سليمان سيفي أوغون - يني شفق

خلال فترة دراستي الجامعية، كانت لي تجربة غنية في ارتياد المقاهي. وما زلت أتعجب من قدرتي على إنجاز أكثر قراءاتي كثافة في تلك الأجواء الصاخبة والمزدحمة. على الرغم من ذلك، لم أكن بارعاً في ألعاب المقاهي قط. لم أتعلم لعب الطاولة، ولا أي لعبة من ألعاب الورق. لكنني، مع مجموعة من الأصدقاء، وجدت شغفي في لعبة الشطرنج. لقد عشقت هذه اللعبة، التي أعتبرها واحدة من أعظم اختراعات العقل البشري. وما زلت، كلما سنحت لي الفرصة، أستمتع بلعبها وأجد فيها متعة كبيرة.

أما بعض أصدقائي، فقد كانوا شغوفين بلعبة البوكر. كانوا يناقشون تفاصيل اللعبة بينهم بلغة غريبة ومصطلحات بدت لي غامضة. من بين هذه المصطلحات كان "البلوف". لم أتمكن من تعلم لعبة البوكر، لكن مع مرور الوقت بدأت أفهم، إلى حد ما، ما يعنيه "البلوف". تعرّفه القواميس بأنه "التعبير عن أقوال غير صحيحة أو التصرف بطرق خادعة بهدف إقناع الطرف الآخر بالتراجع عن موقفه".

البلوف، بطبيعته، يعتمد على نتيجته: نجاحه يتحقق عندما يستسلم الطرف الآخر. لا أعرف بالضبط كيف يعمل ذلك في لعبة البوكر، لكن من الواضح أن بلوفاً مقنعاً قد يدفع الخصم إلى الخسارة، حتى لو كان على وشك الفوز، أو قد يمنح اللاعب نصراً كان على وشك أن يخسره.

بهذا الشكل، يشير مفهوم "البلوف" إلى الفوز دون الاعتماد على الحقائق. بمعنى آخر، التظاهر بالمخاطرة الكبيرة بينما في الواقع لا توجد مخاطرة حقيقية، أو التظاهر بوجود شيء ذو قيمة بينما قد لا يكون له وجود حقيقي، لكنه يُقدَّم وكأنه موجود بالفعل. إنه نوع من المقامرة. فإذا نجح "البلوف" تحقق الفوز، أما إذا فشل فالخسارة تصبح حتمية.

ثم هناك ما يُعرف بـ"الروليت الروسية" (Russkaya Ruletka)، وهي لعبة أخرى، لكنها لعبة تعني الخسارة فيها الموت المحقق. في هذه اللعبة، يتم وضع رصاصة واحدة في مسدس دوار الأسطوانة. يتم تدوير الأسطوانة، ثم يُعطى المسدس لأحد اللاعبين. يضع اللاعب فوهة المسدس على رأسه ويسحب الزناد. إذا انطلقت الرصاصة، يموت اللاعب فوراً. وإذا لم تنطلق، فإن حظه، الذي يمثل فرصة 1/6، يكون قد حالفه. بعدها ينتقل الدور إلى اللاعب التالي، الذي يصبح حظه أقل، أي 1/5. يُقال إن هذه اللعبة ظهرت بين الجنود الروس الذين عانوا من صدمات نفسية أثناء الحروب. (كما أتذكر أنني رأيت حالات مشابهة لهذا السلوك بين القوى شبه العسكرية أثناء الحرب الأهلية اللبنانية).

عندما أفكر في التصعيدات الأخيرة في الحرب بين أوكرانيا وروسيا، أتذكر بشكل غريب هاتين اللعبتين. لقد تم بناء هذه الحرب بمنطق لعبة "البوكر". لقد أشعل الغرب الأطلسي، بمشاركة أوروبا القارية، هذه الحرب لكنه لم يواجه روسيا بشكل مباشر، بل استخدم أوكرانيا كقفاز (واجهة لتنفيذ مخططاته وكأداة للحرب). إذا كان القفاز هو أوكرانيا، فإن القبضة داخله كانت حلف الناتو. كان هذا تضليلاً صريحاً ومثيراً للاشمئزاز. وكما هو متوقع، كان القفاز، أي أوكرانيا، هو من دفع الثمن. فقد أصبحت أوكرانيا ممزقة ومدمرة. فرّ الملايين من الأوكرانيين من ديارهم، وقُتل مئات الآلاف في الحرب. تحولت المدن والبلدات إلى أنقاض.

هذه الحرب التي دخلت يومها الألف لم تؤد إلى انهيار روسيا كما كان يُتوقع. على العكس، أعادت روسيا تشكيل اقتصادها ليصبح اقتصاد حرب، وبدعم من الصين والهند، خرجت أقوى مما كانت عليه. (لكن هذا لا ينبغي أن يُنسينا أن روسيا أيضاً دفعت ثمناً باهظاً، حيث فقدت على الأقل عشرات الآلاف من شبابها، أي ما يعادل نصف خسائر أوكرانيا تقريباً.

في بداية الحرب، ارتكبت البيروقراطية العسكرية الروسية المثقلة أخطاء جسيمة. وكان أبرزها حادثة تمرد بريغوجين/فاغنر التي اندلعت أثناء الحرب. ومع ذلك، تمكنت روسيا من استعادة توازنها سريعاً. نجح الجيش الروسي في صد الهجوم الكبير الذي شنته القوات الأوكرانية العام الماضي، ومع الصبر والتخطيط التدريجي، سيطر على حوالي 20% من الأراضي الأوكرانية. وفي الآونة الأخيرة، حققت روسيا زخماً جديداً في التقدم، حيث بدأت تضغط على آخر معاقل المقاومة الأوكرانية التي تعاني من نقص حاد في الذخيرة والموارد البشرية. وإذا تمكنت من كسر هذه المعاقل، وهو احتمال قريب جداً، فستكون قد حققت هدفها الاستراتيجي بالسيطرة على نصف أوكرانيا تقريباً.

يسعى بوتين إلى إنهاء الحرب عند هذه النقطة والجلوس إلى طاولة المفاوضات كمنتصر. وفي الوقت نفسه، توقّع كثيرون أن التعاون بين بوتين وترامب قد يؤدي إلى إنهاء الحرب، خاصة بعد ظهور أنباء تفيد بأن ترامب يرغب في ترتيب مفاوضات السلام. لكن المفاجأة كانت أن فوز ترامب لم يثر أي رد فعل في روسيا. لم يظهر بوتين أي تغيير في موقفه، مما يشير إلى أن لديه معلومات مسبقة تؤكد أن وصول ترامب لن يعني نهاية الحرب.

من المعروف أن وزير الخارجية البريطاني الأسبق، ديفيد كاميرون، المعروف بعلاقاته الوثيقة بالدولة العميقة في بريطانيا، زار ترامب قبل الانتخابات وأجرى معه اجتماعاً طويلاً وسرياً. ويُعتقد أن هذا الاجتماع كان بمثابة تحذير دقيق باللهجة البريطانية الراقية لرجل أمريكي متهور يميل إلى المغامرة، مفاده أن الحرب ستستمر. وإذا كان لهذه الأحداث علاقة بمحاولات الاغتيال التي تعرض لها ترامب، فقد يكون ذلك بسبب مقاومته لهذه الضغوط. ومع ذلك، وبعد ثلاث محاولات اغتيال معروفة، يبدو أن ترامب قد تراجع عن موقفه.

بدأت التحولات عندما لم يعترض ترامب على قرار بايدن، ومعه بريطانيا وفرنسا وألمانيا، بالسماح باستخدام صواريخ بعيدة المدى لضرب العمق الروسي. بل أعلن لاحقاً دعمه لذلك. ومن هنا، بدأت الأمور تخرج عن السيطرة في "لعبة البوكر" السياسية، حيث استمرت الأطراف في رفع الرهانات. ردت روسيا بتغيير عقيدتها العسكرية بشأن استخدام الأسلحة النووية، ولأول مرة في التاريخ، أطلقت صاروخاً عابراً للقارات نحو أوكرانيا. كما هددت صراحةً بأنه إذا استمرت الهجمات الصاروخية، فإنها ستضرب قواعد الولايات المتحدة حول العالم، بدءاً بالأسلحة النووية التكتيكية، وإذا لزم الأمر، ستزيل مدناً كبرى مثل لندن، وباريس، وبرلين، ومدن الساحل الشرقي الأمريكي من الخريطة. وأكدت روسيا أن هذه العمليات لن تستغرق أكثر من 10-15 دقيقة، وأنه لا توجد أنظمة دفاعية حالية قادرة على اعتراض الصواريخ فرط الصوتية العابرة للقارات.

العالم يواجه الآن خطراً حقيقياً وكبيراً. ومع ذلك، رأت مصادر الناتو في هذه التهديدات مجرد "بلوف"، وأكدت عدم تراجعها عن قراراتها. بلغة البوكر، أعلن الناتو: "قبلت التحدي". وهكذا، انتهت لعبة البوكر، وبدأت لعبة "الروليت الروسية". والسؤال الآن: من سيمسك بالسلاح الذي سينفجر؟

لا أحد يستطيع التنبؤ بما سيحدث إذا أصابت صواريخ "ستورم شادو" الأراضي الروسية مجدداً. نعم، يريدون إنهاء الحرب، لكنهم لا يرغبون في أن يُتوّج بوتين كمنتصر في أوكرانيا. السلام ممكن، لكنه لن يأتي إلا بعد إنهاك روسيا تماماً وإضعافها بشكل كبير. ومن الواضح تماماً أن روسيا لن تقبل بهذا السيناريو بأي حال من الأحوال.

نشهد اليوم انهيار الحضارة الصناعية التي هيمنت على مركز التاريخ طوال القرنين الماضيين. هذا الانهيار لا يقتصر على الأزمات الاقتصادية المزمنة، مثل التضخم، والبطالة، وتراجع الإنتاج، بل يمتد ليشمل جميع المؤسسات والأنظمة التي شكلت دعائم هذه الحضارة وعززتها.

تأملوا هذا المشهد بالله عليكم... حضارة تزخر بالعلوم والفنون والفلسفة والإبداع، انتهى بها المطاف إلى اختزال تاريخ البشرية في لعبة البوكر والروليت الروسية. فهل نبكي على هذا الحال أم نضحك؟

عن الكاتب

سليمان سيفي أوغون

كاتب في صحيفة يني شفق


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس