ندرت أرسنال - يني شفق
طُرحتْ على وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، تساؤلات حول الأحاديث المتداولة بشأن إمكانية وجود مفاوضات أو حتى اتفاق بين روسيا والإدارة الأمريكية الجديدة بشأن الملف السوري، فجاء رده كالتالي:
"إذا شهد الصراع الروسي الأوكراني تجميدًا أو تخفيفًا، فقد يفتح ذلك المجال لمناقشة قضايا أخرى، بما في ذلك الملف السوري. وبالتالي، ليس الأمر مستبعداً. كما أنه من المحتمل جداً أن تسعى الولايات المتحدة، وهي تنسحب من المنطقة، إلى اتخاذ خطوات لحماية الأطراف التي استثمرت فيها بشكل كبير من أي ضرر محتمل."
ويتضح من هذا التصريح أن أنقرة فكرت أيضاً في احتمال تقارب روسيا والولايات المتحدة، بما في ذلك إدارة ترامب، في قضايا تتعلق بسوريا وملف تنظيم "بي كي كي/ واي بي جي" الإرهابي. وعند دراسة سيناريو انسحاب الولايات المتحدة من سوريا، فمن غير المعقول تجاهل مسألة "الاستثمارات المتبقية".
وهنا أود أن أشير إلى ملاحظة مهمة: إن البحث عن توافق بين قوتين كبيرتين، إذا ما حقق تقدمًا، قد يمتد تأثيره ليشمل قضايا أخرى خلافية بينهما. هذا يعد إحدى أساليب "العلاقات الدولية". فمن المثير للاهتمام أن نلاحظ أن الكثير من المحللين والخبراء أو الشخصيات المؤثرة، الذين يقضون ساعات طويلة على مدار اليوم في مناقشة قضايا مثل أوكرانيا وإيران وإسرائيل وسوريا سواء في البرامج الحوارية التلفزيونية أو المقالات التحليلية، يتجاهلون هذا الاحتمال. والجدير بالذكر أنه قبل أسابيع، أشرنا هنا إلى أن مثل هذا التقارب المحتمل قد يؤثر على التوتر بين إيران وإسرائيل.
لنعد إلى موضوعنا الأساسي، من الواضح أن أي سيناريو روسي أمريكي مشترك في سوريا سيثير قلق تركيا.
وهنا تتبادر إلى الأذهان أيضًا تساؤلات تلقائية، كيف ستتعامل إيران إلى هذه المسألة وكيف ستتصرف إسرائيل؟ وغيرها من الأسئلة ذات الصلة. ولكن قبل الخوض في هذه التفاصيل المعقدة، يجب علينا تقييم إمكانية التوصل إلى اتفاق بين روسيا والولايات المتحدة بشأن أوكرانيا.
التصور العام، أو لنقل "التوقع المسبق"، يشير إلى أن تولي ترامب الرئاسة سيؤدي إلى بداية مرحلة جديدة في أوكرانيا، قد تشهد التوصل إلى تفاهم مع روسيا، بما يعني قبول شروطها إلى حد ما، وإغلاق ملف الحرب التي أودت بحياة نصف مليون شخص
لكن تحقيق حل شامل ونظيف بهذا الشكل، يعيد ضبط جميع التوقعات والمصالح، يبدو أمرًا بعيد المنال. فالواقع ليس بهذه البساطة.
كنا قد ناقشنا سابقاً كيف أن التصعيد العسكري المفاجئ الذي حظي بدعم وتشجيع إدارة بايدن قد تم تبنّيه بسرعة في أوروبا، لا سيما من قبل الرباعية: بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وبولندا. هذا التصعيد كان واضحًا أنه يمثل موقفاً مشتركاً بين ترامب وبايدن.
أما رد روسيا على هذه الموجة، فكان عبر صاروخ أوريشنيك والذي يعني "شجرة البندق".
لقد جاء ظهور صاروخ أوريشنيك - والذي تفاجأت به الولايات المتحدة نفسها وفقًا لما ذكروه، بل وحتى المتحدث باسم الكرملين بيسكوف، ليحمل في طياته مفاجأة كبيرة، ورسالة واضحة وصلت إلى وجهتها. من بين هذه الرسائل، التحذير الصريح بأن أمن أي قوة في أوكرانيا لم يعد مضمونًا. كما أنها كانت بمثابة رد قاطع على خطط لندن وباريس لإرسال قوات عسكرية.
إن الاعتقاد السائد بأن "الخطوط الحمراء" لروسيا، أو قدرتها على الردع النووي، ليست أكثر من مجرد خطابات وتهديدات فارغة، هو نتاج عقلية غربية، إلا أن تركيا، كانت على يقين دائم بوجود خطر نووي حقيقي، وأن الأمر ليس مجرد مزاح.
هذه هي الرسائل التي يحملها الصاروخ متعدد الرؤوس، وإحدى هذه الرسائل موجهة إلى ترامب أيضاً. فكما نعلم، انسحب ترامب من معاهدة القوى النووية المتوسطة المدى خلال فترة ولايته الأولى، وكان تطوير صاروخ أوريشنيك نتيجة مباشرة لهذا الانسحاب. وبلغة السياسة، تعني هذه الخطوة أن موسكو لا تثق بترامب.
وبالرغم من أن العلاقة بين ترامب وبوتين كانت أكثر انفتاحًا مقارنة بعلاقة بايدن، إلا أنه لا يوجد أي تقارب حقيقي بينهما. قد ترغب الولايات المتحدة في "تجميد" الحرب، ولكن ذلك لأنهم يعلمون أنهم "لن يتمكنوا من الفوز" بالإضافة إلى أنهم يرغبون في العودة بسرعة إلى أولوياتهم الاستراتيجية الأخرى.
يمكن تخفيف حدة الحرب وخفضها إلى مستوى الأزمة، والاستمرار في تحقيق المكاسب منها.
وتتمثل تلك المكاسب في عودة أمريكا لتتصدر قائمة أكبر شريك تجاري لأوروبا بعد فترة طويلة.
لقد تحملت أوروبا فاتورة الأزمة الأوكرانية وستواصل دفعها مستقبلاً، بينما تساهم هذه الأزمة في تقييد روسيا وإضعافها، أو على الأقل عرقلة تطورها. وشهدنا مؤخرًا فرض الولايات المتحدة عقوبات على بنك "غازبروم" الروسي التابع لشركة الغاز المملوكة للدولة غازبروم، والمخصص للمدفوعات المتعلقة بصادرات الغاز الطبيعي. هذا الإجراء يعكس الرد الغربي على تصعيد روسيا.
أما على الصعيد الأوروبي، فإن تحويل الموارد إلى الإنفاق العسكري يزيد من تعقيد المشهد الاقتصادي والسياسي الهش في الأساس حتى نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرومانية الأخيرة تعكس هذا الاتجاه بشكل جلي.
والخلاصة هي أن أي شخصية سياسية تتولى السلطة في الولايات المتحدة ستستمر في الاستفادة من مكاسب أوكرانيا.
وبالرجوع إلى تصريح رئيس اللجنة العسكرية لحلف شمال الأطلسي، الأدميرال روب باور، الذي دعا إلى "إلى تجهيز الأنظمة الاقتصادية والإنتاجية لمواجهة سيناريوهات حرب اقتصادية مع روسيا والصين، وتعديل خطوط الإنتاج والتوزيع وفقًا لذلك"، وتصريح وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس الذي قال إن "موقف روسيا موجه ضدنا أيضًا، وأن الحرب قد أصبحت عالمية"، يتضح لنا التغيير في الموقف.
السؤال المطروح الآن هو: إلى أي مدى يستطيع ترامب الحفاظ على خططه العالمية بعد فوزه الانتخابي المذهل؟ فولاية الرئاسة تستمر أربع سنوات فقط، ويجب ألا ننسى أن انتخابات الكونغرس ستجرى بعد عامين. أما الانتخابات النصفية فموعدها أقرب.
إلى جانب ذلك، يجب أن نضيف أن خطط ترامب العالمية ستواجه معارضة داخلية، ولكن سيكون هناك أيضًا مقاومة من حلفاء الولايات المتحدة.
وتظل روسيا متمسكة بشروطها للسلام كما هي، وهي شروط صعبة القبول. ولا يبدو أن موسكو مستعدة لتقديم أي تنازلات أو تغيير في رأيها. ويوم السبت الماضي نشرت صحيفة "الغارديان" البريطانية خبراً مفاده أن "تخلي روسيا عن التعاون العسكري مع الصين سيسهل الأمور على أوكرانيا". لكن مثل هذه الاستطلاعات البريطانية لا تجد صدى لها في الكرملين حالياً.
باختصار، إن التوصل إلى اتفاق سلام حقيقي بين الولايات المتحدة وروسيا بشأن أوكرانيا، يرضي جميع الأطراف، سيستغرق وقتاً وجهداً، ولن يكون أمراً سهلاً. وينطبق الشيء نفسه على الصراعات الأخرى في المنطقة مثل الصراع الإيراني الإسرائيلي والملف السوري وتنظيم "بي كي كي/ واي بي جي" الإرهابي. وعلى تركيا أن تستغل هذا الوقت بحكمة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس