محمد قدو الأفندي - خاص ترك برس
يعرّفُ الدستور على أنّه القانون الأسمى في الدولة، والذي يتمّ من خلاله تحديد شكل الدولة، وحكومتها، ونظام حكمها، وطبيعة السلطات، واختصاصاتها، والعلاقات فيما بينَها، وحدودها، إلى جانب تحديدِه لحقوق المواطنين: أفراداً، وجماعاتٍ، وضمان أداء هذه الحقوق لهم من خلال القوانين التي تشرع تحت خيمة الدستور دون مخالفة المواد الدستورية.
صرح قائد سوريا الجديد أحمد الشرع بأن سوريا تحتاج الى دستور جديد يواكب التطور العالمي ويضمن استقرار الدولة مضيفا بأن أقرار الدستورالجديد يتطلب جهد ثلاث سنوات حتى إقراره والعمل به.
وهذه المدة التي حددها الشرع والتي تعتبر بنظر البعض غير منطقية نظرا لطول المدة التي حددها ورأوا بأن سنة أو سنة ونصف كافية لإعداده والتصويت عليه من قبل الشعب أو البرلمان لإقراره نهائيا.
إن تنويه أحمد الشرع إلى إطالة مدة الإقرار الدستوري - هو إقرار دستور توافق عليه كل الجهات في سوريا إثنية أو عقائدية - وحتما يتم هذا بعد انعقاد التجمع أو المؤتمر العام لرؤساء الأحزاب والمنظمات والشخصيات السياسية والعشائرية والذي من المزمع إقامته لاحقا.
إن ما يتمخض عن هذا التجمع هو تشكيل لجنة موسعة تضم شخصيات سياسية وأساتذة حقوقين وأكاديميين يحددون الإطار العام للدستور المقترح وهولاء يمثلون المجموعة الأولى أو الهيئة الموسعة التي تتكلف بوضع إطار عام للدستور السوري المقترح.
ثم بعد ذلك وهو في العرف السائد في الكثير من الأمم هو كتابة المواد الدستورية التي تم تحديد ملامحها مسبقا من قبل الهيئة أو ما تسمى بالمجموعة الأولى، بصورة شاملة وتامة مع إقرار الديباجة أو المقدمة وهولاء هم المجموعة الثانية أو الهيئة المصغرة.
وتقوم هيئة ثالثة بتعديل المواد الدستورية التي كتبت من الهيئة الثانية والتي قد تخالف المصدر الرئيسي للتشريع الدستوري أو التي لا تغطي القوانين أو القرارات التي تملك قوة القانون التي اتخذت مسبقا.
إن الوضع في سوريا لا يختلف كثيرا عن الوضع التركي وإن تركيا أقرت ثلاثة دساتير، فبعد قيام الجمهورية التركية في بدايات القرن الماضي تمت إضافة مواد دستورية وعدلت بعض المواد للقانون الأساسي للدولة العثمانية واعتمد كدستور للجمهورية التركية الفتية عام 1924، واستمرت التعديلات الدستورية للدستور المذكور حتى عام 1936 حيث أقر بشكله النهائي من قبل الجمعية الوطنية التركية (المجلس الوطني التركي الكبير).
إن الدستور التركي المتفق عليه عام 1936 لم يكن يلبي طموحات المؤسسة العسكرية والتي رأت نفسها مغبونة باعتبارها محررة البلاد ويجب أن يكون لها دور شمولي في مسار مؤسسات الدولة الرسمية لأنها كلفت أيضا بمهمة المحافظة على النظام السياسي السائد في تركيا إضافة إلى مهمتها الرسمية والحقيقية في صد أي عدوان خارجي ضد البلاد، ورغم ذلك فإن أتاتورك حاول بطريقة ما أن تكون الوزارة المشكلة وزارة قريبة من مطامح المؤسسة العسكرية فقد كلف العسكري عصمت إينونو وهو برتبة فريق أول بتشكيل الوزارة وزاد من نفوذ المؤسسة العسكرية في الدولة عندما أوكل إلى الأميرال فوزي جوقماق بحقيبة وزارة الدفاع وشغل أيضا منصب رئيس أركان الجيش وهو أعلى رتبة من رئيس وزرائه المكلف إينونو وبذا نجح بترسيخ هيمنة المؤسسة العسكرية في تركيا على الحياة السياسية.
ورغم وجود دستور يحمل طابعًا عسكريًا ومدنيًا مشتركًا إلا أن كفة الرجحان كانت تميل إلى تثبيت الحياة الديمقراطية المؤسساتية والحريات المدنية والحزبية، حيث تشكلت أحزاب معارضة تتوق إلى التصالح مع الهوية الأساسية لتركيا ولا ترغب في ارتداء ثوب العلمانية، وأبرز تلك الأحزاب هو الحزب الديمقراطي رابع أحزاب المعارضة التركية بعد تأسيس الجمهورية.
لم تتقبل المؤسسة العسكرية وجود مدني على رأس السلطة التنفيذية في تركيا رغم أن عدنان مندريس اتجه بتركيا نحو الغرب الأوربي والأمريكي فانضمت تركيا إلى حلف الناتو وأرسلت قوات إلى كوريا دعما للحلف ولكن كان للعلمانيين والمؤازرين من القوميين رأيٌ آخر فتم الانقلاب عليه عام 1960 وبذلك أسدل الستار على عصرالحكومة المدنية والدستور القديم.
تمت كتابة دستور جديد والموافقة عليه بعد تكليف الخبراء بمدة تجاوزت السنة بقليل لغرض تثبيت وضعية الدولة العسكرية والقومية، واستلم إينونو من جديد دفة الحكومة التنفيذية وبدأ التراجع الاقتصادي والحزبي وقيدت النشاطات السياسية للكثير من الأحزاب المعارضة، واستمرت الحكومات الائتلافية دون إنجازات حقيقية حتى غدا رئيس الوزراء هو رئيس المجلس، باعتبار أن الوزراء هم الناطقون والمتنفذون لأحزابهم، فمنذ عام 1972 وحتى عام 1980 تشكلت أربعة عشر حكومة ائتلافية ضعيفة مهمتها هو إنجاز الواجب اليومي للدولة دون وجود خطط استراتيجية حقيقية للنهوض بالدولة، كما سادت في تركيا حرب داخلية تقودها الأحزاب بمختلف اتجاهاتها سواء كانت يمينية أو يسارية – حتى استغلت المؤسسة العسكرية تلك الفرصة الذهبية وقامت بانقلاب عام 1980 بقيادة كنعان إيفرين.
قام كنعان إيفرين بالترويج لدستور جديد تم إنجازه في ظرف سنة أو أكثر بعدة أشهر وتمت المصادقة على الدستور الجديد في استفتاء شعبي عام 1982 وسمي بدستور اللاءات، فقد حوت أكثر المواد استثناءات في تنفيذها لتضيق تطبيق تلك المواد على فئة واسعة من المواطنين.
وكما نوهنا بأن هذا الدستور قد أعد خصيصا لتثبيت العلمانية ومنع وصول أية جهة حزبية أو مجتمعية مدنية لا تستطيع ارتداء هذا الثوب الفضفاض إلى مراكز متقدمة في إدارة الدولة، وأصبح من العسير التجاوز أو الالتفاف للتخلص من حبائل العلمانيين باستنادهم للمؤسسات الدستورية التي نصبوها كحاجز لوصول أطراف المعارضة لساحاتهم ومرابيعهم – لغاية وصول حزب العدالة والتنمية الذي استطاع تمويه المؤسسات الأتاتوركية والعلمانية بأنها لا تتعدى الحدود المسموح لها فكريا وتطبيقا، ساعدهم في ذلك دعوة بولند أجاويد لاجراء انتخابات مبكرة ضنا منه بالفوز بأغلبية تتيح له تشكيل حكومة ائتلافية هامشية من غير أحزاب.
مع وصول حزب العدالة بدأت نشاطاته الجوهرية واخذ على عاتقة إجراء سلسلة من التعديلات الدستورية حتى وصل به الأمر لغاية عام 2010 بتعديل ثلثي المواد الدستورية وتم تعديل قسم من تلك المواد لأكثر من مرة، واستمر على هذا المنوال حتى عام 2017 حيث طرح لاحقا حزمة جديدة من التعديلات الدستورية شملت تغيير نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي، ورغم كل هذا الإنجاز فهو الآن يدعو لاعتماد دستور جديد للبلاد باعتبار أن الدستور الحالي المعدل لا يفي بمتطلبات الدولة العصرية.
وعليه فإن أي دستور سيعتمد يجب أن لا يكون قد كتب استنادا إلى تطلعات طرف سياسي أو جهوي واحد بل يجب أن يعبر عن تطلعات كل الأطراف بحيث تكون خيمة واسعة تتسع للحكومة الحالية والحكومات اللاحقة ولا تضطر أية جهة تصل إلى سدة الحكم للقيام بإجراء تعديلات على المواد الدستورية أو حتى تبني دستور جديد، حتى لو استمرت كتابة وإقرار الدستور المزمع اعتماده عدة سنوات.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس