عبد الناصر سلامة - الجزيرة مباشر

لا شك أن الحالة السورية بملابساتها الحالية عصية على الفهم والاستيعاب، صعبة التناول، ثقيلة التداول، تحتاج إلى كثير من الجهد لفك شفرتها، كثير من الوقت لحل أزمتها، ظلت 13 عامًا في حالة تعسر حتى حققت هدف إزاحة النظام، قد يتطلب الأمر مثلها للاستقرار، إلا أن الأمر يستحق، أمر سوريا العروبة، الخلافة، التاريخ، الجغرافيا، الجمال، التجارة، الشطارة، الانتشار، إلى غير ذلك من كثير، يجعلنا أمام أمة كانت وما زالت وستظل متميزة، قائدة، محورية، نشطة، حتى في أحلك الظروف المتمثلة في الحصار والمقاطعة، واللجوء والهجرة، الحرب والسلام، كانت تخرج منها دائمًا وأبدًا بشموخ وهيبة.

أزمة سوريا هذه المرة ليست ككل مرة، بل ليست ككل الأزمات، الموقع الجغرافي السوري المتميز أصبح نقمة عليها، في ظل بحث الكبار عن طرق حرير جديدة، تارة للسفر والتنقل، وتارة أخرى للتجارة والصناعة، وتارة ثالثة لمد أنابيب المحروقات بين القارات والأقاليم، أيضًا كان لاكتشاف النفط والغاز بالسواحل والمياه الإقليمية السورية أثر كبير في مجريات الأحداث الجارية، بينما كانت عراقة التاريخ السوري أشوريًا وإسلاميًا وعربيًا، محط أنظار العالم طوال الوقت، من مثقفين وسياسيين على السواء، بل ورجال دين من الباحثين في الغيبيات ونهاية العالم، وظهور ما يعرف بالعلامات الصغرى والكبرى، وما شابه ذلك.

الغريب في الحالة السورية الراهنة هو ذلك الانقسام والتضارب في الموقف العربي ككل، ممثلًا في حالة الفزع والهلع لدى السلطات الرسمية، خوفًا من المد الثوري، والموقف الشعبي ممثلًا في حالة الفرح والاحتفالات بذلك الإنجاز المتمثل في رحيل النظام البعثي الجاثم على صدور الشعب هناك، أكثر من نصف قرن من الزمان، التناقض بين الموقفين، الرسمي والشعبي على المستوى العربي، مثير للاهتمام، ذلك أن النبض العربي ما زال فاعلًا في دماء الشعوب التي تغضب لغضب الأشقاء، وتفرح لفرحهم، بينما لم تعد السلطات الرسمية تغضب حتى للاعتداءات الإسرائيلية اليومية على الشعب السوري، وعلى مقدراته الصناعية والعسكرية والمدنية.

الأكثر غرابة، هو أن السلطات الرسمية العربية التي لم تنتفض لحرب الإبادة على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، أو جراء القصف الوحشي على الشعب اللبناني، تتعامل مع مجريات الأحداث في المنطقة عمومًا، باعتبارها بعيدة عن الجغرافيا الخاصة بكل دولة على حدة، على الرغم من وضوح المخطط الإسرائيلي المعلن، بخرائط تفصيلية تشمل العدوان على عدد ليس قليلًا من دول المنطقة، بهدف توسيع مساحة الكيان، تحت مسمى إعادة رسم خريطة المنطقة، وهو ما يعني أن الحاصل الآن، هو الانفراد بكل دولة على حدة، في وقت غابت فيه العواصم العربية الكبرى خزيًا وعارًا، وتوارت فيه البقية الباقية خوفًا وهلعًا، حتى أصبح الصمت حالة مشتركة.

وليس أدل على حالة الانقسام بين الموقفين الرسمي والشعبي هذه، من الإصرار على سياسة الديكتاتورية المفرطة التي تنتهجها السلطات الرسمية هنا وهناك تجاه الشعوب، وتشييد المزيد من السجون والمعتقلات، بما يتناقض مع الآمال الشعبية التي رأت في الأحداث السورية رسالة قوية للأنظمة، بضرورة تنفيذ إصلاحات جذرية، فيما يتعلق بالحقوق والحريات والقوانين والمحاكم الاستثنائية، إلى غير ذلك من مساوئ كثيرة، إلا أنه بدا واضحًا أن النتائج تأتي عكسية دائمًا، بمزيد من التعسف ونشر القبضة الحديدية على نطاق أوسع، على اعتبار أن ما جرى من تجاوزات الأنظمة خلال السنوات السابقة، لا يمحوه غفران أو بدء صفحة جديدة، بالتالي فإن الإصلاحات لا معنى لها.

لن يستطيع المراقبون والمؤرخون تجاهل المعطيات العديدة، التي تشير إلى أن أطرافًا كثيرة كانت فاعلة في الترتيب للأحداث السورية الأخيرة، من بينها تركيا وإيران والولايات المتحدة وفرنسا وروسيا، وحتى إسرائيل، بما يعني أن العرب كانوا مجرد مشاهدين، آثروا عدم التدخل، ليس ذلك فقط، بل عدم التعليق طوعًا أو كرهًا، وهو أمر لو تعلمون عظيم، ذلك أن التخاذل العربي الحاصل حاليًا تجاه التوغل الإسرائيلي في الأراضي السورية باحتلال أراضٍ جديدة، والإعلان رسميًا عن عدم الانسحاب من الجولان مستقبلًا، يؤكد أننا أمام أسوأ مرحلة، وأسوأ إدارة، في التاريخ العربي الحديث.

وعلى الرغم من أن المنطق يحتم على العواصم العربية، بمختلف توجهاتها، التعاون مع السلطات الجديدة في سوريا، دعمًا لاستقرار المنطقة، ودعمًا لشعب شقيق عانى الكثير من الشتات واللجوء والقهر، إلا أنه بدا واضحًا غياب ذلك التوجه، وذلك بعد غياب بيانات التأييد أو الترحيب بالقيادة الجديدة للشعب السوري، حتى وإن كانت تلك هي إرادة الشعب، الذي لا يوجد أمامه خيار آخر الآن، إلا أن ذلك كله لم يشفع لدى أنظمة متشابهة إلى الحد الذي جعل من التعاون الأمني مجالًا وحيدًا للتعاون الفعلي على حساب الشعوب، أو بمعنى أدق: في مواجهة الشعوب.

التقارير الواردة من سوريا، كما تصريحات قادة الكيان الصهيوني، تؤكد جميعها أن الطائرات الإسرائيلية دمرت الأسطول البحري السوري، حيث يقف في الموانئ البحرية، كما دمرت أسطول الطائرات الحربية، حيث تقف في حظائرها ومطاراتها، كما دمرت مخازن المقذوفات والأسلحة من صواريخ ودبابات، وبطاريات الدفاع الجوي، وغير ذلك من مراكز أبحاث، ومقار إدارية ومخابراتية، بما يعني أن سوريا لم تكن في حالة اشتباك، أو تهديد للكيان بأي شكل من الأشكال، وهو ما كان يستوجب وقفة عربية واضحة، على اعتبار أن أسلحة الجيش السوري تمثل مخزونًا استراتيجيًا للأمة العربية قاطبة، في وقت تترصدها المؤامرات من كل حدب وصوب.

على أية حال، فإن قراءة الواقع السوري، تشير إلى أن ما جرى هناك، لا يجب أن يمثل فزاعة للأنظمة العربية، إلى الحد الذي يجعلها تتخلى عن حماية الشعب والأرض والعرض هناك، من ذلك العدوان الصهيوني المتواصل، ذلك أن الحالة السورية تختلف في مجملها عن الحالة العربية جملة أو تفصيلًا، وهو ما كان يستوجب الدعوة إلى عقد قمة عربية طارئة، تبحث التدخل الفوري لحماية الأراضي السورية من ذلك المخطط الواضح المعالم، الذي يرتكز على تقسيمات طائفية وعرقية، بدا واضحًا أن للكيان الصهيوني نصابًا منها، بما يجعل من الصمت أو غض الطرف، عار ما قبله ولا بعده، سوف يرتد على الجميع، عاجلًا غير آجل، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

عن الكاتب

عبد الناصر سلامة

رئيس تحرير الأهرام سابقا


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس