سلجوق ترك يلماز - يني شفق (4/11/2024)

كنت قد أشرتُ قبل السابع من أكتوبر إلى أن وجود إسرائيل ونزعتها العدوانية التوسعية لا يمكن تفسيرهما من خلال المفاهيم الدينية. وبالنظر إلى عدوانية إسرائيل التي تعد وصمة عار على الإنسانية جمعاء لم يكن من السهل على أي شخص أن يكبح جماح غضبه. ولكن التفكير بموضوعية يستدعي تفسير كيفية وصول الصهاينة إلى هذه القوة التي يُخضعون بها العالم بأسره. وكما يظهر في كل من غزة وجنوب لبنان، لا تملك إسرائيل قوة عسكرية قائمة بذاتها تدعم نفوذها، كما أن الجيش الإسرائيلي لا يمتلك هيبةً تؤهله لأن يُحترم كقوة رادعة. فمن الواضح تمامًا أن مجموعة مسلحة لا تراعي أي قيم أو حدود أخلاقية ستتصرف بوحشية كلما سنحت لها الفرصة. إلا أن شنَّ اعتداءات وقحة بلا تردد وإثارة الفوضى والفساد في الأرض ليس بالأمر اليسير إطلاقًا. من هنا كان لابد من تفسير عدوانية إسرائيل التوسعية، التي أثارت ضدها موجة كراهية عالمية وردود فعل جديدة ضد "اليهود"، بطريقة مختلفة تتجاوز التفسيرات التقليدية.

منذ البداية صاغ الأمريكيون والبريطانيون، الصهيونية كأيديولوجيا استعمارية، ووجهوا جهودهم نحو إنشاء "دولة يهودية" ذات قيمة جيوسياسية عالية في "الأراضي المقدسة". ولا يمكن لأحد أن يدعي أن الأنجلوسكسونيين كانوا يسعون وراء القضية اليهودية أو المسيحية. وكل من قرأ بعض الكتب عن تاريخ إنجلترا، مهما كان مستواها، يمكنه تكوين فكرة عن علاقة الأنجلوسكسونيين بالدين. ومع ذلك، لم نناقش بالكامل نتائج الاختلافات أو العداوة بين أوروبا الكاثوليكية والبروتستانت من منظور تنويري. وربما بسبب ذلك، غُلف دائماً شغف الأنجلو ساكسون بـ"الأراضي المقدسة" بطبقة من الغموض الديني. ولكن كما يشير إيلان بابيه في كتابه "تسويق الصهيونية.. اللوبي الصهيوني على جانبي الأطلسي"، فإن مصطلح "الأراضي المقدسة" تم إنشاؤه ضد مفهوم فلسطين. لقد استخدم الأنجلو ساكسونيون المفاهيم الدينية لتسييسها واستغلالها كأداة لتحقيق طموحاتهم الاستعمارية. وقد حققوا نجاحًا كبيرًا في ذلك، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، حيث انتشرت الصهيونية كالنار في الهشيم بين اليهود. ومع انتشار هذه الأيديولوجيا بشكل لا يقاوم بين اليهود، ارتقى الباحثون والمثقفون الصهاينة إلى مكانة عليا، أولاً في الولايات المتحدة وبريطانيا، ثم في جميع المناطق التي كانت خاضعة للهيمنة الاستشراقية.

وكلما نجح الصهاينة في التوفيق بين طموحاتهم وطموحات الأنجلوسكسونيين ازدادت قوتهم. وكانوا على دراية بأنهم سيّسوا اليهودية واليهود لتحقيق ذلك. وهذه المعرفة سهلت على المستشرقين الصهاينة اتهام الإسلام والمسلمين بتسييس دينهم. ولكن بعد الحرب العالمية الثانية، كانت الحركات المناهضة لبريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا، تتصاعد في قلب العالم الإسلامي، فبينما خضعت الكنيسة والمعبد، للأنجلوساكسونيين، قاوم المسجد بتضحيات هائلة. وأود أن أوضح أنني أستخدم مفهوم المسجد هنا على نحو مجازي. فقد كان العالم الإسلامي من المغرب إلى الهند، في خضم معركة تحررية ضد الإمبريالية. إن ما نراه اليوم من ضرورة العودة إلى أسماء كبرى في فكر ما بعد الاستعمار، مثل فرانتز فانون، يعكس أهمية كبيرة. ولذلك بات من الضروري إعادة قراءة أعمال شخصيات رائدة مثل مالك بن نبي وسيد قطب وأبو الأعلى المودودي، وعلي شريعتي، بنظرة جديدة. فقد قام باحثون مثل أوليفييه روا، الذين يدينون بشهرتهم لليبرالية الأمريكية، بإدانة هؤلاء المفكرين ضمن إطار ورؤى معينة، وشكّكوا في نزاهة أقلامهم. إن محاولة هؤلاء المفكرين الكبار منع المسجد من الانصياع للأنجلوسكسونيين كانت عملاً بالغ الأهمية.

ورغم النضالات الكبيرة التي حظيت باحترام في قلب العالم الإسلامي، أظهر الأنجلوساكسونيون مهارة في ابتكار أضعف الحلقات واستغلالها لصالحهم. ويعد خلق تنظيم "غولن" الإرهابي كهيكل تابع للنفوذ الأميركي والبريطاني ومحاولته التسلل إلى أوساط المساجد مثالاً بارزاً في هذا السياق. ومن المثير للاهتمام أن أول من أدرك محاولات التسلل هذه كانوا الإسلاميين، ولهذا لم تتقاطع دروب نجم الدين أربكان وزعيم تنظيم غولن الإرهابي قط. فقد وقف زعيم هذا التنظيم طيلة حياته في مواجهة الفكر الإسلامي ولم يتخلَّ عن عدائه للكتّاب والمفكرين الإسلاميين الذين سبق أن ذكرت أسماؤهم. وفي سياق مشابه واصل الأنجلوسكسونيون اختلاق واستخدام الحلقات الضعيفة، سواء في تركيا أو في العالم العربي ونجحوا في إدخالها ضمن خططهم. وتُعد اتفاقيات إبراهيم مثالًا مهمًا على ذلك، إذ يمكننا اعتبارها امتدادًا لمحاولات الحوار بين الأديان، ومن المهم الإشارة إلى أن هذه المبادرة الجديدة استندت إلى حلقات ضعيفة مثل الإمارات والبحرين.

أعتقد أنه من الضروري أن يتحمل المسيحيون الكاثوليك أيضًا جزءًا من المسؤولية، فهذه ليست حربًا بين الأديان.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس