اضطهاد النازيين في ألمانيا، لم يتمكنا من استيعاب أفكاره وفهم موقفه. وفي التسعينيات، واجه بابيه تزايداً في التهديدات والابتزازات من الصهاينة. ومع بداية الألفية الثانية، بدأت الصحف الوطنية بنشر مقالات تستهدفه، فيما مارست الحكومة ضغوطاً على جامعة حيفا التي كان يعمل بها. في عام 2007، وصل الوضع إلى ذروته عندما نُشرت مقالة تضمنت عبارة تقول: "لا أطلب منكم قتله، ولكن إن قام أحدهم بذلك، فلن أتفاجأ." بعد هذه التهديدات الصريحة، اتخذ بابيه قرارًا سريعًا بمغادرة إسرائيل، وانتقل للإقامة في إنجلترا.

زار إيلان بابيه تركيا عدة مرات، وترجمت العديد من أعماله إلى اللغة التركية. ويواصل بابيه مع عدد من المؤرخين اليهود، أبرزهم آفي شلايم، في فضح أكاذيب الرواية الصهيونية، ويُعرف هؤلاء المؤرخون في الأدبيات بـ"المؤرخون الجدد". وتتميز كتب بابيه بعمقها وتأثيرها القوي، حيث توصف بأنها كـ"الرصاص" ثقلاً و"الطلقات" دقة. ولا نبالغ إذا قلنا إن كتابات بابيه فتحت أعين ملايين القراء حول العالم.

لقد مهدت بهذه المقدمة للحديث عن آخر أعمال بابيه المترجمة إلى التركية، وهو كتاب "تسويق الصهيونية - اللوبي الصهيوني على جانبي الأطلسي" (منشورات دار كتب، أكتوبر 2024). وقد قام بترجمة الكتاب إلى اللغة التركية م. مرتضى أوزران بأسلوب سلس ودقيق، علماً بأن النسخة الإنجليزية من الكتاب قد صدرت في يونيو، وتمت ترجمته إلى التركية قبل نهاية العام، وهو إنجاز يستحق كل الثناء والتقدير.

يبدأ إيلان بابيه كتابه بتناول تطور الصهيونية في الغرب، حيث يُسلط الضوء على خلفية وعد بلفور، وكيف تم الضغط على السياسيين البريطانيين. ويوضح بابيه جوانب مختلفة من أنشطة اللوبي الصهيوني في بريطانيا، ثم ينتقل للحديث عن مراحل ترسيخ اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة بالتفصيل. يكتشف القارئ، من خلال سرد شيق وجذاب، أن الصهيونية شهدت سنوات ذهبية خلال فترة رونالد ريغان، ثم يجد نفسه أمام مفاجآت غير متوقعة من التاريخ الحديث في الأقسام التي تقارن بين حقبتي كلينتون وأوباما. كل فصل من فصول الكتاب يفتح لنا آفاقًا جديدة، سواء من حيث المحتوى أو التفاصيل التي يتم تسليط الضوء عليها.

وفي نهاية الكتاب، يضيف إيلان بابيه جزءًا حديثًا حول أحداث طوفان الأقصى الأخيرة، مؤكداً أن إسرائيل أصبحت مركزاً للكراهية والعداء، ويتوقع أن يصل الرأي العام العالمي إلى نقطة يرفض فيها مشروع الاستعمار الصهيوني بشكل شامل.

باختصار يعد كتاب "تسويق الصهيونية - الضغط الصهيوني على جانبي الأطلسي" عملا أساسيا يجب أن يحتل مكانه في مقدمة قراءاتنا حول فلسطين.

عن الكاتب

طه كلينتش

كاتب تركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس