ترك برس

تناول تقرير للكاتب والإعلامي التركي سلجوق تورك يلماز، تأثير اللوبيات، خاصة اليهودية، على السياسة الأمريكية والدولية، ودورها في تشكيل التصورات السياسية والإيديولوجية، سواء في الولايات المتحدة أو في تركيا.

وناقش التقرير الذي نشرته صحيفة يني شفق كيفية استخدام اللوبيات كوسيلة للتأثير على القرارات السياسية الكبرى عبر المال والشبكات القوية، خاصة خلال فترة الحرب الباردة وما بعدها.

ويسلط التقرير الضوء أيضًا على الأبعاد الثقافية والإيديولوجية التي ترافق هذا التأثير، مع التركيز على العلاقة بين هذه اللوبيات والتصورات السائدة في تركيا، بالإضافة إلى تأثير الأحداث الكبرى مثل انقلاب 15 يوليو 2016 على فهم السياسة التركية والعالمية.

كما يطرح تساؤلات حول الدور المتغير للغرب في السياسة العالمية بعد فشل مشاريعه في الشرق الأوسط، خاصة في سياق الأزمة السورية والإنجازات السياسية في غزة.

وفيما يلي نص التقرير:

في الآونة الأخيرة، بدأت المنشورات الجديدة عن اللوبيات، والتي يُعتقد أن لها تأثيراً على الحياة السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية، تخرج عن الأطر التقليدية والأفكار المألوفة. وفي تركيا كانت بعض الشخصيات والدوائر تعمل مع هذه اللوبيات بزعم أنهم يمثلون تركيا. وقد برزت هذه اللوبيات بشكل كبير خلال حقبة الحرب الباردة، حيث تم توجيه رسائل قوية إلى جميع أنحاء العالم حول قوة اليهود في الولايات المتحدة. ووفقًا للفهم السائد آنذاك، كانت اللوبيات تُشكل محور النظام السياسي، وكان من يرغب في التأثير على السياسة الأمريكية مضطرًا لإقامة علاقات وثيقة معها. وقد بلغ نفوذها مستوىً أثار الغيرة والتنافس. 

 

أعتقد أن الحملات الدعائية المرتبطة باللوبيات بدأت تشكل الأجندة منذ ثمانينيات القرن الماضي، وخلال عهد أوزال ترسخت قناعة بأنه لا يمكن التأثير في السياسة الأمريكية دون التواصل مع هذه اللوبيات. ولكن لا تتوافر معلومات دقيقة حول حجم الأموال التي أُنفقت في هذا السياق منذ تلك الفترة، إلا أن الاعتقاد الراسخ بشأن قوة اللوبي اليهودي أدى إلى إعادة تشكيل التصورات بشأن إسرائيل. وقد تم الترويج لفكرة أن التعامل مع اللوبيات أمر لا مفر منه، إلا أن هوية الجهات التي شاركت في هذه الدعاية وعلاقاتها وأفكارها ظلت دائما طي الكتمان.

وترجع سهولة تسلل التصورات المرتبطة بنفوذ اللوبي اليهودي إلى المجال السياسي التركي واتساع نطاق تأثيره، إلى عوامل بنيوية عميقة، ففي ثمانينيات القرن الماضي انتشرت منشورات مثيرة للجدل حول اليهودية والماسونية، وسادت حالة من الخوف من منظمات سرية يُعتقد أنها تسيطر على النظام العالمي. غير أن التصورات حول تأثير اليهود على السياسة الدولية تعود إلى فترات تاريخية أسبق، فكانت هناك استمرارية في هذا المجال. وبالتالي لم يكن من الصعب الترويج لنفوذ اللوبيات الأمريكية داخل النظام السياسي في الثمانينيات. وأعتقد أن أتباع تنظيم "غولن" الإرهابي انخرطوا في علاقات الشبكات العالمية خلال هذه الفترة، وأقاموا علاقاتهم عبر قناة كانت تعمل بالفعل في تركيا. صحيح أن الأموال التي أُنفِقت على هذه اللوبيات كانت ذات أهمية، إلا أن المشكلة كانت أعمق من ذلك، فقد بنيت الهيمنة الليبرالية الأمريكية على تركيا على أسس متينة للغاية.

يمثل الخامس عشر من يوليو/تموز 2016 ثورة عظيمة، ولكن تأثير التغيرات التي أحدثها على عالمنا الفكري سيُطرح للنقاش حتمًا في فترات لاحقة. واليوم لا بد من تحطيم الصور النمطية في تركيا لطرح العديد من العناوين الجديدة وتقييمها من منظور مختلف. إن مفهوم الحرية في تركيا يخضع لنقاشات ضيقة للغاية، وبسبب استغلاله المفرط من قبل المعارضة لم يُسلَّط الضوء على ماهية القوالب التي تم تحطيمها بعد الخامس عشر من يوليو. ونتيجة لذلك تمت التضحية بالتأثير "الثوري" لـ "رجب طيب أردوغان" في نقاشات عقيمة، في حين أن هذا التأثير إذا نُوقِش في سياق النظام العالمي، سيتيح ظهور رؤى جديدة تمامًا. أما اليوم، فلا أعلم إن كان هناك أحد لا يزال يبدد أمواله على اللوبيات اليهودية، ولكن كما كشفت بعض المنشورات التي أشرتُ إليها في البداية، فإن النظام الذي تتداخل فيه هذه اللوبيات بات موضع مساءلة جادة. ويوضح نورمان فينكلستين في كتابه "صناعة الهولوكوست"، بالتفصيل كيف قامت اللوبيات اليهودية بابتزاز الدول الأوروبية وانتزاع الأموال منها عنوة.

إن ما يطرحه كل من فينكلستاين وبابيه حول اللوبيات اليهودية يشير إلى واقع يتجاوز التصورات النمطية السائدة. لا أحد ينكر قوة هذه اللوبيات، ولكن النقاش بات يدور حول هوية القوى الفعلية المهيمنة على النظام، وقد اتضح أن هذه اللوبيات ليست سوى مؤسسات وسيطة بالمعنى الحقيقي، وقد بدأنا نرى الصورة بشكل أوضح مع تولي ترامب زمام الأمور، ففي الماضي كانت اللوبيات اليهودية منخرطة في الأنشطة الصهيونية وتنتزع الأموال من الأوروبيين بالقوة، لكنها في واقع الأمر كانت تتحرك داخل المنظومة الأمريكية الحاكمة. ولم تكن هذه اللوبيات قادرة على الضغط على الأوروبيين أو غيرهم إلا بمقدار ما يسمح به النظام أو بما يتوافق مع مصالحه، فالأموال التي كانوا يحصلون عليها لم تخرج عن إطار المنظومة نفسها. أما اليوم، فلم تعد هناك حاجة إلى وسطاء، فالأوروبيون يتعرضون بشكل مباشر لضغوط المؤسسة الأمريكية الحاكمة. 

لقد قادت الولايات المتحدة العديد من الدول الأوروبية واحتلت العالم الإسلامي لمدة ثلاثين عامًا. وحتى وقت قريب، كانت هناك توقعات بتفكك العديد من الدول وتقسيم منطقتنا إلى دويلات صغيرة، وبدء حقبة استعمارية جديدة. وقد استثمروا كل أموالهم في هذا المخطط، وقامت التنظيمات التابعة مثل تنظيمي "غولن" و "بي كي كي" الإرهابيين ببناء تصوراتها المستقبلية على هذا الأساس، وتشكلت الأنماط الفكرية وفقًا لهذا التصور. ومن هنا فإن الإنجاز الذي حققه أهل غزة يجب أن يُنظر إليه في سياق أوسع، كما أن الثورة السورية لا ينبغي أن تُختزل في مشاكلها اليومية، فقد انهارت "الرؤية" الأميركية تجاه العالم الإسلامي واعترفوا بفشلهم. والآن حان دور الأوروبيين، إما أن يعبروا الجسر الأمريكي مقابل ثلاثين عملة، أو أن يدفعوا أربعين عملة بعد تلقي الضربات.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!