أرسين جليك - يني شفق
لقد سافرت إلى سوريا عدة مرات، وزرت المخيمات، وتجولت في مناطق العمليات التركية. وكتبت مقالات عن الانطباعات التي حصلت عليها. ولم تكن تلك المناطق مختلفة كثيرًا عن بلدات جنوب تركيا. ولكن حلب والمنطقة المحيطة بها، كانت مختلفة تمامًا. بل إن ما رأيته في عفرين وإدلب وأعزاز وباب لا يشبه على الإطلاق سوريا التي نعرفها ونكتب عنها.
في الحقيقة إن نظرتي إلى الثورة السورية وما جرى خلال السنوات الثلاث عشرة الماضية قد تغيرت.
دعوني أسرد لكم تفاصيل ما حدث خلال الأيام القليلة الماضية. كل شيء تغير في غضون 13 يومًا، ثم انتهى بنا المطاف في حلب. في الأسبوع الماضي اقترح الأخ آيدن أونال في ختام حلقة برنامجنا السياسي على قناة "تي في نت" أن نصور الحلقة القادمة في حلب، وطلب أن يحضر معنا الأخ صمد دوغان، فوافقته على ذلك. ولكنني كنت حذرًا لأن دمشق لم تكن قد أصبحت بيد الثوار بعد، ولم يسقط نظام الأسد بشكل كامل. ولكن مع سقوط دمشق صباح الأحد في أيدي الثوار، بات الطريق إلى حلب مفتوحًا أمامنا.
ويوم الثلاثاء حصلنا على التصاريح اللازمة وعبرنا إلى الأراضي السورية من معبر أونجو بينار. وصلنا إلى حلب بعد الظهر. وقررنا إلغاء خطتنا بالمرور عبر تل رفعت حتى نصل إلى حلب قبل غروب الشمس. كنا مجموعة مكونة من ثمانية أشخاص: آيدن أونال، وإسماعيل كيليتش أرسلان، وصمد دوغان، ومدير أخبار قناة "تي في نت" أركان كايماز، ومحررتنا نيسا نور تشاوش أوغلو، والمخرج الشاب كان من "تي في نت" والمصور موسى سورار. خططنا أن نتجول ونشاهد ونصور وننقل انطباعاتنا في يوم واحد، ثم نعود. وهذا ما حدث بحمد الله.
من يعرف الطريق إلى حلب سيذكر أن بدايته من غازي عنتاب، حيث تبرز اللافتات ذات الخلفية الصفراء التي كتب عليها حلب باللغة التركية. لكن عند عبور الحدود السورية، تختفي الخلفية الصفراء لتحل محلها لافتات كتب عليها بالإنجليزية "Aleppo". ذلك الطريق كان مغلقًا لمدة 13 عامًا، ولم يعد هناك طريق صالح للسير. وأثناء التوجه من أعزاز نحو تل رفعت، انتهت فجأة الأرض المعبدة، وبدأت الطريق الترابية بعد الحواجز الخرسانية. هنا أشار صمد دوغان إلى أن نهاية الطريق المعبدة هي العلامة على خروجنا من منطقة "غصن الزيتون" التي تسيطر عليها تركيا. كنا حينها في أراضٍ كانت قبل 10 أيام فقط تحت سيطرة تنظيم "بي كي كي" الإرهابي. لقد كنا في جزء من سوريا يكاد يكون مجهولًا للعالم.
من هنا بدأت نظرتنا للحرب الأهلية السورية تتغير. مررنا عبر قرى وبلدات أشبه بالأشباح، مدمرة بالكامل، حتى أنه لم تسلم من القصف أي منازل تقريبًا. المساجد والمدارس تعرضت للدمار. كانت المشاهد أكثر مأساوية من أي زلزال. أخبرنا صمد دوغان، الصحفي الحربي المتمرس والذي يعرف المنطقة جيدًا أن هذه المناطق كانت تحت سيطرة المعارضة في بداية الثورة عام 2011، ولكن النظام السوري، بدعم روسي، قصفها حتى دمرها تمامًا وأوصلها إلى هذه الحال. رأينا شوارع لم يبقَ فيها حجر فوق حجر، وظلت على هذا الحال منذ ما لا يقل عن 10 سنوات.
مررنا بمنطقة خان العسل الواقعة جنوب غرب حلب، وعندما رأينا أطفالًا يلعبون في الشارع توقفنا. لم نكن متأكدين من الطريق المؤدي إلى حلب وكان علينا أن نسأل لنعرف الطريق. خرج إلينا شاب من منزله وعانقنا. كان تركمانيا، وكنا أول ضيوفه أمام منزله الذي عاد إليه بعد سنوات من الغياب. كان قد لجأ إلى حلب عندما بدأ القصف، ولم يعد منذ ذلك اليوم. أخبرنا بأن اللصوص سرقوا كل ممتلكاته، ولكنه قال: "الحمد لله على كل حال". ولفت نظري منزل آخر في نهاية الشارع. كان المنزل ذا جدران عالية وباب حديدي رمادي، ولكن لم يكن هناك أي أثر للحياة داخله. كان مكتوبًا على شرفته "بيت أبي جعفر"، وكانت عبارات "الله ومحمد" منقوشة على جوانبه. وكانت جدرانه المطلة على الشارع مليئة بثقوب الرصاص. طرقت الباب بشجاعة ولكن لم يفتح أحد. قلت في نفسي: يجب أن أطرق كل الأبواب وأعيد إحياء الذكريات. أين يمكن أن يكون هؤلاء الناس الذين تركوا هذه المنازل وهذه المدن الآن؟ ربما هم في تركيا، ويستعدون للعودة... كانت جميع القرى والبلدات حول حلب خالية من السكان، ولكن الطريق الرئيسي كان يزدحم بالسيارات المتجهة ذهابًا وإيابًا. وبعد اكتمال الثورة، بدأ الناس في الداخل السوري يعودون إلى منازلهم. وكان الذين لجأوا إلى حلب الأكثر أماناً يعودون بعد سنوات لإعادة إشعال مواقدهم.
عندما وصلنا إلى مدينة حلب، تلك المدينة الإسلامية العريقة التي يعني اسمها "إعطاء الحليب"، كانت الأجواء مفعمة بالحماس والفرح. كانت الاحتفالات مستمرة في قلب الثورة، حيث تجمع الشعب السوري عند سفح قلعة حلب، التي شهدت عبر التاريخ العديد من الأحداث العظيمة، واحتضنت قادة مسلمين مثل نور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي. وكما وصفها إسماعيل كليتش أرسلان، كنا في "نقطة انعطاف التاريخ". كانت حلب مفتاح القدس.
اختلطنا بالناس الذين كانوا يحتفلون. وعندما عرفوا أننا أتراك، عانقونا بحرارة وشاركوا معنا فرحة الثورة. وكان التركمان والعرب والأكراد والأرمن يغنون بصوت واحد، والشباب يرقصون على إيقاع الطبول احتفالًا بالنصر. قمنا بالتصوير بالقرب من بوابة قلعة حلب المطلة على المدينة. كانت نسائم الحرية تعبق في الأجواء، في كل شارع من شوارع حلب، في كل خطوة، وحتى في المقاهي. دخلنا أحد الأماكن وجلسنا، وتحدثنا مع أصحاب المتاجر ومع الحلبيين الذين كانوا حتى وقت قريب يعيشون في بلدنا. كان الناس يتحدثون عن الثورة بشغف واعتزاز.
لم نواجه أي مشاكل أمنية أو حالة من الفوضى. كان الشعب السوري، وبعد ستين عامًا، يستمتع بحرية التنقل في شوارع حلب ولكن كانت الأبنية تعاني من أضرار جسيمة. فقد قصف الأسد هذه المدينة العريقة، وهدم بيوت أهلها بلا رحمة، ورغم الأضرار الجسيمة التي لحقت بالبنية التحتية والفوقية، كانت حلب حاضرة وشامخة.
وعندما أذن العشاء كنا نقف أمام الجامع الأموي الكبير في حلب الذي دُمرت مآذنه واستشهد فيه مئات من الثوار. قمنا بتصوير الجزء الثاني من برنامجنا. ثم انطلقنا في طريق العودة، وفكرت ملياً كيف حدثت الثورة في 12 يوماً فقط، ولكن ماذاعن 13 عاماً من الحرب الأهلية، المجازر الفظيعة، والتعذيب الذي لا يمكن تخيله؟ نحن تابعنا الحرب من بعيد، واستمعنا إلى روايات من فرّوا منها خوفا على حياتهم. كما زرنا مناطق عمليات غصن الزيتون ودرع الفرات، ورأينا الوضع عن كثب. ولكن ماذا عن المناطق الأخرى؟ لم نكن نعلم ما يجري في المدن والقرى المحاصرة من قبل النظام، وتنظيم "بي كي كي" الإرهابي، وحزب الله. ولم نكن على دراية بحالتها. وقد ازداد غضبنا تجاه أولئك الذين أساؤوا إلى الشعب السوري، سواء كان ذلك عن جهل أو عن قصد، استناداً إلى مقاطع الفيديو التي كان يصورها مرتزقة النظام الذين أحضرهم الأسد إلى دمشق. وأقول بكل وضوح:هؤلاء الأشخاص لا يقلون ظلماً عن الدكتاتور الأسد نفسه.
لقد كان لدينا الكثير من الدروس لنتعلمها من الثورة في سوريا، وسأشارككم انطباعاتي عن حلب بين الحين والآخر، وبالتأكيد سأزورها في كل فرصة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مواضيع أخرى للكاتب
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس